العتق في الإسلام

تحدثنا عن طرف من نظام الرق والموالاة ونكمل الحديث ببيان جميل معاملة المسلم للعبد الذى تحت يده ، فعن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى – صلي الله عليه وسلم – قال: ” قال الله تعالى : ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ، ومن كنت خصمه خصمته : رجل أُعطي بي ثم غدر ، ورجل باع حراً فأكل ثمنه ، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره ” (1)

معاملة الرقيق :

يقول الله تعالى : ” وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ” ( النساء : 36 ) .

وعن أبى ذر رضى الله عنه قال : قال رسول الله – صلي الله عليه وسلم – : ” هم إخوانكم وخولكم جعلكم الله تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم ، فإن كلفتموهم فأعينوهم ” ( متفق عليه ) ولقد كانت آخر وصايا النبى – صلي الله عليه وسلم – وهو على فراش الموت ( الصلاة وما ملكت أيمانكم ) .

أجر المملوك عند الله :

عن ابن عمر رضى الله عنهما قال : قال رسول الله – صلي الله عليه وسلم – : ” إن العبد إذا نصح لسيده وأحسن عبادة الله فله أجره مرتين ” ( متفق عليه ) .

وروى البخارى عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: قال رسول الله – صلي الله عليه وسلم-: ” ثلاثة لهم أجران : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد – صلي الله عليه وسلم -، والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه ، ورجل كانت له أمة فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها فله أجران ” .

وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال رسول الله – صلي الله عليه وسلم – : ” للعبد المملوك المصلح أجران ” . والذى نفس أبى هريرة بيده لولا الجهاد فى سبيل الله والحج وبر أمى لأحببت (*) أن أموت وأنا مملوك . ( متفق عليه ) .

هذه لمحة عن نظام الرق الذى حرر به العبيد ، وجعل لهم نظام ولاء عوضهم الله عن أهليهم وقبائلهم بالإسلام بديلاً ، فجعلهم يلقون حسن معاملة فى حياتهم الدنيا ويعوضون عن ذلك بالغ الأجر ورفيع الثواب فى الآخرة ، ويفتح لهم باب الخروج من الرق واسعاً حتى صار منهم كما قدمنا السادة والقادة .

والآن نقدم كلمات نختصرها عن نظام الرق فى القديم وفى الحديث عند غير المسلمين .

قال العقاد فى كتاب ” حقائق الإسلام وأباطيل خصومه ” :

شرع الإسلام العتق ولم يشرع الرق . إذ كان الرق مشروعاً قبل الإسلام فى القوانين الوضعية والدينية بجميع أنواعه : رق الأسر فى الحروب ، ورق السبى فى غارات القبائل بعضها على بعض ، ورق البيع والشراء ، ومنه رق الاستدانة أو الوفاء بالديون .

وكانت اليهودية تبيحه ، ونشأت المسيحية وهو مباح فلم تحرمه ، ولم تنظر إلى تحريمه فى المستقبل . وأمر بولس الرسول العبيد بإطاعة سادتهم كما يطيعون السيد المسيح ، فقال فى رسالة إلى أهل أفسس :

أيها العبيد ! أطيعوا سادتكم حسب الجسد بخوف ورعدة فى بساطة قلوبكم كما للمسيح ، ولا بخدمة العين كمن يرضى الناس ، بل كعبيد المسيح عاملين مشيئة الله من القلب ، خادمين بنية صالحة كما للرب ليس للناس ، عاملين أنه مهما عمل كل واحد من الخير فذلك يناله من الرب عبداً كان أم حراً .

وأوصى الرسول بطرس بمثل هذه الوصية ، وأوجبها آباء الكنيسة ، لأن الرق كفارة من ذنوب البشر يؤديها العبيد لما استحقوه من غضب السيد الأعظم . وأضاف القديس الفيلسوف توما الإكوينى رأى الفلسفة إلى رأى الرؤساء الدينيين ، فلم يعترض على الرق بل زكاه ، لأنه على رأى أستاذه أرسطو : حالة من الحالات التى خلق عليها بعض الناس بالفطرة الطبيعية ، وليس مما يناقض الإيمان أن يقنع الإنسان من الدنيا بأهون نصيب .

ومذهب أرسطو فى الرق : أن فريقاً من الناس مخلوقون للعبودية ، لأنهم يعملون عمل الآلات التى يتصرف فيها الأحرار ذوو الفكر والمشيئة . فهم آلات حية تلحق فى عملها بالآلات الجامدة ، ويحمد من السادة الذين يستخدمون تلك الآلات الحية أن يتوسموا فيها القدرة على الاستقلال والتمييز فيشجعوها ويرتقوا بها من منزلة الأداة المسخرة إلى منزلة الكائن العاقل الرشيد .

وأستاذ أرسطو – أفلاطون – يقضى فى جمهوريته الفاضلة بحرمان العبيد حق ( المواطنة ) وإجبارهم على الطاعة والخضوع للأحرار من سادتهم أو من السادة الغرباء ، ومن تطاول منهم على سيد غريب أسلمته الدولة إليه ليقتص منه كما يريد .

