اقتضت حكمة الله البالغة أن يجعل الرسالة الخاتمة باقية فقيض الله سبحانه لها عوامل البقاء والحفظ إلى أن تقوم الساعة وإن فهم ومعرفة حال الصحابة أحد أهم هذه العوامل لذا فإن الله سبحانه هيأ للمسلمين أن يجعل إجلال الصحابة جزءًا لا يتجزأ من عقيدتهم – عقيدة أهل السنة والجماعة .
فقيض الله الحاسدين والضالين فطعنوا في الصحابة في الأيام الباكرة فانبرى أهل السنة لبيان فضلهم وإظهار ميزاتهم فأصبحت على لسان كل مسلم.
وسطر أهل السنة في عقيدتهم مسألة الخلافة وأن أحق الناس بها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي وضللوا كل من خالف ذلك.
وعرفوا الفضل للصحابة وتفاضلهم فيما بينهم وأحبوهم وأحبوا أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وهم أزواجه وآل علي وآل جعفر وآل عقيل وآل العباس (وكل من حرمت عليه الصدقة) وذكروا محاسن الأصحاب وكفوا عن مساوئهم – وسكتوا عما شجر بينهم لعلمهم أن الجميع مجتهد فمصيبهم له أجران ومخطئهم له أجر الاجتهاد وخطؤه مغفور وأن الله أوجد ذلك بقدره لنتعلم من سلوكهم كيف نسلك عند وقوع الفتن فكانت أقوال أئمة الهدى عنهم نورًا لمن بعدهم يستضيئون به .
فالصحابة كانوا قبل الإسلام في جاهلية فلما أسلموا صاروا طلبة علم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (مرحبًا بطالب العلم فإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع ) ، ثم كانوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم هم أئمة الهدى والعلماء ولم يتيسَّر لجيل بعدهم ما تيسر لهم .
فكل من أراد طلب العلم من أي جيل بعدهم بدءًا بطلب علوم الأدوات أولًا فإن جمعها أمكنه بعد ذلك أن يصبح طالب علم ، أما الصحابة رضوان الله عليهم فبدوءا طلبة علم من أول يوم.
ومرجع ذلك أن الله هيأ لهم أدوات الطلب فكانت معهم بمجرد لقائهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وأدوات طلب العلم ثلاثة من جمعها جاز له أن يطلب العلم ومن لم يجمعها فهو من العوام يمكنه أن يتعلم على سبيل النجاة ولا يصدق عليه اسم طالب علم .
أدوات الطلب:
أولًا : أن يتوفر له من علوم العربية ما يكفيه لفهم النصوص قرآنًا وسنةً .
ثانيًا: أن يمكنه التعرف على المقبول من المردود من السنة.
ثالثًا: أن يعرف من القرآن أحكام تلاوته وما يتعلق بالنص القرآني أداءً وفهمًا.
والصحابة رضوان الله عليهم كانوا عربًا أهل اللغة وأربابها لهم فيها السبق والباع والطويل وكانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فكل ما يسمعونه مقبولًا ليس فيه مردود بل كله يقيني الثبوت ليس فيه راجح ومرجوح وقد تلقوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم فأتقنوا أحكام التلاوة وما يتعلق بها – أما غير الصحاب فيبذلون السنين والأعمار لتحصيل الأدوات ثم يقصر باعهم عن إدراك الصحابة في بداية أمرهم بالإسلام ، فسبحان من قيض لذلك الدين وأهله ما كان سببًا لحفظه .
فلا يظن أحد أن كل من حمل معه كتابًا أو قلمًا صار للعلم طالبًا ، لابد أن يجمع أولًا أدوات الطلب وينبغي أن نفرق بين طالب العلم ، وبين المتعلم على سبيل النجاة ، فطالب العلم منزلته رفيعة نسب كثير من الأئمة والعلماء أنفسهم لها تشريفًا ورفعة ، أما التعلم على سبيل النجاة فهو الواجب على كل مسلم لينجي عمله من الرد والبطلان وينجي نفسه من النار . وبسط ما يلزم المتعلم على سبيل النجاة يحتاج إلى موضع آخر لعل الله أن يعين عليه وييسره إنه على كل شيء قدير .
