أخرج البخاري ومسلم عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، أن النبي – صلي الله عليه وسلم- رأى نخامة في القبلة ، فشق ذلك عليه حتى رؤي في وجهه ، فقام فحكه بيده ، فقال : ( إن أحدكم إذا قام في صلاته ، فإنه يناجي ربه ، أو إن ربه بينه وبين القبلة ، فلا يبزقن أحدكم قبل قبلته ، ولا عن يمينه ، ولكن عن يساره ، أو تحت قدمه اليسرى) ، ثم أخذ طرف ردائه ، فبصق فيه ، ثم رد بعضه على بعض ، فقال : (أو يفعل هكذا) .
وأخرجا عن عبد الله بن عمر أن رسول الله – صلي الله عليه وسلم – رأى بصاقًا في جدار القبلة وهو يصلي بين يدي الناس فحكه ، ثم أقبل على الناس – وفي رواية ، فتغيظ على أهل المسجد – فقال حين انصرف : (إذا كان أحدكم يصلي ؛ فلا يبصق قبل وجهه ، فإن الله قبل وجهه إذا صلى) .
والحديث في (الصحيحين) من رواية أنس وابن عمر وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة وعائشة، وفي الباب عند مسلم من رواية جابر ، وعند أبي داود من رواية السائب بن خلاد وطارق بن عبد الله المحاربي ، وعند أحمد من حديث سعد بن أبي وقاص وأبي أمامة وواثلة بن الأسقع والسائب بن خلاد وأبي ذر ، وعند ابن حبان وابن خزيمة من رواية حذيفة بن اليمان .
فهذه الأحاديث كلها حول حكم النخامة والبصاق في الصلاة والمسجد وفي غير المسجد والصلاة ، وهذه الأحاديث تفيد تعظيم شأن الصلاة والمساجد والقبلة ، والاحتياط من إيذاء المسلم في مصلاه .
قال ابن حجر : وهذا يدل على أن البزاق في القبلة حرام ؛ سواء كان في المسجد أم لا ، لا سيما من المصلي .
والحديث يفيد إزالة كل قذر من المسجد ، وإن قل حجمه ، فكان في حجم النخامة أو البزاق ، وقد تستخدم الآلة في ذلك ؛ لأن النبي – صلي الله عليه وسلم – حكها بعرجون مرة ، وبالحصى أخرى .
قال ابن حجر : يمكن نزعه بغير آلة ، إلا أن خالطه بلغم فيلتحق بالمخاط ، بل وتطييب المسجد ؛ لأنه – صلي الله عليه وسلم – دعا بزعفران فلطخه به .
قال أيوب : فلذلك صنع الزعفران في المساجد .
وفي حديث أنس عند النسائي ؛ رأى رسول الله – صلي الله عليه وسلم – نخامة في قبلة المسجد ، فغضب حتى احمر وجهه ، فقامت امرأة من الأنصار ، فحكتها وجعلت مكانها خلوقًا ، قال رسول الله – صلي الله عليه وسلم – : (ما أحسن هذا).
وذكر العيني في (عمدة القاري) عن أبي عبيدة ، رضي الله عنه : أنه تنخم في المسجد ليلة ، فنسي أن يدفنها ، حتى رجع إلى منزله ، فأخذ شعلة من نار ، ثم جاء فطلبها حتى دفنها ، ثم قال : الحمد لله الذي لم يكتب عليَّ خطيئة الليلة .
وفي حديث جابر عند مسلم قال : أتانا رسول الله – صلي الله عليه وسلم – في مسجدنا هذا وفي يده عرجون ابن طاب ، فرأى في قبلة المسجد نخامة ، فحكها بالعرجون ، ثم أقبل علينا، فقال : (أيكم يحب أن يعرض الله عنه ؟) . فخشعنا ، فكررها ثلاثًا ، قلنا : لا ؛ أينا يا رسول الله ، قال : ( فإن أحدكم إذا قام يصلي ، فإن الله ، تبارك وتعالى ، قِبل وجهه ، فلا يبصقن قبل وجهه ، ولا عن يمينه ، وليبصق عن يساره ، تحت رجله اليسرى ، فإن عجلت به بادرة (1) فليقل بثوبه هكذا) ، ثم طوى ثوبه على بعض ، فقال : (أروني عبيرًا) ، فقام فتى من الحي يشتد إلى أهله، فجاء بخلوق (2) في راحته ، فأخذه رسول الله – صلي الله عليه وسلم-، فجعله على رأس العرجون (3) ، ثم لطخ به على أثر النخامة ، فقال جابر : فمن هناك جعلتم الخلوق في مساجدكم .
