إن القلب ملك والأعضاء رعيته ، والله سبحانه علق النجاة على سلامته ، فقال سبحانه : ( يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ(88)إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) [ الشعراء : 88 ، 89] ، فكانت سلامة القلب سبب النجاة في الآخرة .
والقلب السليم يخشع لربه حال ذكره وتفكره في آلاء ربه ، فقال سبحانه : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ) [ الحديد : 16] ، ويقول سبحانه : (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ) [ الزمر : 23] ، ويقول عز وجل : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) [ الأنفال : 2] ، وقال سبحانه : ( وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ(34)الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ) [ الحج : 34 ، 35] .
قال النووي : البكاء عند قراءة القرآن صفة العارفين وسمة الصالحين ، قال تعالى : (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ ) [ الإسراء : 109] ، ( خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ) [ مريم : 58]، والأحاديث فيه كثيرة .
وقال الغزالي : يستحب البكاء مع القراءة وعندها ، وطريق تحصيله أن يحضر قلبه الحزن والخوف بتأمل ما فيه من التهديد والوعيد الشديد والوثائق والعهود ، ثم ينظر تقصيره في ذلك، فإن لم يحضره حزن فليبك على فقد ذلك ، وأنه من أعظم المصائب.
وكان هذا حال النبي – صلي الله عليه وسلم – ، ففي حديث عائشة ، رضي الله عنها ، قالت: قام رسول الله – صلي الله عليه وسلم – ليلة من الليالي، فقال: (يا عائشة ذريني أتعبد لربي)(1)، قالت : والله إني لأحب قربك ، وأحب ما يسرك ، قالت : فقام فتطهر ، ثم قام يصلي ، فلم يزل يبكي حتى بل حجره ، ثم بكى ، فلم يزل يبكي حتى بل الأرض ، وجاء بلال يؤذن بالصلاة ، فلما رآه يبكي قال : يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال : (أفلا أكون عبدًا شكورًا ، لقد نزلت عليّ الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ) [ آل عمران : 190].
وفي حديث ابن مسعود عند البخاري قال : قال لي رسول الله – صلي الله عليه وسلم – : (اقرأ عليّ) ، قلت : أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : (فإني أحب أن أسمعه من غيري) ، فقرأت عليه سورة (النساء) ، حتى إذا بلغت : ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ) [ النساء : 41] ، قال : (أمسك) ، فإذا عيناه تذرفان .
وعن مطرف بن عبد الله عن أبيه قال : انتهيت إلى رسول الله – صلي الله عليه وسلم – وهو يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل .
وكان هذا حال الفضلاء من أصحابه ، ففي البخاري عن عائشة ، رضي الله عنها ، أن رسول الله – صلي الله عليه وسلم – قال في مرضه : (مروا أبا بكر يصلي بالناس) ، قالت عائشة : فقلت : إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء ، فمر عمر فليصل بالناس ، فقال – صلي الله عليه وسلم – : (مروا أبا بكر فليصل بالناس) .
وفي البخاري قال عبد الله بن شداد : سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف يقرأ : ( إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ ) [ يوسف : 86] ، هذا ولما قرأ ابن عمر : ( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِين ) [المطففين : 1] ، فلما بلغ : ( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) [ المطففين : 6] ، بكى حتى خن وانقطع عن قراءة ما بعدها .
وذكر صاحب (موارد الظمآن) : أن عمر بن عبد العزيز قرأ بالناس ذات ليلة : ( وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ) [ الليل : 1] ، فلما بلغ : ( فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى ) [ الليل : 14] خنقته العبرة ، فلم يستطع أن ينفذها ، فرجع حتى إذا بلغها خنقته العبرة ، فلم يستطع أن ينفذها ، فقرأ سورة غيرها .
فالخشية والخوف من الله تعالى سمة الصالحين ممن سار سيرة النبيين ، يخافون من ربهم فيبكون عبودية وتذللاً له سبحانه عساه أن يرحمهم ، وفي بكائهم الدمع ينهمر من أعينهم بغير صوت يظهر ، خاصة إذا كانوا بين الناس ؛ لأنهم إذا خلوا بأنفسهم فرغوا لله أعمالهم خالصة من الرياء والسمعة .
ففي الحديث : (سبعة يظلهم الله في ظله ، يوم لا ظل إلا ظله ) ،ذكر منهم : (رجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه) ، والحديث في البخاري ومسلم عن أبي هريرة .
