وجوب محبة صحابة النبي ﷺ

الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على سيدنا  محمد وعلى آله وصحبه الأخيار الأطهار الأبرار ، الذين قاموا الليل ، وجاهدوا بالنهار ، فكانوا خير عباد وزهاد وعلماء ومجاهدين ، فكانوا أبر الأمة قلوبًا ، وأصدقهم لهجة ، اختارهم الله لدينه اختيارًا ، فكانوا حملة الرسالة من رسول رب العالمين إلى الجيل الذي بعدهم ، فكانوا خير القرون قاطبة .

هذا وإن لأهل السُّنة في كل مسألة من الأصول قولاً محققًا ، وإن من أهم مسائل الأصول القول في الصحابة ، وعدالتهم وما شجر بينهم ، وهذه مسألة قد خالفت فيها فرق الضلال كلها إلا القليل على اختلاف في ذلك القول الذي ضلوا به ، وإن أهل السُّنة استمسكوا بذلك استمساكًا متينًا ، وعضوا عليه النواجذ ، وتواصوا به مع سائر المسلمين ، وحذروا من الضالين والمبتدعين .

لهذا أردت أن أفرد حديثًا خاصًا عن الصحابة في ( باب السُّنة ) ، ورأيت أن أسند القول فيه إلى عالم معروف ، فوفقني الله سبحانه وتعالى إلى القرطبي المفسر ، وكتابه ( الجامع لأحكام القرآن ) .

والقرطبي رحمه الله تعالى كان عالمًا ورعًا جليلاً ، وكان من العباد الصالحين ، الزاهدين في الدنيا المشغولين بأمور الآخرة ، حياته وأوقاته بالأعمال الصالحة عامرة ، كان يمشي بثوب واحد على رأسه طاقية ، وقد اعتنى في تفسيره بالأحكام وأسقط القصص والتواريخ إلا في النذر اليسير .

ولقد اعتنى بالرد على أهل الضلال واستنباط المعاني من الآيات التي تفند ضلالاتهم في تفسيره القيم ، لذا فإنني حاولت تتبع مواضع من تفسيره في شأن الصحابة ، فجمعت منها فصولاً حول عقيدة أهل السُّنة والجماعة في الصحابة ، وخصصت منهم الصديق – رضي الله عنه – وإن في حفظ الصحابة حفظ الدين كله ؛ لأنهم وسيلته ، وبهم نقل ، فمن طعن فيهم طعن في الدين كله ، فالمقال كله منقول من نص القرطبي بتصرف يسير يقتضيه المقام ، والله الهادي إلى الصواب .

قال القرطبي رحمه الله تعالى :

الصحابة رضوان الله عليهم اشتركوا في الصحبة ، ثم تباينوا في الفضائل بما منحهم الله من المواهب والوسائل ، فهم متفاضلون بتلك مع أن الكل شملتهم الصحبة والعدالة والثناء عليهم ، وحسبك بقول الحق : ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)[الفتح:29] ، إلى آخر السورة ، وقال : ( وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا) [ الفتح:26] ، ثم قال : ( لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَل ) [الحديد : 10]، وقال: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَة ) [ الفتح : 18] ، فعم وخص، ونفى عنهم الشين والنقص رضي الله عنهم أجمعين ، ونفعنا بحبهم. آمين ( جـ 3 ص264) .

قال تعالى : ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيم ) [ الحشر : 10] .

ذكر القرطبي عن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم أن نفرًا من أهل العراق سبُّوا أبا بكر وعمر وعثمان – رضي الله عنهم – فقال لهم : (أمن المهاجرين الأولين أنتم ؟ ) ، قالوا: لا ، فقال : أفمن الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم ؟ فقالوا : لا ، فقال : ( قد تبرأتم من هذين الفريقين ، أنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله عز وجل : ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ) [ الحشر : 10] ، فقال : قوموا فعل الله بكم وفعل ) .

( ثم قال القرطبي ) : الآية دليل على وجوب حب الصحابة ؛ لأنه جعل لمن بعدهم حظًا في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم ، وأن من سبهم ، أو سب واحدًا منهم أو اعتقد فيه شرًا إنه لا حق له في الفيء ، روى ذلك عن مالك وغيره .