وذكر ابن خالويه ؛ أن النبي – صلي الله عليه وسلم – لما رأى نخامة في المحراب ، قال : (من إمام هذا المسجد؟). قالوا: فلان ، قال: (قد عزلته) ، فقالت امرأته: لِمَ عزل النبي -صلي الله عليه وسلم – زوجي عن الإمامة ؟ فقال : رأى نخامة في المسجد ، فعمدت إلى خلوق طيب فخلقت به المحراب ، فاجتاز عليه الصلاة والسلام بالمسجد ، فقال : (من فعل هذا؟) . قالوا : امرأة الإمام ، قال : (قد وهبت ذنبه لامرأته ورددته إلى الإمامة) . فكان هذا أول خلوق كان في الإسلام (4) .
وأخرج أبو داود ؛ أن رجلاً أم قومه ، فبصق في القبلة ، ورسول الله – صلي الله عليه وسلم- ينظر ، فلما فرغ قال رسول الله – صلي الله عليه وسلم – لقومه : (لا يصلي لكم) ، فأراد بعد ذلك أن يصلي لهم ، فمنعوه وأخبروه بقول رسول الله – صلي الله عليه وسلم – ، فذكر ذلك لرسول الله – صلي الله عليه وسلم – ، فقال : (نعم ، إنك آذيت الله ورسوله) .
وفي الحديث عند مسلم عن أبي ذر عن النبي – صلي الله عليه وسلم – قال : (عرضت عليَّ أعمال أمتي حسنها وسيئها ، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق ، ووجدت في مساوئ أعمالها النخامة تكون في المسجد لا تدفن) .
قال النووي : ظاهره أن القبح والذم لا يختص بصاحب النخامة ، بل يدخل فيه هو وكل من رآها ولا يزيلها بدفن أو حك . ونحوه .
ولما كان المسجد بيت الله ، والمصلين وفد إلى الله وضيف عليه حرم إيذاءهم بأي نوع من الإيذاء ، ففي الحديث عند أحمد عن سعد بن أبي وقاص أن النبي – صلي الله عليه وسلم – قال : (فمن تنخم في المسجد فليغيب نخامته أن يصيب جلد مؤمن أو ثوبه فيؤذيه) .
هذه الأحاديث والآثار دالة على تعظيم المساجد وتنزيهها ، خاصة قبلة المسجد ، عن كل ما يخرج من الفضلات من الفم ، ويدخل فيها ما يخرج من غيره بطريق الأولى ، وعن بقية القاذورات بالأحرى ، وإذا كان ذلك في غير النجس من الفضلات ، فتكون النجاسات أولى أن يحترز منها ؛ ولذا فإن البنا قال في (بلوغ الأماني) : ويكفي في ذلك استصحاب نحو منديل لهذا الغرض ، أما البسام فقال في (توضيح الأفكار) : الإسلام يدعو إلى النظافة والطهارة والنزاهة ، وينفر من القذارة والوساخة ، فالأفضل للمسلم أن يصحب معه – مناديل – يزيل بها الأقذار والأذى ويلقيها في أواني وأماكن الزبالة . فكلام المعاصرين كالبسام والبنا هو الذي حمل عليه كلام المتقدمين .
فيقول النووي : المراد دفنها في تراب المسجد ورمله وحصاه إن كان فيه تراب أو رمل أو حصى ونحوها ، وإلا فليخرجها .
وقول صاحب (المهذب) : إن بدره في المسجد بصق في ثوبه وحك بعضه ببعض .
ويقول النووي في (المجموع) : وإذا بصق في المسجد فقد ارتكب الحرام ، وعليه أن يدفنه ، ثم قال : ومن رأى من يبصق في المسجد لزمه الإنكار عليه ، ومنعه منه إن قدر ، ومن رأى بصاقًا أو نحوه في المسجد ، فالسنة أن يزيله بدفنه أو رفعه وإخراجه ، ويستحب تطييب محله، وأما ما يفعله كثير من الناس إذا بصق أو رأى بصاقًا دلكه بأسفل مداسه الذي داس به النجاسة والأقذار فحرام ؛ لأنه تنجيس للمسجد أو تقذير له .