فانظر كيف جعل علامته ذكر الله خاليا ليكون أبعد عن الرياء والالتفات لغير الله تعالى ، وقال: (ففاضت عيناه) ، ولم يذكر له صوتًا ، وذلك هو الذي دلت عليه الأحاديث والآثار من حال النبي صلىالله عليه وسلم ، كما جاء في حديث ابن مسعود لما قرأ عليه من سورة (النساء) نظر إليه ؛ فإذا عيناه تذرفان ، وحديث عائشة ، رضي الله عنها ، في وصف قيامه الليل .
أما ما ذكره عبد الله بن شداد عند البخاري : سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف يقرأ : ( إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ ) ، فاعلم أن عبد الله بن شداد تابعي كبير ، أي : لم يصل خلف النبي – صلي الله عليه وسلم – ، بمعنى أنه سمع نشيج عمر عندما كان يصلي بالناس إمامًا ، والإمام إذا قرأ كان مفتوح الفم ، فيغلبه بكاؤه فيصدر الصوت لا يستطيع له منعًا ، وذلك هو الذي أرادته عائشة ، رضي الله عنها ، بقولها للنبي – صلي الله عليه وسلم – : إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يُسمع الناس من البكاء .
ولقد روى الترمذي والنسائي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله – صلي الله عليه وسلم – : ( لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم) (2) .
وروى الترمذي عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله – صلي الله عليه وسلم – يقول : (عينان لا تمسهما النار ؛ عين بكت من خشية الله ، وعين باتت تحرس في سبيل الله) (3) .
وروى أحمد في (مسنده) عن أبي ريحانة قال : قال رسول الله – صلي الله عليه وسلم – : (حرمت النار على عين دمعت – أو بكت – من خشية الله ) (4) .
وأخرج الحاكم عن أنس مرفوعًا : (من ذكر الله ففاضت عيناه من خشية الله حتى يصيب الأرض من دموعه لم يعذب يوم القيامة) (5) ، فلو تدبرنا هذه النصوص الكريمة لوجدنا أثر الخشية والخوف من الله وبكاء العين يحمي العبد من النار ، ولم يذكر في كل ذلك للفم صوتًا ، بل إن حديث عبد الله بن الشخير ، رضي الله عنه ، لما قال : رأيت رسول الله – صلي الله عليه وسلم – يصلي بنا وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء .
فانظر كيف سمع أزيز الصدر ، وإنما ذلك لأنه لم يصدر من الفم للبكاء صوت ، هذا وكان العذر للإمام الذي يفتح فمه كشأن عمر ، أو من كان في خلوته يناجي ربه ويبكي ، فهل يعذره في ذلك إذا علا صوته بالنحيب في صف الصلاة خلف الإمام ؟!
وهذا محمد بن واسع يقول : لقد أدركت رجالا كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة قد بل ما تحت خده من دموعه لا تشعر به امرأته ، ولقد أدركت رجالا يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي إلى جنبه ، وقال : إن كان الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته معه لا تعلم به .
ومن حال بعض العُبَّاد أنه كان يصلي الليل والنهار لا يكاد يفتر ، فإذا كان السحر احتبى واستقبل البحر يبكي وينوح على نفسه ، فإذا أحس بإنسان أمسك .
وجاء في (الموسوعة الفقهية) : ما يفعله جهال العوام والمبتدعة الطغام من الزعيق والزئير ومن النهاق الذي يشبه نهاق الحمير ، فيقال لمن تعاطى ذلك وزعم أنه وجدٌ وخشوع : لم تبلغ أن تساوي حال الرسول – صلي الله عليه وسلم – ولا حال أصحابه في المعرفة بالله والخوف منه والتعظيم لجلاله ، ومع ذلك فكانت حالهم عند الموعظة الفهم عن الله والبكاء خوفًا من الله، ولذلك وصف الله أحوال أهل المعرفة عند سماع ذكره وتلاوة كتابه فقال : ( وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا ءَامَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) [ المائدة : 83] ، فهذا وصف حالهم وحكاية مقالهم ، ومن لم يكن كذلك فليس على هديهم ولا عرف طريقتهم ، فمن كان مستنًا فليستن بهم . (انتهى) .
فحال المؤمن الذي يجاهد نفسه ويراقب ربه حال الخائف الوجل يبكي عند ذكر الله سبحانه أولئك الذين بشرهم ربهم بقوله : ( وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ(34)الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ) [ الحج : 34 ، 35] ، ووصفهم بقوله : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) [ الأنفال : 2] ، فالعبد إذا تعرف على ربه ووثق قلبه في وعده ووعيده فزع إلى الله خوفًا من عذابه ، وطمعًا في نعيمه ، فخشع قلبه وأعضاؤه عند ذكره : ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ) [ الزمر : 23] ، هذا الخوف وذلك البكاء هو الذي جاء الوعد في حق صاحبه ألا تمسه النار ولا يلجها حتى يعود اللبن في الضرع .
