الحمد للَّه .. والصلاة والسلام على رسول اللَّه .. وبعد :
فإن المسلم يجد نفسه أحيانـًا قد قوي إيمانه ، وزاد يقينه ، فازداد إقبالاً على ربه ، ومسارعة إليه ، ومنافسة لغيره في الطاعات والخيرات .
وفي حين آخر يرى في نفسه تهاونـًا وضعفـًا، وإهمالاً وتركـًا، فيعتريه الكسل والملل.
وهو في هذا الحال من ضعف همته ، وانهيار عزيمته إما أن يلجأ إلى اللَّه فيحظى بتوفيقه وعنايته ، حتى يعود إلى سيرته الأولى، وإما أن يخلد إلى الأرض ، ولا يؤدي إلا الفرض ! فيفضي به ذلك إلى البعد والانحراف – والعياذ باللَّه – من أجل هذا كان هذا الحديث عن الفتور ، وهو مرض خطير ، وداء كبير يصيب السالكين إلى اللَّه من الدعاة وطلبة العلم وغيرهم من المؤمنين ؛ نقول مستعينين باللَّه :
* الفتور لغة : ضعف وانكسار :
قال الراغب : الفتور سكن بعد حدّة ، ولين بعد شدّة ، وضعف بعد قوة .
فالفتور : كسل وتراخ وتباطؤ بعد جدٍّ ونشاط وحيوية .
* الفتور كما ذكره القرآن الكريم والسنة :
قال تعالى عن الملائكة : { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } [ الأنبياء : 20 ] .
وقال عنهم : { يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون } [ فصلت : 41 ] .
وقال عن أهل النار : { لا يفترِّ عنهم وهم فيه مبلسون } [ الزخرف : 75 ] .
وقال سبحانه : { يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل } [ المائدة : 19 ] .
* وفي السنة الصحيحة : ما رواه البخاري ومسلم من حديث أنس ، رضي اللَّه عنه ، قال : دخل رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- المسجد، فإذا حبلٌ ممدود بين ساريتين، فقال: ((ما هذا الحبل ؟ )) قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت به، فقال-صلى الله عليه وسلم- : ((حلُّوه ؛ ليصلِّ أحدكم نشاطه ، فإذا فتر فليرقد )) .
* قال ابن القيم، رحمه اللَّه: تخلل الفترات للسالكين أمرٌ لا بد منه ! فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد، ولم تخرجه من فرض، ولم تدخله في محرم رجي له أن يعود خيرًا مما كان.
والمتتبع لأقوال أهل العلم في مسألة الفتور يرى أنهم جعلوها مرحلة بين الالتزام والانحراف !
فالمسلم يكون ملتزمـًا بالكتاب والسنة على خير الوجوه ، فيؤدي الفرائض والنوافل ، ويشارك في الدعوة إلى اللَّه بقدر ما يستطيع ، ويرى في نفسه همة ونشاطـًا وإقبالاً على اللَّه وعلى القرآن .
وقد يكون المسلم منحرفـًا فاسقـًا معرضـًا مقيمـًا على المعاصي ، أما المسلم الفاتر ! فهو يكتفي بالفرائض دون أن تغير من واقعه شيئـًا ، أو تدفعه إلى الأمام ، أو تقوي همته ، وتشحذ عزيمته ، وقد وقف في وسط الطريق بين الملتزمين والمنحرفين ، ويحتاج كل مسلم أن يعرف نفسه إن كان مصابـًا بمرض الفتور – وهو من أمراض القلب – أم لا .
من أجل هذا وضع العلماء للفتور علامات يعرف بها ، من أهمها :
1- التكاسل عن العبادات والطاعات ؛ وهذا لا يعني ترك الفريضة وإلا كان فاسقـًا عاصيـًا، ومع هذا فهو متشبه بالمنافقين – وإن لم يكن منهم – حيث إنهم : { .. لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون } [ التوبة : 54 ] .
