الصحابة أئمة الهدى (2)

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه وسلم، وبعد.

فلقد تحدثنا في العدد الماضي حول أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكيف أنهم بدءوا طلبة علم، ثم صاروا أئمة فقه.

ونحن اليوم نتحدث في إشارات عاجلة كيف يسر الله سبحانه فكانوا عصمة للأمة وهداية لها ، فجعل هذا الجيل خير القرون ؛ ليكونوا مرجع الأمة في هذا الدين علمًا وفهمًا وعملًا .

ساق مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال : صلينا الـمغرب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ، ثم قلنا : لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء . قال: فجلسنا، فخرج علينا فقال: (أما زلتم هاهنا) قلنا: يا رسول الله ! صلينا معك الـمغرب، ثم قلنا: نجلس حتى نصلي العشاء. قال: (أحسنتم) أو قال: (أصبتم) قال: فرفع رأسه إلى السماء، وكان كثيرًا ما ينظر إلى السماء. فقال: (النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد. وأنا أمنة لأصحابي ، فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعدون . وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون) .

فالله جعل الصحابة عصمة للأمة من الفتنة ، وإنما وقع ذلك بعوامل الله سبحانه قدرها لهم حماية للأمة من الفتن ، نذكر منها :

أولاً : الحافظة القوية : فلقد كان الصحابة عربًا ، وقد ميز الله العرب بالحافظة القوية التي عُرفت لهم قبل الإسلام ، حيث كانوا يتناشدون الأشعار في أسواقهم (عكاظ وذي الـمجاز ومجنة وغيرها…) فيشهدها الشعراء ، فيحفظون ذلك كله في صدورهم لسماع واحد . والأمثلة على حفظ العرب في الجاهلية قوية كثيرة واضحة في تلك الأشعار، فلم تكن لهم دواوين إلا الصدور. حتى أن الشاعر إذا عُرف عنه القراءة والكتابة سقط من أعين النُقَّاد؛ لأن ذلك يعني أنه دون وكتب ليحفظ ولم يعتمد على السماع فقط.

فلما دخلوا في الإسلام بقيت الحافظة قوية بل زادت قوة؛ لأنهم انتقلوا من كفر إلى إيمان شرح صدورهم، ومن شرك إلى توحيد نوَّر بصائرهم، ومن معصية إلى طاعة يسرت عليهم أمرهم. فالله يشرح الصدور، وينور البصائر، وييسر كل عسير بالإيمان والتوحيد والطاعة. وكذلك لما علموا أنهم يؤجرون من الله على حفظ الدين ونقله وتبليغه زادت همتهم ، وقويت عزائمهم فحفظوا أكثر مما يحفظون ، وجمعوا في صدروهم بأقصى ما يستطيعون ؛ لأن المولى سبحانه وتعالى قال : ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) [يوسف : 108] ، يقول سبحانه لزوجات النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم : ( وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءَايَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ) [ الأحزاب : 34] .

ويقول صلى الله عليه وسلم : ( بلغوا عني ولو آية ) ، ويقول عليه الصلاة والسلام : ( نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها ) .

فصار الحفظ والتبليغ عند القوم دين وشرع، ينالون من الله الأجر والثواب عليه، فقويت الحافظة بالإيمان والأجر الذي وُعدوه من الله صادق الوعد، فنقلوا الدين كله نقلًا أمينًا لـمن بعدهم. فصيرهم الله بذلك عصمة للأمة من ضياع الدين في نصه كما بلغه رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، ولما عُرف الصحابة بذلك صاروا مصدر تلقي ذلك الدين كاملًا غير منقوص، سالمًا من التحريف والتبديل.

ثانيًا : وحدة التلقي : فالصحابة كانوا في الجاهلية مغمورين فيها ، فلما انتقلوا إلى الإسلام عرفوا نعمة الله في ذلك الدين ، وعلموا أن العقول لم تكن لهم عصمة ، فهم بالعقول في الجاهلية حموا العصبية الجاهلية والكفر ، بل وحموا مساوئ الأخلاق وسفكوا الدماء وأشاعوا الفحشاء ، ولم تكن العقول عندهم تستنكر ذلك . فجعلوا ضوء الشرع عندهم في نصه وفقهه مقدمًا على كل شيء ، فصاروا يسألون رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم في كل أمر ، فإذا سمعوا منه قولًا لم يقدموا عليه شيئًا ، حتى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أصاب صحيفة من أهل الكتاب يقرأ فيها غضب النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وقال : (أمتهوكون فيها يابن الخطاب ، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية ) ، ثم قال : (والذي نفسي بيده لو كان موسى حيًّا ما وسعه إلا أن يتبعني ) .