وفي (تلبيس إبليس) قال ابن الجوزي : وقد لبس إبليس على خلق كثير من العوام يحضرون مجالس الذكر ويبكون ويكتفون بذلك ، ظنًا منهم أن المقصود الحضور والبكاء ؛ لأنهم يسمعون فضل الحضور في مجالس الذكر ، ولو علموا أن المقصود إنما هو العمل ، وإذا لم يعمل بما يسمع كان زيادة في الحجة عليه ، وإني لأعرف خلقًا يحضرون المجلس منذ سنين ويبكون ويخشعون ولا يتغير أحدهم عما قد اعتاده من المعاملة في الربا والغش في البيع والجهل بأركان الصلاة والغيبة للمسلمين والعقوق للوالدين ، وهؤلاء قد لبَّس عليهم إبليس فأراهم أن حضور المجلس والبكاء يدفع عنه ما يلابس من الذنوب . (انتهى) .
وإنما قصد ابن الجوزي أولئك الذين حضروا المجالس بغير قصد التدبر والتعلم للعمل وإصلاح السلوك ، لكن ابن القيم في (مدارج السالكين) يقول : قال حذيفة بن اليمان ، رضي الله عنه ، إياكم وخشوع النفاق ، فقيل له : وما خشوع النفاق ؟ قال : أن ترى الجسد خاشعًا والقلب ليس بخاشع . (انتهى) .
فكلام حذيفة يدعو العبد أن يراقب نفسه ويدعو قلبه للخشوع بالأعضاء خوفًا من النفاق وطلبًا لأن يعلو إلى منزلة الإخلاص .
ويقول في (المدارج) أيضًا : رأى عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، رجلا طأطأ رقبته في الصلاة ، فقال : يا صاحب الرقبة ارفع رقبتك ، ليس الخشوع في الرقاب ، إنما الخشوع في القلوب ، ورأت عائشة ، رضي الله عنها ، شبابًا يمشون ويتماوتون في مشيتهم ، فقالت لأصحابها : من هؤلاء ؟ قالوا : نُسَّاك ، فقالت : كان عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، إذا مشي أسرع ، وإذا قال أسمع ، وإذا ضرب أوجع ، وإذا أطعم أشبع ، وكان هو الناسك حقًا .
وفي (حلية الأولياء) : عن سفيان الثوري : البكاء عشرة أجزاء ؛ تسعة لغير الله ، وواحد لله ، فإذا جاء الذي لله في السنة مرة فهو كثير ، وقال : إذا استكمل العبد الفجور ملك عينيه يبكي بهما متى يشاء .
ولما رأى الحسن رجلاً يبكي وقد ارتفع صوته قال : إن الشيطان ليُبْكِي هذا الآن .
وقال بعض الصالحين : يأتي على الناس زمان يسكن الشيطان في أعين الناس ، فمن شاء أن يبكي بكى .
ويقول الحسن البصري: إن الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردها، فإذا خشي أن تسبقه قام.
هذا فإذا كان العبد ينبغي عليه أن يحفظ عمله من الرياء ، وقد جاءت نصوص القرآن والسنة بذلك ، ففي الصدقة قول الله تعالى : ( إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) [ البقرة : 271] .
وفي الصلاة قال سبحانه : ( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا ) [السجدة : 16] ، وفي حديث مسلم عن أبي هريرة : (أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)، وهكذا أمر الله العبد في العمل الذي يظهر على الأعضاء كالصلاة والذي يتعلق بالآخرين كالصدقة عليهم ، أمر بإخفائه ، فكيف بعمل القلب من الخشية والخوف أو العمل الذي يكون الأصل فيه السر كدمع العين يظهره صاحبه بارتفاع صوته بالبكاء في المساجد بين الصفوف يشوش على الإمام في قراءته وعلى المأموم في إنصاته وسماعه وتدبره ، ويفضح سره الذي هو بينه وبين ربه فيعرض عمله للشيطان ، بل للرياء والسمعة ، فيزول عنه كل ثواب لذلك العمل !!