وقد شرعت الحضارة اليونانية نظام الرق العام ، كما شرعت نظام الرق الخاص أو تسخير العبيد فى خدمة البيوت والأفراد فكان للهياكل فى آسيا الصغرى أرقاؤها الموقوفون عليها ، وكانت عليهم واجبات الخدمة والحراسة ولم يكن من حقهم ولاية أعمال الكهانة والعبادة العامة .. حتى قال : .. والذى أباحه الإسلام من الرق مباح اليوم فى أمم الحضارة التى تعاهدت على منع الرقيق منذ القرن الثامن عشر إلى الآن لأن الأمم التى اتفقت على معاهدات الرق تبيح الأسر واستبقاء الأسرى إلى أن يتم الصلح بين المتحاربين على تبادل الأسرى أو التعويض عنهم بالفداء والغرامة .

( ثم يقول ) فى آخر الفصل : إن وصايا الإسلام فى مسألة الرق خولفت كثيراً ، وكان من مخالفيها كثير من المسلمين ولكن الإسلام – على الرغم من هذه المخالفات المنكرة – لا يضيره ولا يغض منه قضاء التجربة العملية عند الموازنة بين جناية جميع المسلمين على الأرقاء ، وجناية الآخرين من أتباع الأديان الكتابية – فالقارة الأفريقية – فى بلاد السود – مفتوحة أمام أبناء السواحل المجاورة لها منذ مئات السنين ولم تفتح للنخاسين من الغرب إلا بعد اتصال الملاحة على ساحل البحر الأطلسى فى العالم القديم والعالم الجديد .

وفى أقل من خمسين سنة نقل النخاسون الغربيون جموعاً من العبيد السود تبلغ عدة الباقين من ذريتهم – بعد القتل والاضطهاد – نحو خمسة عشر مليوناً فى الأمريكتين : عدد يضارع خمسة أضعاف ضحايا النخاسة فى القارات الثلاث منذ أكثر من ألف سنة ، وهو فارق جسيم بحساب الأرقام يكفى للإبانة عن الهاوية السحيقة فى التجربة العملية بين النخاستين ، ولكنه فارق هين إلى جانب الفارق فى حظوظ أولئك الضحايا بين العالم القديم والعالم الجديد ، فإن الأمريكتين إلى اليوم أمة من السود معزولة بأنسابها وحظوظها وحقوقها العملية . وليس فى بلد من بلاد الشرق أمة من هذا القبيل ، لأن الأسود الذى ينتقل إليها يحسب من أهلها بعد جيل واحد ، له ما لهم ، وعليه ما عليهم بغير حاجة إلى حماية من التشريع إلى نصوص الدساتير . ( انتهى كلام العقاد ) .

قارن بين نظام الإسلام أيها اللبيب وبين النظم المعاصرة ، أوجد الإسلام للرق عتقاً وأوجدت الحضارة الحديثة للأحرار رقاً مع الدعاوى العريضة بحقوق إنسان انتهكوها . وبحرية لفرد استعبدوه ، لأنها المناهج الباطلة تتحكم ، والأهواء والآراء تقضى وتحكم ، ولا تزال أمريكا إلى اليوم دولة التقدم يعانى فيها الملون ما يضيق المقام عن وصفه . فالإسلام دين الله يحل المعضلات ويزيل المشكلات ويرسى قواعد العدل والإخاء ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ” . ففى مجتمع الإسلام علاج لعثرات الناس ، ورفع لكبواتهم . فإذا غاب عن إنسان نسبة أو انخلع من قومه لإسلام بعد كفر ، فإن الإسلام يسعه برحابة صدر ، وجميل استقبال فلا ينبذه أو يعزله فى ملجأ ، يخرج يحقد على الناس من حوله إنما يجعل له الولاء فى الإسلام حتى قال النبى – صلي الله عليه وسلم – : ” مولى القوم من أنفسهم ” (2) وساواه مع ابن الأخت فى حديثه – صلي الله عليه وسلم – فقال : ” ابن أخت القوم من أنفسهم ” (3) .

ولاء الإسلام :

مجتمع المسلمين يجعل أهله كُلا على من عاداهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، لذا فإنه يجعل من اسلم على يدى رجل من المسلمين فهو أولى الناس به ليس ولاء الميراث إنما ولاء النصرة .

وفى ولاء الإسلام : حديث تميم الدارى الذى علقه البخارى ، ووصله غيره ونصره العينى فى العمدة ، أن تميماً الدارى قال : يا رسول الله ما السنة فى الرجل يُسلم على يدى الرجل من المسلمين ؟ فقال : ” هو أولى الناس بمحياه ومماته ” .

نقل ابن حجر فى الفتح ، عن ابن بطال قال : لو صح الحديث لكان تأويله أنه أحق الناس بموالاته فى النصر والإعانة والصلاة عليه إذا مات ونحو ذلك .

ولاء اللقيط :

يقول الله سبحانه : ” ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا ءَابَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ” .