وقال ابن حجر في (الفتح) : ولو كان تحت رجله مثلاً شيء مبسوط أو نحوه تعين الثوب . (انتهى) أي ؛ ليبصق فيه ، ويغني عنه استخدام المنديل أو أوراق التنظيف .
وفي هذه الأحاديث من الأحكام والآداب الكثير مما ينبغي على المؤمن التعرف عليه ؛ منها احترام جهة القبلة ، فلا ينبغي أن يبزق أحد نحو القبلة ، ولو كان في غير المسجد ، حيث إن الأحاديث لم تشترط المسجد في النهي عن البصاق جهة القبلة .
قال في (المهذب) : إن بدره البصاق ، فإن كان في غير المسجد لم يبصق تلقاء وجهه ولا عن يمينه ، بل يبصق تحت قدمه اليسرى أو عن يساره .
قال النووي في (شرح المهذب) : إن كان في غير المسجد لم يحرم البصاق في الأرض ، فله أن يبصق عن يساره في ثوبه أو تحت قدمه وبجنبه وأولاه في ثوبه ويحك بعضه ببعض أو يدعه ، ويكره أن يبصق عن يمينه أو تلقاء وجهه .
وفي الحديث : (إذا تنخم أحدكم ، فلا يتنخم قِبل وجهه ، ولا عن يمينه ، وليبصق عن يساره ، أو تحت قدمه اليسرى) .
قال العيني : جزم النووي بالمنع – أي ؛ من البصق والتنخم المذكور – داخل الصلاة وخارجها ، وكره ابن مسعود أن يبصق عن يمينه في غير الصلاة ، وقال معاذ بن جبل : ما بصقت عن يميني منذ أسلمت ، ونهى عمر بن عبد العزيز عنه مطلقًا ، وقال الخطابي : إن كان عن يساره أحد فلا يبزق في واحد من الجهتين ، لكن تحت قدمه أو ثوبه .
وفي الحديث ؛ طهارة البذاق والنخامة ونحوها مما يخرج من الفم .
وفي الحديث ؛ البصاق في المسجد خطيئة مطلقًا ، سواء احتاج إليه أم لا ، فينبغي أن يتجنبها ما استطاع ، وأن كفارة فعلها دفنها ومواراتها .
وفي الحديث ؛ تفقد الإمام أحوال المساجد وتعظيمها وصيانتها .
وفي الحديث ؛ جواز معاقبة المجموع على الأمر الذي ينكر ، وإن كان الفعل صدر من بعضهم لأجل التحذير من معاودة ذلك (5) .
وفي الحديث ؛ أن البصاق لا يفسد الصلاة ، وإن وقع أثناء الصلاة ؛ لأن العارض البشري الذي يمنع العبد من التدبر في صلاته يرخص رب العزة سبحانه للعبد فيه كرمًا منه ورحمة ، وذلك لأنه الذي قدر على العبد العوارض ، فقدر له الرحمة فيها ، فلم يجعل البصاق والنخامة في الصلاة مفسدة لها ، إنما جعل سبحانه لها أدبًا رفيعًا من راعى ذلك الأدب كان نصيبه المغفرة والقبول ، ومن خالفها كان جزاؤه الوزر لفعله الأمر المحرم .
وفي الحديث ؛ أن النفخ والتنحنح لا يفسد الصلاة ما لم يفحش أو يقصد العبث .
وفي الحديث ؛ أن الله قبل وجه العبد إذا صلى ، فلا ينبغي له أن يقابل هذه الجهة بالبزاق الذي هو استخفاف لمن يبزق إليه ، بل وتحقير له ، فالمصلي يقصد ربه في الصلاة بالتوجه إلى القبلة ، فمقصوده بينه وبين القبلة ؛ لذا أمر أن تصان تلك الجهة عن البزاق ، وفي حديث الحارث الأشعري عند أحمد والترمذي : (وإن الله أمركم بالصلاة ، فإذا صليتم فلا تلتفتوا ، فإن الله ينصب وجهه إلى وجه عبده في صلاته ، ما لم يلتفت) .