بكاؤه – صلي الله عليه وسلم –
وأما بكاؤه – صلي الله عليه وسلم – ، فكان من جنس ضحكه ، لم يكن بشهيق ورفع صوت كما لم يكن ضحكه بقهقهة ، ولكن كانت تدمعُ عيناه حتى تهملا ، ويُسمع لصدره أزيزٌ ، وكان بكاؤه تارة رحمة للميت ، وتارة خوفًا على أمته وشفقة عليها ، وتارة من خشية الله ، وتارة عند سماع القرآن ، وهو بكاء اشتياق ومحبة وإجلال ، مصاحبٌ للخوف والخشية ، ولما مات ابنه إبراهيم ، دمعت عيناه وبكى رحمة له ، وقال : (تدمع العين ، ويحزن القلب ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون) (6) ، وبكى لما شاهد إحدى بناته ونفسها تفيض ، وبكى لما قرأ عليه ابن مسعود سورة (النساء) ، وانتهى فيها إلى قوله تعالى : ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ) [النساء : 41] ، وبكى لما مات عثمان بن مظعون ، وبكى لما كسفت الشمس ، وصلى صلاة الكسوف ، وجعل يبكي في صلاته ، وجعل ينفخ ، يقول : (رب ألم تعدني ألا تعذبهم وأنا فيهم وهم يستغفرون ، ونحن نستغفرك) (7) ، وبكى لما جلس على قبر إحدى بناته ، وكان يبكي أحيانًا في صلاة الليل .
أنواع البكاء (8)
والبكاء أنواع ؛ أحدهما : بكاء الرحمة ، والرفة ، والثاني ؛ بكاء الخوف والخشية ، والثالث ؛ بكاء المحبة والشوق ، والرابع ؛ بكاء الفرح والسرور ، والخامس ؛ بكاء الجزع من ورود المؤلم وعدم احتماله ، والسادس ؛ بكاء الحزن ، والسابع ؛ بكاء الخور والضعف ، والثامن ؛ بكاء النفاق ، وهو أن تدمع العين ، والقلب قاس ، فيُظهر صاحبه الخشوع ، وهو من أقسى الناس قلبًا ، والتاسع ؛ البكاء المستعار والمستأجر عليه ، كبكاء النائحة بالأجرة ، فإنها كما قال عمر بن الخطاب ، تبيعُ عبرتها ، وتبكي شجْو غيْرها ، والعاشر ؛ بكاء الموافقة ، وهو أن يرى الرجلُ الناس يبكون لأمر ورد عليهم ، فيبكي معهم ، ولا يدري لأي شيء يبكون ، ولكن يراهم يبكون ، فيبكي .
وما كان منه مستدعى متكلفًا ، فهو التباكي ، وهو نوعان ؛ محمود ، ومذموم ، فالمحمود ؛ أن يُستجلب لرقة القلب ، ولخشية الله ، لا للرياء والسُّمعة ، والمذموم ؛ أن يُجتلب لأجل الخلق ، وقد قال عمر بن الخطاب للنبي – صلي الله عليه وسلم – ، وقد رآه يبكي هو وأبو بكر في شأن أسارى بدر : أخبرني ما يُبكيك يا رسول الله ؟ فإن وجدتُ بكاء بكيتُ ، وإن لم أجد تباكيت لبكائكما ، ولم ينكر عليه – صلي الله عليه وسلم – ، وقد قال بعض السلف : ابكوا من خشية الله ، فإن لم تبكوا فتباكوا .
هل البكاء دليل الصدق ؟!
قال في (الموسوعة الفقهية) : بكاء المرء لا يدل على صدق مقاله ، ويدل على ذلك قوله تعالى في سورة (يوسف) : ( وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ ) [ يوسف : 16] ، فإن إخوة يوسف تصنعوا البكاء ليصدقهم أبوهم بما أخبروه به مع أن الذي أخبروه به كذب ، هم الذين دبروه وفعلوه ، قال القرطبي : قال علماؤنا : هذه الآية دليل على أن بكاء المرء لا يدل على صدق مقاله لاحتمال أن يكون تصنعًا ، فمن الخلق من يقدر على ذلك ومنهم من لا يقدر ، وقد قيل : إن الدمع المصنوع لا يخفى ، كما قال حكيم :
إذا اشتبكت دموع في خدود
تبين من بكى ممن تباكى
يقول ابن القيم في (التبيان) : وجعل سبحانه على اللسان غلقين ؛ أحدهما : الأسنان والثاني : الفم ، وجعل حركته اختيارية .