الأمر الثاني : أن الصحابة صاروا بانتقالهم من الجاهلية إلى الإسلام ومن الكفر إلى الإيمان وبصحبتهم لرسول الله عليه الصلاة والسلام صاروا من بعده أئمة الهدى وعلماء الأمة الذين يقتدي بهم ولا يتسير ذلك لغيرهم بمثل ما تيسر لهم .
وبيان ذلك في أربعة أمور :
الأول: أن الصحابة كانوا في الجاهلية أهل فصاحة وبلاغة جعلتهم لما سمعوا القرآن الكريم أدركوا معانيه وعرفوا وفقهوا فيه لأن الفصاحة والبلاغة كانت لهم جبلة.
كيف لا والكفار منهم قد أذعنوا بالفضل للقرآن مع كفرهم وحسدهم وإغلاق بصائرهم ، فالذين آمنوا أدركوا إدراكًا واسعًا وفهموا أفهاما دقيقة .
الثاني : أن الصحابة عاشوا الجاهلية ثم انتقلوا إلى الإسلام فلم ينخدعوا بالجاهلية بعد لأنهم عرفو الشر الذي بعث الله رسوله لهدمه فعرفوا حكم الجاهلية وحمية الجاهلية وظن الجاهلية وتبرج الجاهلية وربا الجاهلية وكل أمر الجاهلية الذي وضعه رسول الله تحت قدميه في خطبته في حجة الوداع ، لذا فإنه ينسب إلى عمر رضي الله عنه قوله : (تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في السلام من لا يعرف الجاهلية ) .
الثالث : أن الصحابة رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاينوا التنزيل – أي رأوه يقضى في المسائل ويقضى في الأقضيات ورأوه يعمل بنصوص الإسلام فرأو النبي صلى الله عليه وسلم متوضأ ورأوه مصليًا ورأوه متصدقًا ومزكيًا ورأوه حاجًا وصائمًا رأوه في داخل بيته أبًا وزوجاته شاهدنه زوجًا معاشرًا في خلوته وجلوته . روأه في غسله وغائطه رأوه في حيائه وخلقه رأوه في طعامه وشرابه رأوه مجاهدًا وداعيًا وخطيبًا وواعظًا رأوه على كل حال وعاينوا أسباب النزول فكانوا أقدر الناس على نقل الأحكام إلى المسائل وتقريب الأفهام الشرعية لمن بعدهم وهذا ما لم يقصر الصحابة في بيانه بل ضحوا وبذلوا الجهد الكبير فيه .
الرابع : أن الصحابة قدر الله لهم أن بقوا معًا في المدينة أعوامًا تزيد عن ثلاثة عشر عامًا قبل أن يؤذن لهم في الهجرة إلى بلاد المسلمين المفتوحة فمنع عمر خروجهم ثم لما استأذنوا عثمان أذن لهم ، فكانوا لا يخرجون في زمان عمر إلا بإذنه ولعمل محدد بعينه ثم يعودون فجالس وعايش الأصحاب بعضهم بعضًا يرى كل منهم من الآخر ويسمع فينقلون العلم وينقلون الفهم ويتوارثون العمل وإذا وقع أمر أردوا فيه القضاء تشاوروا حتى صاروا أوعية مملوءة علمًا وحكمةً وقيض الله عثمان فأذن لهم بعد أن نضجوا فانتقلوا في الأمصار فانتشر بهم العلم في سائر البلاد . ولو أنهم انتقلوا قبل النضج ما نشروا ذلك العلم كله .
ولو أنهم حبسوا أكثر من ذلك لمات العلم مع موتهم فسبحان الحكيم العليم جعل الصحابة من أهم دعامات ذلك الدين. فاللهم ارض عنهم وألحقنا بهم على الصالحات يا رب العالمين واجعل حبنا لهم في ميزان حسناتنا واجمعنا بهم في الجنة فأنت على كل شيء قدير .
والله من وراء القصد