2- الشعور بقسوة القلب وخشونته ؛ قال اللَّه عز وجل : { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر اللَّه وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون } [ الحديد : 16 ] .
وعلامة قسوة القلب عدم التأثر ! وأهم المؤثرات ثلاثة : القرآن ، والموت ، والوعظ ؛ فالقلب القاسي لا يتأثر بشيء من هذه الثلاثة عند استماعها أو قراءتها أو رؤيتها !!
3- عدم استشعار المسئولية الملقاة على عاتقه ؛ فهو لا يحمل همّ الدعوة ، ولا يشغله ما آل إليه حال الأمة من تمزق وضياع وبعدٍ عن اللَّه .
4- الاهتمام بالدنيا والانشغال بها بطريقة تفسد الآخرة ، وتمنع الاستعداد للقاء اللَّه ! والدنيا حلوة خضرة ، وقلّ من ينجو منها !
5- كثرة الكلام فيما لا ينفع ، وإضاعة الوقت بغير فائدة ، فمجالس الطائعين تتميز بذكر اللَّه، ومجالس العصاة تعرف بالمعاصي ، ومجالس الفاترين معظمها لغو الحديث .
6- الاستهانة بصغائر الذنوب ؛ وهي ذنب أعظم من الذنب ! وهي أيضـًا من علامات ضعف الإيمان .
7- التسويف والتأجيل مع الإخلاد إلى الأرض ، ومن تدبر قول اللَّه عز وجل : { وقالوا لا تنفروا في الحر .. } [ التوبة: 81 ] ، فهم حقيقة التسويف.
وهذا القدر الذي ذكرناه هو أهم أعراض مرض الفتور ، فمن وجد شيئـًا منها في نفسه ، فليعلم أنه مصاب بهذا المرض ، وهذا يعني أن للفتور أسبابـًا تؤدي إليه ، ومن أهمها :
* أسباب الفتور :
1- عدم الإخلاص ، أو عدم مصاحبته ، وتحقيق الإخلاص الخالي من الشوائب ، وحظ النفس هو أشق شيء على النفس .
2- ضعف العلم الشرعي ؛ ومن المعلوم أن العلم النافع يورث الخشية : { إنما يخشى اللَّه من عباده العلماء } [ فاطر : 28 ] .
3- تعلق القلب بالدنيا ، ونسيان الآخرة ؛ وعلامة ذلك حديث اللسان !! فإن اللسان يكرر الحديث عن أهم ما في القلب ، فإن كان القلب مشغولاً بالآخرة كثر حديث اللسان عنها ، والعكس بالعكس ؛ قال الشاعر :
إن الكـــلام لفـي الفـؤاد وإنــــ ــما جعل الفؤاد على اللسان دليلاً
4- فتنة الزوجة والأولاد ؛ بتقديم ما يحبونه على ما يحبه اللَّه عند التعارض ؛ قال تعالى : { إن من أزواجكم وأولادكم عدوًّا لكم فاحذروهم } [ التغابن : 14 ] .
5- الحياة في الأجواء الفاسدة ( التأثر بالبيئة ) ؛ وتدبر في ذلك كيف بين رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- في قصة الرجل الذي قتل مائة نفس ، ثم سأل عالمـًا عن توبته ، فأرشده إلى الهجرة من قريته ( بيئته ) إلى قرية ( بيئة ) أخرى .
6- مصاحبة ذوي الإرادات الضعيفة ، والهمم الهابطة ؛ وهذا يؤدي إلى موت الهمة ، وضعف العزيمة ، وعلامة ذلك ما تراه في كثير من المسلمين الذين يحصرون تفكيرهم في تدبير الأقوات والنفقات وتحسين الدخل وتأمين مستقبل الأبناء !!
7- المعاصي والمنكرات وأكل الحرام .
قال ابن القيم ، رحمه اللَّه : ( ومن عقوباتها – أي المعاصي – أنها تضعف سير القلب إلى اللَّه ، والدار الآخرة ؛ أو تعوقه ، وتوقفه، وتعطفه عن السير ؛ فلا تدعه يخطو إلى اللَّه خطوة ، هذا وإن لم ترده عن وجهته إلى ورائه ؛ فالذنب يحجب الواصل ويقطع السائر ) .
