العتق وبر الوالدين

” لا يجزى ولد والداً إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه “

سبق الحديث عن بر الوالدين . والآن نتحدث حول عتق الوالد إذا كان مملوكاً .

حكم الوالد إذا وقع فى ملك ولده :

قال الخطابى : الأب يعتق على الابن إذا ملكه فى الحال ، وإنما وجهه أنه إذا اشتراه فدخل فى ملكه عتق عليه فلما كان الشراء سبباً لعتقه أضيف العتق إلى عقد الشراء إذ كان توالده منه ووقوعه به ( انتهى ) .

وفى حديث سمرة بن جندب وابن عمر أن النبى – صلى الله عليه وسلم – قال : ” من ملك ذا رحم محرم فهو حر ” رواه الترمذى وابن ماجه (1) .

وقال البغوى : إذا اشترى الرجل أحداً من آبائه أو أمهاته أو أحداً من أولاده أو أولاد أولاده أو ملكه بسبب آخر يعتق عليه من غير أن ينشئ فيه عتقاً . وقوله : فيعتقه ، لم يُرد به أن إنشاء الإعتاق شرط ، بل أراد به أن الشراء يخلصه من الرق .

حق الوالد فى العتق من مال ولده :

إذا كان للولد الحر مال يكفى لعتق أبيه المملوك وجب عليه أن يشتريه فيعتقه لحديث جابر بن عبد الله أن النبى – صلى الله عليه وسلم – قال : ” أنت ومالك لأبيك ” (2) ، ولحديث ابن عمر رضى الله عنهما : ” أنت ومالك لوالدك ، إن أولادكم من أطيب كسبكم فكلوا من كسب أولادكم ” (3) .

لكن اختلف العلماء فى غير الوالدين من الأقارب . وإنما وقع الخلاف لأن العباس بن عبد المطلب وعقيل بن أبى طالب وقعا أسيرين يوم بدر وكان لعلى بن أبى طالب نصيب من مغانم بدر ولم يأمره الرسول – صلى الله عليه وسلم – بدفع الدية . وقال بعض أهل العلم : إنما ذلك لأنهما كانا على الكفر ولم يكونا على الإسلام أو لعل ذلك لعلمه – صلى الله عليه وسلم – بالمال الذى ادخره العباس إظهاراً لدلائل نبوته وإقامة للحجة على العباس بذلك .

عتق الرقاب :

وعتق الرقبة يعنى : تحرير العبد . وقد أطلق على الرقبة مع أنه يقع على جميع البدن لأن الملك الواقع عليه كالغل فى رقبته يمنعه من التصرف كالحر . فإذا أعتق فكأن رقبته أطلقت من ذلك الغل .

وفضل عتق الرقبة ثابت بالقرآن والسنة . يقول تعالى: ” فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ “.

وفى حديث أبى هريرة قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ” أيما رجل أعتق امرءاً مسلماً استنقذ الله بكل عضو منه عضواً منه من النار ” ( متفق عليه ) . وعن أبى أمامة رضى الله عنه أن النبى – صلى الله عليه وسلم – قال : ” أيما امرئ مسلم أعتق امرءاً مسلماً كان فكاكه من النار يجزىء كل عضو منه عضواً منه ، وأيما امرئ مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار يجزىء كل عضو منهما عضواً منه ، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار يجزىء كل عضو من أعضائها عضواً من أعضائها “(4).

وعن البراء بن عازب رضى الله عنه قال : جاء أعرابى إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال : يا رسول الله علمنى عملاً يدخلنى الجنة ؟ قال : ” إن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة أعتق النسمة وفك الرقبة ” . قال : أليستا واحدة ؟ قال : ” لا ، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها ، وفك الرقبة أن تعطى فى ثمنها ” رواه أحمد (5) .

والعتق من أفضل القرب إلى الله تعالى ، لذا جعله الله كفارة للقتل وغيره . وأفضل الرقاب للعتق أنفسها عند أهلها وأغلاها ثمناً بعد الوالدين وذوى الأرحام إن كان أحد منهم مملوكاً .

ويسن عتق من له كسب من الرقاب . ويستحب مكاتبة من له كسب ودين قال تعالى : ” فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا  ” ( النور : 23 ) . ويكره عتق من لا قوة له على الكسب ، لأن نفقته تسقط عن سيده فيصبح كلا على الناس يحتاج إلى مسألتهم – كما يكره عتق من جر عتقه سواءاً على المسلمين بسرقة أو زنا أو ردة أو نظائر ذلك ، بل قد يحرم عتقه إذا غلب على الظن المفسدة الواقعة من عتقه . لأن التوسل إلى الحرام حرام . والوسائل لها حكم المقاصد .

الولاء والمولى :

الولاء علاقة تنشأ بين العبد وسيده بعد عتقه يكون بها وارثاً له إذا لم تكن له عصبة . ويعرفه بعض أهل العلم : الولاء ثبوت حكم شرعى بعتق أو تعاطى سببه كاستيلاد أو تدبير . والولاء لا يورث ولكن يورث به .

فى لسان العرب : قال أبو الهيثم :

المولى على ستة أوجه :

  1. المولى ابن العم والعم والأخ وابن الأخ والابن والعصبات كلهم
  2. والمولى الناصر .
  3. والمولى الولى الذى يلى عليك أمرك . قال : والرجل ولاء وقوم ولاء فى معنى ولى وأولياء لأن الولاء مصدر .
  4. والمولى مولى الموالاة وهو الذى يسلم (8) على يديك ويواليك .
  5. والمولى مولى النعمة وهو المعتق أنعم على عبده بعتقه .
  6. والمولى المُعتَق ( بالبناء للمجهول ) لأنه ينزل منزلة ابن العم يجب عليك أن تنصره وترثه إن مات ولا وارث له فهذه ستة أوجه .

قال ابن حجر فى هدى السارى : المولى يقع على المولى بالنسب والاسم منه : الوَلاية بالفتح، وعلى القيم بالأمر والاسم منه الوِلاية بالكسر ، وعلى المعتق (6) من فوق ومن أسفل والاسم منه : الولاء ، وعلى الناصر والحليف وابن العم والعصبة .

قال العينى فى العمدة : الولاء بفتح الواو مشتق من الولاية وهى النصرة والمحبة لأن فى ولاء العتاقة والمولاة تناصراً ومحبة ، أو من الولى وهو القرب وهى قرابة حكيمة حاصلة من العتق أو من الموالاة وهى المتابعة لأن فى ولاء العتاقة إرثاً يوالى وجود الشرط وكذا فى ولاء الموالاة . وفى الشرع : هو عبارة عن التناصر بولاء العتاقة أو بولاء الموالاة ، ومن آثاره الإرث والعقل .

ولقد جاء فى الحديث : الولاء لحمة كلحمة النسب .

وقال ابن العربى : معنى ( الولاء لحمة كلحمة النسب ) أن الله أخرجه بالحرية إلى النسب حكماً كما أن الأب أخرجه بالنطفة إلى الوجود حساً ، لأن العبد كان كالمعدوم فى حق الأحكام لا يقضى ولا يلى ولا يشهد فأخرجه سيده بالحرية إلى وجود هذه الأحكام من عدمها فما شابه حكم النسب أنيط بالمعتق فلذلك جاء ( إن الولاء لمن أعتق ) وأُلحق برتبه النسب فنهى عن بيعه وهبته ( فتح البارى ج12 ص 46 ) .

عتق الولد لوالده المملوك :

إذا عرفنا نظرة الشرع للولاء وأنه جاء بعلاقة جديدة ناظرت النسب فكان المعتق لعبده صاحب نعمة بمنزلة الوالد وقد سمى الله سبحانه من أعتق منعماً على مولاه فقال سبحانه : ” وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ . ” ( الأحزاب: 37) إذا عرفنا ذلك استطعنا أن نفهم الحديث ( لا يجزى ولد والداً إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه ).