قال ابن عبد البر : وقد نزع به – أي ؛ بهذا الحديث ونظائره – بعض المعتزلة القائلين بأن الله في كل مكان ، وهو جهل فاضح ؛ لأن في الحديث أنه يبزق تحت قدميه ، وفيه نقض ما أصَّلوه . (انتهى) .
وأما قوله : (فإن ربه بينه وبين قبلته) ؛ فهذه معية خاصة من الله تعالى لعبده حال مناجاته ، كما في الحديث : (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) ، وهو سبحانه على دنوه وقربه من عبده ، فهو عال على عرشه ، فوق خلقه ، فله العلو المطلق سبحانه بذاته وصفاته وقدرته وقهره ، فالعلو ثابت بالقرآن والسنة وإجماع أهل السنة ، فيجب أن نثبت لله جهة العلو .
يقول الجويني والد إمام الحرمين في رسالة (الاستواء والفوقية) :
العبد إذا أيقن أن الله تعالى فوق السماء عال على عرشه بلا حصر ولا كيفية ، وأنه الآن في صفاته كما كان في قدمه صار لقلبيه قبلة في صلاته وتوجهه ودعائه ، ومن لا يعرف ربه بأنه فوق سماواته على عرشه ، فإنه يبقى ضائعًا لا يعرف وجهة معبوده ، لكن لو عرفه بسمعه وبصره وقِدمه ، وتلك بلا هذا معرفة ناقصة بخلاف من عرف أن إلهه الذي يعبده فوق الأشياء ، فإذا دخل في الصلاة وكبر توجه قلبه إلى جهة العرش ، منزهًا ربه تعالى عن الحصر ، مفردًا له كما أفرده في قِدمه وأزليته عالمًا أن هذه الجهات من حدودنا ولوازمنا ، ولا يمكننا الإشارة إلى ربنا في قدمه وأزليته إلا بها ؛ لأنا محدثون ، والمحدث لا بد له من إشارته إلى جهة ، فتقع تلك الإشارة إلى ربه كما يليق بعظمته لا كما يتوهمه هو من نفسه ، ويعتقد أنه في علوه قريب من خلقه هو معهم بعلمه وسمعه وبصره وإحاطته وقدرته ومشيئته، وذاته فوق الأشياء فوق العرش ، ومتى شعر قلبه بذلك في الصلاة أو التوجه أشرق قلبه واستنار وأضاء بأنوار المعرفة والإيمان ، وعكسته أشعة العظمة على عقله وروحه ونفسه ، فانشرح لذلك صدره ، وقوي إيمانه ، ونزه ربه عن صفات خلقه ؛ من الحصر ، والحلول ، وذاق حينذاك شيئًا من أذواق السابقين المقربين ، بخلاف من لا يعرف وجهة معبوده ، وتكون الجارية راعية الغنم أعلم بالله منه ، فإنها قالت : في السماء ، عرفته بأنه على السماء ، فإن : (في) تأتي بمعنى : على ، كقوله تعالى : ( يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ) [ المائدة : 26] أي ؛ على الأرض ، وقوله : ( وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ) [ طه : 71] أي ؛ على جذوع النخل ، فمن تكون الراعية أعلم بالله منه ؛ لكونه لا يعرف وجهة معبوده ، فإنه لا يزال مظلم القلب لا يستنير بأنوار المعرفة والإيمان . اهـ .
ومن فوائد الحديث ؛ أن التحسين والتقبيح أمر شرعي ؛ لذا فضل اليمين على الشمال ، وإن غابت الفوائد العقلية .
وفي الحديث؛ الحث على الاستكثار من الحسنات ، وإن كان رفيع القدر؛ لكون النبي – صلي الله عليه وسلم – باشر الحك بنفسه .
وفي الحديث ؛ تواضع النبي – صلي الله عليه وسلم – وحسن خلقه .
والله تعالى أعلى وأعلم .
——————-
(1) (عجلت به بادرة) : غلبته النخامة .
(2) (خلوق) : رائحة طيبة .
(3) (العرجون) : الغصن .
(4) عن (عمدة القاري) .
(5) قاله ابن حجر شرحًا للحديث عند : (فتغيظ أهل المسجد) .