فابن القيم هنا يعني أن الأذن والأنف ليس عليهما أقفال ، لذا فإن العبد يحاسب في سمعه على الذي قصد إلى التسمع له وتكلف الإصغاء إليه ، وكذلك في الأنف ما تحسسه لشمه ، أما العين فعليها قفلان هما الجفنان ، والأصل في العين أنها مفتوحة ، لذا كان العفو عن العبد في بعض النظر والأمر بالغض منه خشية الوقوع في الحرام ، وفي حديث مسلم عن جرير قال : سألت النبي – صلي الله عليه وسلم – عن نظرة الفجأة فقال : (اصرف بصرك) ، وقد مكن الله العبد أن يصرف بصره بعنق يديره ، أو بجفن يغلقه ، أما اللسان فالأصل في الفم الإغلاق ، وإنما يفتح للحاجة كالكلام أو الطعام ، وقد جعل على الفم أقوى أعضاء البدن إغلاقًا في الفكين وأحكم الإغلاق للأصوات في الشفتين ، لذا كان العبد محاسبًا على كل ما يخرج من فمه ؛ لقوله تعالى : ( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد ) [ ق : 18] .
هل تبطل الصلاة بالبكاء فيها ؟
في (الفقه على المذاهب الأربعة) : الأنين والتأوه والتأفف والبكاء إذا اشتمل على حروف مسموعة فإنها تبطل الصلاة ، إلا إذا كانت ناشئة من خشية الله تعالى ، أو من مرض لا يستطيع منعها ، وهذا حكم الحنفية والحنابلة ، أما المالكية فقالوا : إن كان الأنين والتأوه والبكاء ونحوها لوجع ، أو كانت ناشئة من خشية الله ، فإنها لا تبطل الصلاة ، لكن الأنين للوجع إن كثر أبطل الصلاة ، وإلا كان حكمها كحكم الكلام ، فإن وقعت من المصلي سهوًا فإنها لا تبطل ، إلا إذا كانت كثيرة وإن وقعت عمدًا فإنها تبطل إلا إذا تعلق بها غرض لإصلاح الصلاة ، والشافعية قالوا : إن بان منه حرفان فأكثر فثلاث أحوال أن تغلب عليه فيعفى عن قليلها عرفًا ولا يعفى عن كثيرها ، ولو كانت ناشئة عن خوف الآخرة ، وإن كثرت عرفًا لا يعفى عن قليلها أيضًا إلا إذا كانت مرضًا ملازمًا .
وفي (فتح الباري) (حديث 716) : عن الشعبي والنخعي والثوري أن البكاء والأنين يفسد الصلاة – أي : البكاء مع الأنين – وعن المالكية والحنفية إن كان لذكر النار والخوف لم يفسد – ثم حكى قولاً عن القفال – إن كان فمه مطبقًا لم يفسد وإلا أفسد إن ظهر منه حرفان . (انتهى) .
فتدبر كلام القفال لتعلم أن الفساد يقع إذا لم يبذل وسعه في حبس صوته ومنعه ، وفي (الموسوعة الفقهية) ما ملخصه : يرى الحنفية أن البكاء في الصلاة إن كان لذكر الجنة والنار فإنه لا يفسدها ، وعن أبي يوسف أن هذا التفصيل إذا كان على أكثر من حرفين .
والمالكية أن البكاء بلا صوت لا يفسد الصلاة فإن كان بصوت وبغير اختيار لا يبطلها وإن كثر ، فإن كان بصوت اختياري يبطل الصلاة ، وأما الشافعية فالأصح إن ظهر منه حرفان فإنه يبطل الصلاة ولو كان من خوف الآخرة .
وأما الحنابلة قال أحمد في الأنين : إذا كان غالبًا أكرهه – أي : من وجع – وإن استدعى البكاء فيها كره . (أي : تصنعه وطلبه) .
هذا ولا حاجة بنا لاستقصاء الأمر أكثر من ذلك لأن الله سبحانه قال : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [ التغابن : 16] .
وليتدبر أولئك الذين يتبارون خلف الأئمة في الصلاة بالعويل والنحيب أن الفقهاء كادوا أن يجمعوا على بطلان صلاتهم بأصواتهم هذه ، فضلاً عن وقوع الرياء في ذلك ، والله أعلم .
—————————-
(1) (الصحيحة): (68) .
(2) (صحيح النسائي): (2911).
(3) (صحيح الترمذي) : (1338) .
(4) (ضعيف الجامع الصغير) (2706) .
(5) (ضعيف الجامع الصغير) : (5583) .
(6) (صحيح مسلم): (5 /23) .
(7) (صحيح أبي داود) : (1055) .
(8) مختصرة من (زاد المعاد) .