ولقد عرضت لجانب من أثر الرق والكفالة فى الإسلام على التربية فى عدد ربيع الآخر لسنة 1413هـ ونزيد الإيضاح فيما يلى ، لأن نظام الرق فى الإسلام مفخرة عظمى ظنها الناس نقصاً .

يقول المطيعى فى المجموع : ( جفف – أى : الإسلام – منابع الرق ، ويسر مصارفه ، وضيق مصادره ، ووسع موارده ، وقصره على الحروب وحدها ، وجعله بين المحاربين (7) فقط لا يتجاوز إلى الآمنين ممن لم يرفعوا سلاحاً . ثم نظم العلاقة بين السيد ومولاه حتى ليتمنى الحر منا أن يكون مولى لأحد هؤلاء النبلاء من حواريى النبوة وجنود الرسالة ، بل إن الإسلام حين جعل المرء لا يُحط عنه وزر القسم الحانث إلا بعتق رقبة ، ولا تنداح عنه معرة الظهارة حين يجعل امرأته كظهر أمه إلا بعتق رقبة من قبل أن يتماسا ، وجعل على من تعمد الطعام فى الصوم إعتاق رقبة ، وجعل المؤمن الحق الذى اقتحم العقبة هو الذى يفك الرقاب العانية ويطعم فى المسغبة المساكين الكادحين وحسبك أن الكتاب الذى يجمع أحكام الرق اسمه كتاب العتق ( انتهى ) .

ولقد فتح الإسلام سبل الخلاص من الرق واسعة نذكرها فيما يلى :

  1. قول الله عز وجل : “فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ” .
  2. العتق كفارة الحنث فى اليمين لقوله سبحانه ” فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ” .
  3. العتق كفارة القتل الخطإ لقوله سبحانه : “وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ” .
  4. العتق كفارة الظهارة لقوله سبحانه :” وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا” .
  5. جعلها الإسلام من مصارف الزكاة لقوله تعالى : “إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ” .
  6. المكاتبة لقوله تعالى : “وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَءَاتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي ءَاتَاكُمْ” .
  7. من نذر أن يحرر رقبة وجب عليه الوفاء بنذره .

والرق نظام قديم كثير المخالفات جاء الإسلام فحوله إلى نظام تضيق العقول النيرة عن ابتداع مثله حتى صار نظام الرق فى الإسلام مفخرة من المفاخر العظمى وقد أشار المطيعى لذلك بقوله : ( جفف منابعه ويسر مصارفه وضيق مصادره ووسع موارده ) فالكافر المحارب للمسلمين وقد شهر السلاح يصد به عن دين الله فإذا أمكن الله منه فإنه ينتقل من مرحلة الدعوة بالسيف إلى مرحلة الدعوة بالرق فيقوم بالخدمة فى مجتمع المسلمين – والخدمة عمل مشروع يقوم به كثير من الأحرار – مع الإحسان فى معاملته والرفق به ، لدرجة قال المطيعى عنها : ( يتمنى الحُر منا أن يكون مولى لأحد هؤلاء النبلاء ) وتاريخ الإسلام خير شاهد على ذلك .

من كتاب سير أعلام النبلاء ( عن الزهرى قال لى عبد الملك بن مروان : من أين قدمت ؟ قلت : من مكة قال : فمن خلفت يسودها ؟ قلت : عطاء . قال : أمن العرب أم من الموالى ؟ قلت : من الموالى . قال : فبم سادهم ؟ قلت : بالديانة والرواية . قال : إن أهل الديانة والرواية ينبغى أن يسودوا ، فمن يسود أهل اليمن ؟ قلت : طاووس . قال : فمن العرب أم من الموالى ؟ قلت : من الموالى . قال : فمن يسود أهل الشام ؟ قلت : مكحول ، قال : فمن العرب أم من الموالى ؟ قلت : من الموالى عبد نوبى أعتقته امرأة من هذيل . قال : فمن يسود أهل الجزيرة ؟ قلت : ميمون بن مهران وهو من الموالى . قال : من يسود أهل خراسان ؟ قلت : الحسن من الموالى . قال : فمن يسود أهل الكوفة ؟ قلت : إبراهيم النخعى ، قال : فمن العرب أم من الموالى ؟ قلت : من العرب ، قال : ويلك فرجت عنى . والله ليسودن الموالى على العرب فى هذا البلد حتى يخطب لها على المنابر والعرب تحتها ، قلت : يا أمير المؤمنين إنما هو دين ، من حفظه ساد ، ومن ضيعه سقط ( انتهى ) .

والحكاية وإن كان فيها نكارة إلا أنها تدل على أن الموالى زاحموا السادة فقام منهم من كان من أهل العلم عملاً بقول الله تعالى : ”  إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ” .

من أعلام الموالى :

* أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطى التيمى مولى تيم الله بن ثعلبة الكوفى ، فارسى الأصل . كان فقيهاً ورعاً متقناً لا يقبل جوائز السلطان ، يتجر ويتكسب ، شهد له العلماء بالفقه وجودة الرأى .

* الحسن البصرى مولى الأنصار كان أبوه مولى لزيد بن ثابت ، وأمه مولاة لأم سلمة كان فصيحاً عالماً عاملاً شجاعاً .

* محمد بن سيرين الأنصارى كان أبوه مولى لأنس بن مالك ، من سبى عين التمر أمه صفية مولاة أبى بكر .

* زيد بن حارثة حب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وابنه أسامة وأم أسامة مولاة النبي – صلى الله عليه وسلم – .

* نافع مولى ابن عمر أصابه ابن عمر فى بعض مغازيه . قال عنه ابن عمر : لقد مَنّ الله علينا بنافع . وهو أثبت الناس حديثاً عن ابن عمر .

* طرق بن زياد مولى موسى بن نصير ، فتح قرطبة وهزم الإفرنج وكان عامة جنده من البربر والموالى .

* الأعرج ( عبد الرحمن بن هرمز ) كنيته أبو داود ، مولى ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب .

* محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازى المطلبى مولاهم .

* عبد الملك بن جريج مولى الأمويين ، رومى الأصل .

* يعقوب بن عطاء بن أبى رباح مولى لبنى قشير .

* حمران بن ابان مولى عثمان بن عفان ، أسره خالد بن الوليد فى عين التمر ففقه حتى صار من الرواة ، وحفظ حتى كان عثمان يوقفه خلفه يفتح عليه فى الصلاة .

————————

(1) صحيح . أبو داود ( 3949 ) ، والترمذى ( 1365 ) ، وابن ماجه ( 2524 ) وغيرهم ، عن سمرة . وانظر الإرواء ( 1746 .

(2) صحيح . ورد من حديث جابر وابن عمرو وابن مسعود وعائشة وابن عمر وأبى بكر وأنس وعمر ، وانظر الإرواء ( 838 ).

(3) صحيح . أبو داود ( 3530 ) ، وابن ماجه ( 2292 ) عن ابن عمرو ، وانظر أحكام الجنائز (170 )

(4) صحيح . أحمد ( 4/113 ) وغيره بسند صحيح ، وانظر الصحيحة ( 1756 ) .

(5) صحيح . أحمد ( 4/299 ) وغيره ، وإسناده صحيح كما فى تخريج المشكاة ( 3384 ) .

(6) المعتق من فوق هو السيد المالك . ومن أسفل هو العبد المملوك الذى وقع عليه العتق .

(7) أى الحرب بين المسلمين والكفار فلا يجوز الاسترقاق فى حرب البغاة من المسلمين .