الاختلاف بين السابقين واللاحقين

الحمد لله الذى لم يتخذ ولداً ، ولم يكن له شريك فى الملك ، ولم يكن له ولى من الذل وكبره تكبيراً ، والصلاة والسلام على رسوله الذى أرسله للعالمين بشيراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ..

أما بعد :

فإن الناس فى أول أمرهم، قد أتى عليهم حين من الدهر كانوا فيه أمة واحدة ! قال تعالى: “كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ” ( البقرة : 213) وقال: ” إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ” ( الأنبياء : 92 ) .

قال ابن عباس رضى الله عنهما : ( كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام ) ثم فرقت الشياطين بينهم حتى فرقت بين المرء وزوجه ، وبين الرجل وأمه ! وظلت الفرقة تزداد يوماً بعد يوم ، كلما اتبع الناس خطوات الشيطان ، وغفلوا عن تحذيرات القرآن المتعاقبة فى سوره وآياته التى بينت أن الفرقة شر وعذاب ، وقد نهاهم ربهم عنها : ” وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ” ( آل عمران : 105 ) .

والله عز وجل – وحده – هو الذى يؤلف بين القلوب : ” هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ” (الأنفال : 62 ، 63 ) .

وهو سبحانه لو شاء جعل الناس أمة واحدة ، كما قال: ” وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً” ( هود : 118 ) .

والاختلاف فى أصله ليس رحمة ، بل هو كما وصفه الله : ” وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ *إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ” ( هود : 118 ، 119 ) .

ونظراً لاختلاف الناس فى الفهم والإدراك وتفاوتهم فى نعمة العقل والذكاء ، فالناس ليسوا سواء ! نظراً لذلك فإنهم يختلفون حتماً بحسب ما آتاهم الله من ذلك .

والاختلاف الذى نتحدث عنه له أقسام وأسباب : فأما أقسامه : فهو ينقسم إلى قسمين :

الأول منهما : اختلاف فى الأصول ( العقيدة وما يتعلق بها ) .

وهذا تنقسم فيه الأمة إلى: فرقة ناجية. وفرقة ضالة فأما الفرقة الناجية فهم: أهل السنة والجماعة، وهم: الصحابة والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين، فمن كان على عقيدتهم وطريقتهم فهو على الحق الذي لا شك فيه ولا ارتياب !

وأما الفرق الضالة، فهى: بقية الفرق الأخرى كالجهمية، والرافضة، والمعتزلة، والأشاعرة، وغير هؤلاء .

وأما المارقون من الدين كالعلمانية والماسونية والقاديانية والأحمدية وغيرهم من الملاحدة كالبهائية وغيرها ، فليس حديثنا متعلقاً بهم ولا دائراً حول فلكهم ، لأن كفرهم لا يحتاج إلى برهان ، وضلالهم غني عن البيان !! والحديث عنهم يأتى استقلالاً ، لأنه يخرج عن موضوعنا . وإنما نتكلم – هنا – عن الاختلاف الواقع فى داخل الأمة لا خارجها ، وما أشرنا إليه يبين لنا فى وضوح : أن المسلم يجب عليه أن يبحث عن الفرقة الناجية حتى يلحق بأهلها ويسير في ركبها ، وهذا لا يعني – بالضرورة – أن يبحث عن أشخاص معينين أو جماعة بعينها ، وإنما يبحث عن منهج الإسلام السوى الذى جاء مُبينا فى الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة ، والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها .

ويقال لمن انتسب إلى الفرقة الناجية إنه على الحق، ومن خالفها فهو على ضلال: ” فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ” ( يونس: 32 ) وهذا النوع من الاختلاف يسميه العلماء: اختلاف تضاد.

وأما القسم الثاني من أقسام الاختلاف ، فهو اختلاف فى المسائل الفقهية القولية والعلمية فيما يتعلق بالعبادات والمعاملات والحدود ونحو ذلك .. وهو اختلاف جائز شروطه وضوابطه ، وهو الذى كان يقع بين السلف . ويسميه العلماء : اختلاف تنوع .

والحق فيه أيضاً – كسابقه – لا يتعدد ، لكنه قد لا يكون مع قول بعينه خاصة فى مسائل الاجتهاد ، ويسمى أحد الأقوال فى هذا القسم من الاختلاف راجحاً بحسب الأدلة ، ويكون القول أو الأقوال الأخرى فى نفس المسألة مرجوحة ، ولا يقال حق وضلال كما هو الشأن فى القسم الأول المتعلق بأصول الاعتقاد، وقد ذكر الله لذلك مثلاً واقعياً فى كتابه كما قال تعالى: “وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ *فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا ءَاتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ” ( الأنبياء : 78 ، 79 ).