كان الرجل فى الجاهلية إذا أعجبه الرجل ضمه إلى نفسه ، وجعل له نصيب الذكر من أولاده، وكان يُنسب إليه فيقال : فلان ابن فلان ، فجاء الإسلام بنسخ ذلك فأمر أن يدعوا إلى آبائهم إذا كانوا معروفين ، فإن لم يكن له أب معروف نسبوه إلى ولائه ، فإن لم يكن له ولاء معروف قال له : يا أخى يعنى فى الدين لقوله تعالى : ” إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ” ( فيقال : فلان أخو بنى فلان ) . يقول ابن كثير : أمر تعالى برد أنساب الأدعياء إلى آبائهم إن عرفوا ، فإن لم يعرفوا آباءهم فهم إخوانهم فى الدين ومواليهم . أى : عوضاً عما فاتهم من النسب ، ولهذا قال رسول الله – صلي الله عليه وسلم – لزيد بن حارثة : ” أنت أخونا ومولانا ” .

أخرج الطبرانى فى تفسيره بسنده إلى عيينه بن عبد الرحمن ، عن أبيه قال : قال أبو بكرة : قال الله : ” ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا ءَابَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ” فأنا ممن لا يعرف أبوه . وأنا من إخوانكم فى الدين قال : قال أبى : والله إنى لأظنه لو علم أن أباه كان حماراً لانتمى إليه (4) .

عن سيرة ابن هشام ( كان أبو مليح بن عروة وقارب بن الأسود قدما على رسول الله – صلي الله عليه وسلم – قبل وفد ثقيف حين قتل عروة يريدان فراق ثقيف وألا يجامعاهم على شىء ابداً فأسلما . فقال لهما رسول الله – صلي الله عليه وسلم – : ” توليا من شئتما ” فقال : نتولى الله ورسوله ، فقال رسول الله – صلي الله عليه وسلم – : ” وخالكما : أبا سفيان بن حرب ” ، فقالا : وخالنا أبا سفيان بن حرب ) .

وبعد فهذه الجولة التى طالت وتناولت موضوعات هامة ومسائل جليلة فى بر الوالدين ، ثم حكم الرقيق ، والعتق فى الإسلام وكان للموضوع استطراد ظهر فيه – على سرعة التناول – جمال الإسلام فهو الوعاء الحقيقى للإنسانية يزيل عنها أخطاءها ، ويرفع عنها آصارها – ويحنو عليها عند ضعفها ليأخذ بيدها – ولا عجب فالإسلام دين الله الخالق ، ودين الله الذى أعطى كل شىء خلقه ثم هدى . دين الله الذى يأخذ بالإنسان فى كبوته ليخرجه منها جواداً شجاعاً كريماً ، فإن كبا العبد فحارب الإسلام فوقع رقيقاً رفق به فأحسن إليه المعاملة ، وفتح له أبواب التعلم ، ثم أبواب التعبد ، ووعده أجزل الوعود فى الآخرة بمضاعفة الثواب ثم فتح له أبواب الخلاص من الرق فى الدنيا واسعة فى شريعة الإسلام .

وكذلك إن خرج عبد من كبوة لا ذنب له فيها فوجد لقيطاً لا يدرى من والده ، أو لا يدرى من أبوه فالإسلام نسبه وولاؤه والمسلمون إخوانه ” فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ” وليت القانون عندنا ينتبه إلى هذه فيجعل من أراد أن يسمى مولوداً لقيطاً لم يجد له من أهل يعرفون أن يختار له ولاء عوضاً له عن نسبه فيقال : فلان مولى فلان أو كلمة نحوها مما أقر عليه الإسلام .

وكذلك إذا لجأ الكافر للإسلام أسمعه كلام الله ثم أبلغه مأمنه . فإذا دخل فى الإسلام وجد له فى الإسلام ولاء يكفيه عن عشيرته ويأخذ بيده فيصير لهم أخاً .

ولا حاجة بنا إلى المقارنة مع الأنظمة المعاصرة للأمم الكافرة . فكم استعبدت أحراراً عددهم بالملايين ثم جعلتهم بين الناس منبوذين ، وحرمتهم وظائف وأماكن من أرض الله خالقهم فضلاً عن مخالطتهم ، فإذا حاربت فأسرت من المحاربين فمعسكرات الأسرى حدث عن التعذيب فيها ولا حرج ثم تدعى أنها حضارة وحديثة .

فالحمد الله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة تأخذ بالعبد لترفع شأنه فى الدنيا والآخرة .

تلك لمحات عن صفحة مضيئة من صفحات الإسلام الذى ندعو الله أن تشرق علينا شمسه من جديد وأن تختفى عنا كل عيوب المخالفة له ، والخروج عن شرعه آمين آمين .

————————–

(*) قارن بين قول أبى هريرة رضى الله عنه وقول المطيعى فى أمنيته لعلك أن تجد وجهاً للشبه بينهما .

رواه البخارى رقم (2227،2270) من حديث أبى هريرة .

(1) رواه البخارى رقم (6761) من حديث أنس .

(2) رواه البخارى رقم (6762) من حديث أنس .

(3) الطبرى (21/121) .