( قال مالك ): من كان يبغض أحدًا من أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم -، أو كان في قلبه عليهم غل فليس له حق في فيء المسلمين، ثم قرأ الآية.

( ثم قال القرطبي ) : عن شهر بن حوشب : أدركت صدر هذه الأمة يقولون : اذكروا محاسن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى تتآلف عليهم القلوب ، ولا تذكروا ما شجر بينهم فتُجرِّوا الناس عليهم .

( وقال الشعبي ) : تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة ، سُئلت اليهود : من خير أهل ملتكم ؟ فقالوا : أصحاب موسى ، وسُئلت النصارى : من خير أهل ملتكم ؟ فقالوا : أصحاب عيسى ، وسُئلت الرافضة : من شر أهل ملتكم ؟ فقالوا : أصحاب محمد ، أُمروا بالاستغفار لهم فسبوهم ، فالسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة لا تقوم لهم راية ، ولا تثبت لهم قدم ، ولا تجتمع لهم كلمة ، كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله بسفك دمائهم وادحاض حجتهم ، أعاذنا الله وإياك من الأهواء المضلة.

( وقال القرطبي ) عند تفسير قوله : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) [ آل عمران : 110]: وإذا ثبت بنص التنزيل أن هذه الأمة خير الأمم  ، فقد روى الأئمة من حديث عمران بن حصين عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : ( خير الناس قرني ، ثم الذي يلونهم )، وهذا يدل على أن أول هذه الأمة أفضل ممن بعدهم ، وإلى هذا ذهب معظم العلماء ، وأن من صحب النبي- صلى الله عليه وسلم – ورآه ولو مرة في عمره أفضل ممن يأتي بعده ، وأن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل .

روى أبو عروة الزبيري من ولد الزبير : كنا عند مالك بن أنس فذكروا رجلا ينتقص أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، فقرأ مالك هذه الآية : ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ) حتى بلغ : ( يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّار ) [ الفتح : 29] ، فقال مالك : من أصبح من الناس في قلبه غَيْظ على أحد من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم – فقد أصابته هذه الآية ؛ ذكره الخطيب أبو بكر .

قلت : لقد أحسن مالك مقالته وأصاب في تأويله ، فمن نقص واحدًا منهم أو طعن عليه في روايته فقد رَدّ على الله ربِّ العالمين ، وأبطل شرائع المسلمين ، قال تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ) الآية [ الفتح : 29] ، وقال : ( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَة ) [الفتح : 18] ، إلى غير ذلك من الآيات التي تضمنت الثناء عليهم ، والشهادة لهم بالصدق والفلاح ، قال الله تعالى : (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ) [ الأحزاب : 23]  ، وقال : (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ ورضوانًا – إلى قوله : –  أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) [ الحشر :8] ، ثم قال عزَّ من قائل : (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ – إلى قوله – فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ   ) [ الحشر :9] ، وهذا كله مع علمه تبارك وتعالى بحالهم ومآل أمرهم ، وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ( خَيْرُ الناسِ قَرْنِي ، ثم الذين يلونهم ) ، وقال : ( لا تَسُبُّوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحُدٍ ذهبًا لم يدرك مُد أحدهم ولا نَصيفه ) [خرجهما البخاري ) .

وروى عويم بن ساعدة قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ( إن الله عز وجل اختارني واختار لي أصحابي ، فعجل لي منهم وزراء وأختانًا وأصهارًا ، فمن سَبَّهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، ولا يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلاً ) (1) .

والأحاديث بهذا المعنى كثيرة فحذار من الوقوع في أحد منهم ، فقد مدحهم الله ووصفهم وأثنى عليهم ، ووعدهم مغفرة وأجرًا عظيمًا ، فمن نسب واحدًا من الصحابة إلى الكذب فهو خارج عن الشريعة ، مبطل للقرآن ، طاعن على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، ومتى ألحق واحد منهم تكذيبًا فقد سُبَّ ؛ لأنه لا عار ولا عَيْب بعد الكفر بالله أعظمُ من الكذب ، وقد لعن رسول الله- صلى الله عليه وسلم – من سَبَّ أصحابه ؛ فالمكذَّب لأصغرهم – ولا صغير فيهم – داخلٌ في لعنة الله التي شهد بها رسول الله- صلى الله عليه وسلم – ، وألزمها كل من سَبَّ واحدًا من أصحابه أو طعن عليه . 