وينقلنا الحديث عن الاختلاف إلى بيان أسبابه : وقبل أن نخوض فى هذا البيان ، فإننا نلفت النظر بشدة !! إلى ذلك الفرق الأساسى بين السابقين واللاحقين ، أو إن شئت فقل : بين السلف والخلف .

فإنهم – رضى الله عنهم – كانوا يختلفون عن علم ، ونحن – هدانا الله – نختلف عن جهل وهوى !! وشتان بين السببين ، والفريقين، والعاقبتين ، والثمرتين !!

من أجل ذلك ، فإننا نذكر أسباب الاختلاف عندهم ، ثم نتلوها ببيان أسباب الاختلاف عندنا ..

* أسباب اختلاف السلف ( السابقين ) :

ذكر ابن تيمية – رحمه الله – أن هذه الأسباب تجتمع فى ثلاثة :

أولها : اعتقاد عدم ثبوت النص .

وثانيها : اعتقاد عدم انطباق النص على المسألة المتنازع عليها .

والثالث : اعتقاد نسخ الحكم .

ولأن اختلافهم – رحمهم الله – كان على علم وبصيرة ، فإنه لم يترتب عليه فرقة ولا قطيعة ولا تدابر أو تناحر أو تشاحن أو تخاصم ، اللهم إلا شيئاً يسيراً لا يعول عليه ، ولا يلتفت إليه

وإنما عاشوا كذلك ، لأنهم أخلصوا دينهم لله ، واعتصموا به ، وآتاهم الله علماً وفهماً – وهم الأميون – وإنما الجزاء من جنس العمل .

* أسباب اختلاف الخلف ( اللاحقين ):

الأول : قبض العلم .. وقد بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- ذلك فى قوله : ” إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، وإنما يقبض العلم بقبض العلماء ( أى بموتهم) حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فَسُئِلُوا فأفتوا بغير علم ، فضَلوا وأضلوا ” إنها معجزة واضحة قد تحولت إلى حقيقة واقعية ، فقد مات العلماء فعلاً ، وبقى المنتسبون إلى العلم ، وفرق كبير بين عالم اليوم ، وعالم الأمس ، ولما رفع العلم بقبض العلماء وزاد الجهل بزيادة الجهلاء ، واختلط الأمر على الناس اختلاطاً عظيماً ، واستوى عند كثير منهم أن تكون الفتوى صادرة عن روزاليوسف أو عن شيخ الأزهر !! ووجد فى المسلمين اليوم طائفة تصدق كل من يفتيها سواء كان لاعب كرة أو فناناً أو صحفياً أو مواطناً صالحاً ! ومن كان له قلب يتدبر به ، فإنه سيجد أن القرآن قد قسم المسلمين إلى طائفتين فى جميع التخصصات :

  1. أهل الذكر
  2. الذين لا يعلمون

ثم فرض على الطائفة الثانية أن تسأل الأولى فقال: ” فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ” (النحل : 43 ، الأنبياء : 7 ) وحرم على الثانية أن تتكلم بغير علم فقال : ” وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ” ( الإسراء : 36 ) .

فلو سأل كل مسلم نفسه : هل أنا من أهل الذكر فى المسائل الشرعية ؟ لكان الجواب الصادق على لسان كثير منهم : بل أن من الذين لا يعلمون !!

الثانى : من أسباب اختلاف المسلمين اليوم : نقص الإيمان ، كما بين ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فى قوله : ” يذهب الصالحون الأول فالأول ، ثم تبقى حثالة كحثالة الشعير أو التمر لا يباليهم الله باله ” والحثالة : البقية الرديئة ، ومعنى ” لا يباليهم الله باله ” : أى : لا يقيم لهم وزناً !! والحديث يخبر يقيناً بذهاب الصالحين ، أى : موتهم ! ويبقى ضعاف الإيمان من أمثالنا لا يقيم الله لهم وزناً !! ومن المعلوم أن ذهاب العلماء ( أى : موتهم ) يثمر نقص العلم ووفرة الجهل ، وكتب العلوم الشرعية – اليوم – تشكو إلى الله قلة قارئيها ، وكثرة مالكيها ! وكذلك فإن ذهاب الصالحين ( أى : موتهم ) يثمر نقص الإيمان وضعفه فى القلوب، وهذا يفضى إلى اتباع الهوى .

نسأل الله أن يدخلنا برحمته فى عباده الصالحين ، إنه ولى ذلك والقادر عليه ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .