بر الوالدين

أخرج مسلم (1) فى صحيحه عن أبى هريرة (2) رضى الله عنه قال: قال رسول الله – صلي الله عليه وسلم – : ” لا يجزى ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه ” .

فى الحديث مسائل عظيمة أهمها عظم حق الوالدين ومنزلة عتق الرقاب بين القربات من الأعمال ، أما بر الوالدين فقد جاءت آيات القرآن دالة عليه أبلغ الدلالة حيث جعل الله سبحانه الأمر بالإحسان للوالدين عقب الأمر بتوحيده والنهى عن الشرك به – وقد تنوعت الأساليب القرآنية وتعددت المواضع فى كتاب الله ففي سورة النساء ” وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا “.

وسورة الأنعام ” قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ” .

أما سورة الإسراء فقد جاءت الآية الكريمة آمرة بالرحمة ولين القول وترك فحشه ولو فى أصغر الألفاظ ” وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ” .

وفى سورة العنكبوت ذكر سبحانه حدود الطاعة ” وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ” .

أما سورة لقمان فخصت الأم بعد أن عمت الوالدين للحمل والرضاع وأمرت بالصحبة بالمعروف حتى عند ترك طاعتهما فى معصية الله ” وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ *وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ” .

أما سورة الأحقاف فجمعت فى قوله “وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا”.

أما سورة البقرة فتبين بر الوالدين فريضة على الأمم السابقة ” وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا “.

فبر الوالدين فرض لازم بل هو الذى يلي توحيد الله فى عبادته ولذا ففي حديث البخارى عن عبد الله سألت النبى – صلي الله عليه وسلم – : أى العمل أحب إلى الله عز وجل ؟ قال : ” الصلاة على وقتها ” ، قال : ثم أى ؟ قال : ” الجهاد فى سبيل الله ” .

والعبد المؤمن يرى حق الوالدين عليه ليس فقط لأنهما سبب وجوده وتربيته بل لأن الله أوجب برهما والإحسان إليهما وقرن حقهما بحقه ولم يستثن ” وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ” .

وبر الوالدين يكون بالإحسان لهما بالقول والمال والفعل ويكون فى حياتهما وبعد موتهما ، فأما القول فلين الخطاب وتخير الطيب من الكلمات وخفض الصوت وإظهار الأدب والحب فى خطابهما فضلاً عن ترك الكلمات الجافة التى تدل على تأفف أو تضجر عندهما . وأما المال فبذله عند حاجتهما بطيب نفس وانشراح صدر وبذلة فى الأمور التى يحبونها وإظهار الفرح بقبولهما لذلك المال منك عالماً أنهما أصحاب المنة عليك فى قبوله والانتفاع به .

وأما الفعل فقضاء الحوائج لهما وتيسير أمورهما وطاعتهما فيما لا يخالف شرع الله سبحانه حيث تخدمهما ببدنك قدر استطاعتك وتبذل فى قضاء حوائجهما وسعك .

هذا فى الحياة أما بعد الموت فالدعاء والاستغفار لهما وإنفاذ وصيتهما وتنفيذ عهدهما وصلة رحمهما وإكرام صديقهما ، وذلك لحديث مالك بن ربيعة رضى الله عنه عند أبى داود قال : بينما نحن جلوس عند رسول الله – صلي الله عليه وسلم – إذ جاءه رجل من بنى سليم فقال : يا رسول الله هل بقى من بر أبواى شيء أبرهما بعد موتهما ؟ فقال : ” نعم الصلاة عليهما ، والاستغفار لهما ، وإنفاذ عهدهما من بعدهما وصلة الرحم التى لا توصل إلا بهما ، وإكرام صديقهما ” .

وأما الأحاديث فى بر الوالدين فكثيرة جداً نذكر منها :

عن ابن عمرو رضى الله عنهما قال : جاء رجل إلى نبي الله – صلي الله عليه وسلم – فاستأذن فى الجهاد ، فقال : ” أحي والدك ؟ ” قال نعم ، قال : ” ففيهما فجاهد ” ( متفق عليه).

وعنه رضى الله عنه جاء رجل إلى رسول الله – صلي الله عليه وسلم – فقال : جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبواي يبكيان فقال : ” ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما “( أبو داود ).

وحديث أبى هريرة عند مسلم قال رسول الله – صلي الله عليه وسلم – : ” رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه ” قيل : من يا رسول الله ؟ قال : ” من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة ” .

وحديث المغيرة بن شعبة رضى الله عنه أن رسول الله – صلي الله عليه وسلم – قال : ” إن الله عز وجل حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات  ، ومنعاً وهات ، وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال ” ( متفق عليه ) .

وحديث أبى بكرة رضى الله عنه قال رسول الله – صلي الله عليه وسلم – : ” ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا : بلى يا رسول الله ، قال ” الإشراك بالله وعقوق الوالدين ” وكان متكئاً فجلس . فقال: ” ألا وقول الزور وشهادة الزور ” فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت.

وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال : جاء رجل إلى رسول الله – صلي الله عليه وسلم – فقال : يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : ” أمك ” ، قال : ثم من ؟ قال : ” أمك ” ، قال ثم من ؟ قال : ” أبوك ” ( متفق عليه ) .

وعن ابن عمر رضى الله عنهما قال: ” آتى النبى- صلي الله عليه وسلم – رجل فقـال إنى أذنبت ذنباً عظيماً فهـل لى من توبة، فقال: ” هل لك خالة ؟ ” قال: نعم: قال: ” فبرها ” (الترمذى ) .

ومن أقوال الشعراء فى ذلك وهى كثيرة جداً

قضى الله أن لا تعبدوا غيره حتما               فياويح شخصٍ غير خالقه أمــا

وأوصاكموا بالوالدين فبالغــوا                 ببرهما فالأجر فى ذاك والرحمـا

فكم باذلا من رأفـة ولطافـــة                وكم منحا وقت احتياجك من نعما

وأمـك كم باتت بثقلك تشتكـى                 تواصل مما شقهـا البؤس والغمـا

وفى الوضع كما قاست وعد ولادها              مُشِقاً يذيب الجلد واللحـم والعظما

وكم سهرت وجداً عليك جفونهـأ                وأكبادها لهفاً بجمر الأسـى تحمى

وكم غسلت عنك الأذى بيمينهـأ                حنوا وإشفاقـاً وأكثرت الضمــأ

فضيعتها لما أسنت جهالـــة                  وضقت بها ذرعاً وذوقتهـا سُمـا

وبت قرير العين ريان ناعمــاً                 مكباً على اللذات لا تسمـع اللوما

وأمك فى جوع شديد وغربــة                 تلين لها مما بها الصخـرة الصما

أهذا جزاها بعد طــول عنائها                 لأنت لذو جهـل وأنت إذاً أعمـى

————————–

(1) هو مسلم أبو الحسين القشيرى النيسابورى أحد الأمة فى حفظ الحديث وصاحب الصحيح الذى يلى البخارى فى الرتبة . يقول محمد بن يعقوب الأخرم ( قل ما يفوت البخارى ومسلماً ما يثبت فى الحديث ) وفى هذا القول نظر .

ولد سنة 204هـ وهى نفس السنة التى مات فيها الشافعى . ونشأ فى العلم وطلبه وحبه للعلم وأهله ولقد رحل طويلاً فى طلب العلم فدخل العراق والحجاز والشام ومصر وسمع من شيوخهم . ولقد لازم البخارى طويلاً وتتلمذ عليه وأحبه ودافع عنه .

ولقد امتاز صحيح مسلم عن صحيح البخارى بقلة المعلقات وانه لا يقطع الحديث كما يفعل البخارى بل ويجمع طرق الحديث فى موضع واحد ومع ذلك فالمعتمد ترجيح البخارى عليه فى صحة الأسانيد .