 وعن عمر بن حبيب قال : حضرت مجلس هارون الرشيد ، فجرت مسألة تنازعها الحضور، وعَلَت أصواتهم ؛ فاحتج بعضهم بحديث يرويه أبو هريرة عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم – ؛ فرفع بعضهم الحديث ، وزادت المدافعة والخصام حتى قال قائلون منهم : لا يُقبل هذا الحديث على رسول الله- صلى الله عليه وسلم – ؛ لأن أبا هريرة مُتَّهَم فيما يرويه ، وصرحوا بتكذيبه ، ورأيت الرشيد قد نحا نحوهم ونصر قولهم ، فقلت أنا : الحديث صحيح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، وأبو هريرة صحيح النقل صدوق فيما يرويه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وغيره ؛ فنظر إليَّ الرشيد نظر مُغْضِب ، وقمت من المجلس، فانصرفت إلى منزلي ، فلم ألبث حتى قيل : صاحب البريد بالباب ؛ فدخل فقال لي : أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول وتحنّط وتكفّن ! فقلت : اللهم إنك تعلم أني دفعت عن صاحب نبيك، وأجللت نبيّك أن يطعن على أصحابه ، فَسلّمْني منه ، فأدخلت على الرشيد وهو جالس على كرسي من ذهب ، حاسر عن ذراعيه ، بيده السيف وبين يديه النّطْع – بساط من الأديم- فلما بَصْرَ بي قال لي : يا عمر بن حبيب ما تلقاني أحد من الرد والدفع لقولي بمثل ما تلقيتني به ؛ فقلت : يا أمير المؤمنين ؛ إن الذي قلته وجادلت عنه فيه ازدراء على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وعلى ما جاء به ؛ إذا كان أصحابه كذابين فالشريعة باطلة ، والفرائض والأحكام في الصيام والصلاة والطلاق والنكاح والحدود كله مردود غير مقبول ؛ فرجع إلى نفسه ، ثم قال : أحييتني يا عمر بن حبيب أحياك الله ! وأمر لي بعشرة آلاف درهم .

قلت : فالصحابة كلهم عدول ، أولياء الله تعالى وأصفياؤه ، وخيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله ، هذا مذهب أهل السُّنة ، والذي عليه الجماعة من أئمة هذه الأمة ، فإن خيار الصحابة وفضلاءهم كعلي ، وطلحة ، والزبير ، وغيرهم رضي الله عنهم ممن أثنى الله عليهم وزكاهم، ورضي الله عنهم وأرضاهم ، ووعدهم الجنة بقوله تعالى : (مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) ، وخاصة العشرة المقطوع لهم بالجنة بإخبار الرسول – صلى الله عليه وسلم – هم القُدْوَة مع علمهم بكثير من الفتن والأمور الجارية عليهم بعد نبيهم بإخباره لهم بذلك ، وذلك غير مسقط  من مرتبتهم وفضلهم ؛ إذ كانت تلك الأمور مبنية على الاجتهاد ، وكل مجتهد مصيب .