فكان الشرع هو الحكم على كل قول حتى لو استساغته العقول ، فإنهم قالوا في الجاهلية بعقولهم : ( أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) [ص : 5]  .

فالعقول لا تزكو وتفهم إلا بشرع الله سبحانه ، فشرع الله حمى العقول من الضلال . فصحابة النبي صلى الله عليه وسلم لما خرجوا من جاهلية كانت عندهم معقولة ، ودخلوا في الإسلام ، عرفوا أن عصمة العقول في اتباع الشرع ، فجعلوا عقولهم لشرع الله تبع ، فإذا جاءهم القول من الله ورسوله سلموا وامتثلوا .

ثالثًا : وحدة المرجعية : لقول الله تعالى : ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) [ النساء : 65] . فكان الحكم في كل أمرهم لما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يصدرون إلا عن رأيه ، ولا ينتزلون إلا عند حكمه ، تدين له أعضاؤهم ، وتسلم قلوبهم تسليمًا كاملًا .

فإذا اشتجر الرجل مع زوجه ، أو مع جاره ، أو مع شريكه ، أو ولده ، أو والده ؛ سلم لحكم رسول الله صلى الله عليه وعلى وآله وسلم ، فهذا عمرو بن العاص يدعو ولده ألا يواصل الصوم والقيام فلم يمتثل ، فلما وعظه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك امتثل واستقام وهذا عثمان بن مظعون يتبتل عن زوجه ، فلما كلمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم امتثل .

بل و هذا عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول لما علم أن أباه قال : ( لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلّ ) [ المنافقون : 8] استأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قتله بنفسه إن كان يريد قتله ، فلما علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقتله سكت . وهكذا الصحابة في كل أمرهم ليس لهم من مرجع يرجعون إليه في الأحكام سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

رابعًا: التلقي للعمل: إن القوم ما تلقوا العلم في دين الله لمباراة العلماء، ولا مجادلتهم، ولا للتحلي به في المجالس. إنما كانوا يتلقون للعمل . فلما سمع أبو طلحة قول الله عز وجل : ( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) [ آل عمران :92] وكان أحب ماله عنده بستان (بيرحاء) أسرع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول : اجعلها يا رسول الله حيث شئت ، ولما سمع عمرو بن الجموع بالجنة ودخول الشهداء فيها – وكان أعرج – سارع بالمشاركة في غزوة أحد ، وقاتل حتى قتل . ولما نزلت آية تحريم الخمر ، وسمع الصحابة تلاوتها كفوا عنها ، وكسروا أوعية الخمر ، وأراقوها في سكك المدينة .

ولما نزلت آية الحجاب بليل وعلم بها النساء من أزواجهن شهدن صلاة الفجر خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد تلفعن بمروطهن ، لم ينتظرن شيئًا ، بل أسرعن بالامتثال . وهكذا كان نبيهم صلى الله عليه وسلم خلقه القرآن . أي ما ينزل من القرآن يصبح له عملًا وصفة وسجية وخلقًا؛ فيعمل به. كذلك الصحابة القرآن منهجهم، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوتهم وقدوتهم وإمامهم.

خامسًا: الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا عدولًا صادقين، أمناء في النقل عَدَّلَهم الله تعالى في كتابه. وَعَدَّلَهم نبيهم صلى الله عليه وسلم في حديثه، فصاروا في النقل أمناء، وفي العمل صادقين، يعملون كما تعلموا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى صاروا المرجع لمن بعدهم من المسلمين.

فهذا ابن عباس يستدل على الخوارج ببطلان عملهم بأنه ليس معهم أحد من الصحابة.

أخا الإسلام : نصوص تعديل الصحابة تملأ كتب السنة والتفسير والأصول ، لكني أكتفي بالإشارة ، ومن أراد التوسع فليقرأ ما كتبه أهل السنة في ذلك .

أخا الإسلام : دين الله كامل وتام ، ومن كماله وتمامه ما كان من شأن الصحابة الكرام من عدالة وحفظ وامتثال لذلك الدين، حتى قال صلى الله عليه وسلم : (وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون) .

وأن من أجلِّ القربات : معرفة منزلة الصحابة وحبهم والسير على منهجهم ، فهم المؤمنون الذين عناهم رب العزة سبحانه في قوله : ( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ) [ النساء : 115] .

والله من وراء القصد ؛ وهو الهادي إلى الصراط المستقيم .