وقد جمع مسلم صحيحه فى خمسة عشر عاماً وجمع فيه أثني عشر ألف حديث وهى بحذف المكرر تزيد قليلاً عن الثلاثة آلاف ، ومات رحمه الله سنة مئتين وإحدى وستين للهجرة وله آثار علمية كثيرة أهمها صحيح مسلم .

(2) هو عبد الرحمن بن صخر الصحابي الفقيه المجتهد الحافظ أكثر الصحابة رواية وقد روى عنه ثمان مئة من أصحابه ، أسلم وقدم على النبى – صلي الله عليه وسلم – سنة سبع عام خيبر ومات سنة 59 للهجرة فلزم رسول الله – صلي الله عليه وسلم – أربع سنين يتعلم لم يفارق فى حضر ولا سفر ، وقد قال عن نفسه : تزعمون أنى أكثر الرواية عن رسول الله – صلي الله عليه وسلم – – والله الموعد – إنى كنت امرءاً مسكيناً أصحب رسول الله على ملء بطني وأنه حدثنا يوماً : ” من يبسط ثوبه حتى أقضي مقالتي ثم قبضه إليه لم ينس شيئاً سمع منى أبداً ” ففعلت ، فوالذى بعثه بالحق ما نسيت شيئاً سمعته منه . وكان يقول : إن إخواني المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق وكان إخواني من الأنصار يشغلهم عمل أموالهم وكنت امرءاً مسكيناً من مساكين الصفة ألزم رسول الله – صلي الله عليه وسلم – على ملء بطنى فأحضر حين يغيبون وأوعى حسن ينسون . وجاء فى البخارى من قول أبى هريرة : ما أحد من أصحاب رسول الله أكثر حديثاً منى عنه إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب وكنت لا أكتب . ولقد أقعد مروان كاتبه خلف السرير يكتب وأبو هريرة يحدث فلما كان رأس الحول دعا به فأقعده من وراء حجاب فجعل يسأله عن ذلك الكتاب فما زاد ولا نقص ولا قدم ولا أخر ( هكذا يكون الحفظ ) . وعن مكحول قال  : تواعد الناس ليلة فى قبة من قباب معاوية فأجتمعوا فيها فقام فيهم أبو هريرة يحدثهم عن رسول الله – صلي الله عليه وسلم – حتى أصبح . وقد دعا رسول الله – صلي الله عليه وسلم – لأُمه فأسلمت ودعا أن يحببهما الله للمؤمنين ، قال أبو هريرة : فما خلق الله من مؤمن يسمع بى ولا يراني أو يرى أمي إلا وهو يحبني . قال ابن كثير فى البداية والنهاية : وهذا من دلائل نبوته – صلي الله عليه وسلم – فإن أبا هريرة محبب إلى جميع الناس – قلت : وهذا أيضاً دليل ضلال من يبغضونه من الشيعة ومن وافقهم على ذلك . ويقول ابن كثير . ولقد كان أبو هريرة من الصدق والحفظ والديانة والعبادة والزهادة والعمل الصالح على جانب عظيم ، كان يقوم ثلث الليل وامرأته ثلثة وابنته ثلثة يقوم هذا ثم يوقظ هذا وكان يقسم الليل ثلاثة أقسام جزء لقراءة القرآن وجزء لنومه وجزء يتذاكر فيه حديث رسول الله – صلي الله عليه وسلم – . وكان له مسجد فى مخدعه ومسجد فى بيته ومسجد فى حجرته ومسجد عند باب داره إذا خرج صلى فيها جميعاً وإذا دخل صلى فيها جميعاً وكان له فى كل يوم صحيتان أول النهار صيحة يقول فيها : ذهب الليل وجاء النهار وعرض آل فرعون على النار وإذا كان العشى يقول : ذهب النهار وجاء الليل وعرض آل فرعون على النار فلا يسمع أحد صوته إلا استعاذ بالله من النار .

البداية والنهاية ج8 – سير أعلام النبلاء ج2 .