لا يجوز أن يُنسب إلى أحد من الصحابة خطأ مقطوع به ، إذ كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه وأرادوا الله عز وجل ، وهم كلهم لنا أئمة ، وقد تعبدنا بالكف عما شجر بينهم ، وألا نذكرهم إلا بأحسن الذكر ؛ لحرمة الصحبة ، ولنهي النبي – صلى الله عليه وسلم – عن سَبّهم ، وأن الله غفر لهم ، وأخبر بالرضا عنهم ، هذا مع ما قد ورد من الأخبار من طرق مختلفة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أن طلحة شهيد يمشي على وجه الأرض ؛ فلو كان ما خرج إليه من الحرب عصيانًا لم يكن بالقتل فيه شهيدًا ، وكذا لو كان ما خرج إليه خطأ في التأويل وتقصيرًا في الواجب عليه ؛ لأن الشهادة لا تكون إلا بقتل في طاعة ، وفوجب حمل أمرهم على ما بيناه ، ومما يدل على ذلك ما قد صح وانتشر من أخبار علي بأن قاتل الزبير في النار، وقوله : سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول : ( بشر قاتل ابن صفية بالنار ) ، وإذا كان كذلك فقد ثبت أن طلحة والزبير غير عاصيين ولا آثمين بالقتال ؛ لأن ذلك لو كان كذلك لم يقل النبي- صلى الله عليه وسلم – في طلحة : ( شهيد ) ، ولم يخبر أن قاتل الزبير في النار ، وكذلك من قعد ، غير مخطئ في التأويل ، بل صواب طريق الاجتهاد ، وإذا كان كذلك لم يوجب ذلك لعنهم والبراءة منهم وتفسيقهم ، وإبطال فضائلهم وجهادهم ، وعظيم غنائهم في الدين رضي الله عنهم ، وقد سئل بعضهم عن الدماء التي أريقت فيما بينهم فقال: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[البقرة:141] ، وسئل بعضهم عنها أيضًا فقال : تلك دماء قد طهر الله منها يدي ؛ لا أخْضِب بها لساني – يعني : التحرز من الوقوع في خطأ – والحكم على بعضهم بما لا يكون مصيبًا فيه .

قال ابن فُورَك: ومن أصحابنا من قال: إن سبيل ما جرت بين الصحابة من المنازعات كسبيل ما جرى بين إخوة يوسف مع يوس؛ ثم إنهم لم يخرجوا بذلك عن حدّ الولاية والنبوة ؛ فكذلك الأمر فيما جرى بين الصحابة .

وقال المحاسبي  : فأما الدماء فقد أشكل علينا القول فيها باختلافهم ، وقد سئل الحسن البصري عن قتالهم فقال : قتال شهده أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – وغِبْنا ، وعلموا وجهلنا، واجتمعوا فاتبعنا ، واختلفوا فوقفنا ، قال المحاسبي : فنحن نقول كما قال الحسن ؛ ونعلم أن القوم كانوا أعلم بما دخلوا فيه منَّا ، ونتبع ما اجتمعوا عليه ، ونقف عندما اختلفوا فيه ، ولا نبتدع رأيًا منا ، ونعلم أنهم اجتهدوا وأرادوا الله عز وجل ؛ إذ كانوا غير متهمين في الدين ، ونسأل الله التوفيق .

( وقال القرطبي ) عند قوله تعالى : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران : 144] ، هذه الآية الكريمة دليل على شجاعة الصديق وجراءته ، فإن الشجاعة والجرأة حدها ثبوت القلب عند حلول المصائب ، ولا مصيبة أعظم من موت النبي – صلى الله عليه وسلم – ، فظهرت عنده شجاعته وعلمه ، قال الناس ، لم يمت رسول الله- صلى الله عليه وسلم – ، منهم عمر ، وخرس عثمان ، واستخفى علي ، واضطرب الأمر ، فكشفه الصديق بهذه الآية حين قدومه من مسكنه، كذا في البخاري .

وفي ( سنن ابن ماجه ) عن عائشة قالت : ( لما قُبض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأبو بكر عند امرأته – ابنة خارجة – بالعوالي ، فجعلوا يقولون : لم يمت النبي- صلى الله عليه وسلم – إنما هو بعض ما كان يأخذه عند الوحي ، فجاء أبو بكر فكشف عن وجهه وقبل بين عينيه وقال : أنت أكرم على الله أن يميتك مرتين ، قد والله مات رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، وعمر في ناحية المسجد يقول : والله ما مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم – ، ولا يموت حتى يقطع أيدي أناس من المنافقين كثير وأرجلهم ، فقام أبو بكر فصعد المنبر فقال : من كان يعبد الله فإن الله حي لم يمت ، ومن كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ …. ) الآية ، قال عمر : فلكأني لم أقرأها إلا يومئذ ) .

( وقال القرطبي ) عند قوله تعالى : ( ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ ) [ التوبة : 40] ، قال ابن العربي : قالت الإمامية – قبحها الله – : ( حُزن أبي بكر في الغار دليل على جهله ونقصه ، وضعف قلبه وخرقه ؟ ) .

وأجاب علماؤنا عن ذلك : بأن إضافة الحزن إليه ليس بنقص كما لم ينقص إبراهيم عليه السلام حين قال عنه : ( نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ) [ هود : 70] ، ولم ينقص موسى عليه السلام قوله : ( فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى(67) قُلْنَا لَا تَخَفْ ) [طه : 67 ، 68] ، وفي لوط عليه السلام :  ( لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِين ) [ العنكبوت :33] ، فهؤلاء العظماء – صلوات الله عليهم – قد وُجِدَ ذلك عندهم نصًا ، ولم يكن ذلك طعنًا عليهم ، ووصفًا لهم بالنقص ، وكذلك في أبي بكر ، ثم هي عند الصديق احتمال ، فإنه قال : لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا .

جواب ثاني: أن حزن الصديق إنما كان خوفًا على النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يصل إليه ضرر ، ولم يكن النبي – صلى الله عليه وسلم – في ذلك الوقت معصومًا من الضرر، وإنما نزل عليه : (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) [المائدة : 67] بالمدينة .

وقال ابن العربي عن القاسم : قال موسى عليه السلام : (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ) [الشعراء : 62] ، وقال في محمد- صلى الله عليه وسلم – : (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) [التوبة : 40] ، لا جرم لما كان الله مع موسى عليه السلام وحده ارتد أصحابه بعده ، فرجع من عند ربه ووجدهم يعبدون العجل ، ولما قال في محمد – صلى الله عليه وسلم – : ( لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) بقي أبو بكر مهتديًا موحدًا عالمًا جازمًا قائمًا بالأمر ولم يتطرق إليه اختلال .

ثم ساق القرطبي قول عمر : من له مثل هذه الثلاث : ( ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) [ التوبة : 40] ( من هما ) ؟ قال : ثم بسط يده فبايعه، وبايعه الناس بيعة حسنة جميلة .

 ثم قال القرطبي : ولهذا قال بعض العلماء في قوله : ( ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ ) ما يدل على أن الخليفة بعد النبي أبو بكر الصديق ؛ لأن الخليفة لا يكون أبدًا إلا نائبًا .

( قال القرطبي ) : قد جاء في السُّنة الصحيحة أحاديث يدل ظاهرها على أنه الخليفة بعده ، وقد انعقد الإجماع على ذلك ولم يبق منهم مخالف ، والقادح في خلافته مقطوع بخطئه وتفسيقه ، وهل يكفر أم لا ؟ يختلف فيه ، والأظهر تكفيره ، والذي يقطع به من الكتاب والسُّنة وأقوال علماء الأمة ويجب أن تؤمن به القلوب والأفئدة فضل الصديق على جميع الصحابة ، ولا مبالاة بأقوال أهل التشيع ولا أهل البدع ، فإنهم بين مكفر تضرب عنقه ، وبين مبتدع مفسق لا تقبل كلمته ، ثم بعده الصديق عمر الفاروق ، ثم بعد عثمان ، واختلف أئمة أهل السلف في عثمان وعلي ، فالجمهور على تقديم عثمان .

قال القرطبي : ( فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ) [ التوبة : 40] ، فيه قولان : أحدهما على النبي – صلى الله عليه وسلم – ، والثاني : أبي بكر ، فقال أبو بكر بن العربي : قال علماؤنا وهو الأقوى ؛ لأنه خاف على النبي- صلى الله عليه وسلم – من القوم ، فأنزل الله سكينته عليه بتأمين النبي- صلى الله عليه وسلم -، فسكن جأشه، وذهب روعه، وحصل الأمن.(انتهى ) .

تلك مقتطفات يسيرة نقلتها من ( تفسير القرطبي ) للقرآن في عدالة الصحابة وأولهم أبو بكر رضي الله عنه ، والواجب على المسلم حبهم وسلامة القلب نحوهم ، واعتقاد أن الله اختارهم لتبليغ رسالته ، فقاموا بها خير قيام .

ولله الحمد والمنة ، ومنه العون وعليه التكلان.