8- عدم وضوح الهدف ؛ فكثير من الناس اليوم يعيش في الحياة بلا غاية ، أو بغايات دنيئة !! فهو لا يفهم الغاية ، ولا يفكر في النهاية !
9- العقبات والمعوقات التي يضعها المجتمع في طريق الدعاة ، وهذه سنة من سنن اللَّه في خلقه وكونه ؛ قال تعالى : { أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتنون } [ العنكبوت : 2 ] .
10- الفردية وترك الجماعة ؛ وهذه العزلة من أشد الأسباب خطرًا وضررًا .
11- الجمود في أساليب وطرق الدعوة ؛ وذلك بالاقتصار على بعضها دون بقيتها .
12- الانحراف عن مسار الهدف الصحيح ؛ وهذا مشاهد عند من تحولت الدعوة عندهم من رسالة إلى وظيفة .
13- ضعف التربية ؛ وهذا السبب قد أوجد خللاً واضحـًا في المجتمع المسلم ؛ وعلامته التي يمكن أن يعرفها المسلم من نفسه هي أن يكون ظاهره خير من باطنه !
* علاج الفتور :
لكل داء دواء ، والفتور مرض خطير ، وقد وضع العلماء له علاجـًا يقضي على أسبابه ، ويمحو آثاره ، فمن ذلك :
أولاً : تعاهد الإيمان وتجديده ؛ قال رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- : (( ما من القلوب قلب إلاَّ وله سحابة كسحابة القمر ، بينا القمر مضيء إذ علته سحابة فأظلم ، إذ تجلّت عنه فأضاء)) .
ثانيـًا: مراقبة اللَّه، والإكثار من ذكره؛ ولا تتحقق المراقبة إلا بالمصاحبة، فمن لازم المراقبة أدرك الغاية ، وحسنت النهاية .
ثالثــًا: الإخلاص والتقوى، وهذا أصل الأصول وسبب النجاة.
رابعـًا: تصفية القلوب من الأحقاد والحسد وسوء الظن، وسائر الأمراض التي تصيب القلب؛ فإذا صفا القلب سار صاحبه إلى اللَّه في سهولة ويسر لا يتوقف ولا يتراجع.
خامسـًا: استمرار الصلة بين العاملين في حقل الدعوة إلى اللَّه ؛ وهذا علاج مهم يقوي العزائم ، ويدفع الهمم ؛ ويتحقق هذا بالزيارة والتماس الأعذار ، مع حسن الظن ، والمصارحة في كل مطارحة .
سادسـًا: طلب العلم ، والانتظام في مجالسه .
سابعـًا: تنظيم الوقت ، ومحاسبة النفس ؛ فكم من ساعات تنفق في المعاصي ، ومثلها في اللهو واللغو ، وأخرى في المباحات ، والكيس من دان نفسه .
ثامنـًا: الوسطية والاعتدال؛ فالغلو والتشديد على النفس باب الملل وترك المداومة، والتساهل والتفريط باب الانحراف.
تاسعـًا: لزوم الجماعة في كل طاعة مع الاستطاعة .
عاشرًا: التربية الشاملة الكاملة؛ وذلك بالتصفية من الرذائل والتحلية بالفضائل؛ وطهارة الباطن تسبق طهارة الظاهر.
حادي عشر: القدوة الصالحة، ومصاحبة الأخيار.
ثاني عشر: الدعاء والاستعانة باللَّه، والحذر من العجز.
ثالث عشر: الإكثار من ذكر الموت، والخوف من سوء الخاتمة.
وبعد: أيها القارئ الكريم .. استحلفك باللَّه أن تعيد قراءة المقال، وأن تعرض نفسك عليه، وتقارن ما جاء فيه بالواقع الذي تعيشه، ثم تختار لنفسك ما هو أنفع لك في دينك ودنياك.
وصلى اللَّه وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .