هل ينظرون ؟

الحمد لله رب العالمين بدأ إنزال القرآن بقوله : ” اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ” ( العلق : 1 ) ليدل الناس على أنه المربى للخلق ، وتمام تربيته لخلقه إنما تكون بالعمل بشرعه ، فإن الإنسان كمخلوق مكلف بقوله : ” اقْرَأْ ” وفى الآية من العبر والعظات والعطاء الجميل فوق الوصف والإحصاء والعد ، وسنحاول – مستعينين بالله تعالى بيان طرف من ذلك .

أولاً : الله الذى أنزل الشرع ، وأمر بقراءته للعمل به ، هو الذى أبدع خلق الخلق ونظمه ، وبنظرة إلى الخلق نجد أن أسباب الحياة قد أودعها رب العزة ، وجعلها فى كونه موفورةً وفوق الكفاية دائماً . فالهواء يتجدد ولا ينفذ من عناصره شىء . ولا يختل فى نسبته . وضوء الشمس وحرارتها مستمر بقدر الحاجة ، بل فوق الكفاية وإلى حد الوفرة ، وكذلك الماء والنبات ، حتى أسماك البحار لايراها إلا الله ، فهى فوق الكفاية ، وغير ذلك . فالذى خلق الكون وجعله بهذا العطاء الطويل فى أمده ، بحيث يصبح أمده الذى هو عمره لا نعرف له بداية ، مع يقيننا أن للكون بداية (1) ، فليس الكون أزلياً . هو الذى أنزل الشرع من بداية معلومة (2) هى أقرب كثيراً من بداية الكون ، فإذا أخبر سبحانه عن كفاية شرعه لخلقه فهو حق وصدق ، لا يمارى فيه إلا مطموس البصيرة ، مغلف الفؤاد ، مغلق الفكر ، يلقى القول على عواهنة بغير دليل أو برهام .

فالذى أودع فى الكون تجدده وكفايته هو الذى أودع فى الشرع صلاحه وكفايته وملائمته .

ثانياً : فإذا كان الكون لا يستطيع الخلق أن يغيروا من أصوله من شمس فى ضوئها ، ولا هواء فى تركيبه ، ولا من ماء فى نزوله ونبعه وملوحته وعذوبته ، فكذلك الشرع لا يستطيع الخلق أن ينالوا من أصوله ، لأنها فى ثلاث : فى قرآن حفظه الله سبحانه بحروفه ولفظه ، وفى سنة أبقى الله لها حفظة ، ميزوا صحيحها من سقيمها ، حتى صار أهلها بين الناس معروفين ، يميزوا كما يميز الصانع المعدن النفيس من المعدن الخسيس ، والثالث : أن الله أبقى رجالاً فى أجيال ثلاثة الصحابة والتابعين وتابعهم ، وهم الذين حفظ الله بهم العلم ، فردوا على الشبهات ، وميزوا بين المتشابهات ، وأزالوا الغموض ، وكشفوا الضلالات ، فالذى جعل الكون ثابت القواعد متجدد العطاء هو الذى أنزل الشرع ، وأخبرنا أنه كاف خلقه ، ليحكموه ويعلموا به ، وأن الحاكم بغير ما أنزل الله كافر فاسق ظالم .

ثالثاً : كون الله يمكن أن يظهر آثار إفساد الخلق فيه بأعمالهم ، لقوله تعالى : ” ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ” ( الروم : 41 ) بينما الله أتم شرعه وأحكم دينه يوم أن نزل : ” الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ” ( المائدة : 3 ) ووصفه بقوله : ” كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءَايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ” ( هود : 1 ) . فالماء فى مجاريه قد يسلط المفسدون عليه ما يؤثر فى بقائه أو يفقده صلاحيته ، والهواء قد يبثوا فيها دخاناً أو غازات سامة . ومع ذلك فإن كون الله بعناصر تجديده ، قد أودع الله فيه أسراره فهو يجدد نفسه ، ويزيل الخبث الذى أصابه ، ويعود إلى نقائه بالعوامل التى أودعها الله سبحانه فيه ، فنحن نلوث الماء فنتخلص منه ، والله يسلط شمسه فتبخر الماء ، وتترك الخبيث ، وطبقات الأرض ترشح الماء ، وتحمل عنه الكدر ، حتى إذا تجمع سحباً كان نقياً وإن اختزن فى باطن الأرض كان صافياً صالحاً .

رابعاً : الله سبحانه وتعالى قد أذن لسننه الدائمة ، فأحدث فيها اختلافاً ، فالشمس المشرقة قد يأذن الله لها فتنكسف ، والقمر فى ظهوره بدراً قد يأذن الله له فيخسف ، والأرض الثابتة قد يوحى الله لها فتتزلزل ، والسماء الممطرة قد تُمسك ، بل إن من قواعد الكون أن قدر رب العزة سبحانه ألا يخلق إنسان إلا بين رجل وامرأة جعل للرجل نطفة وللمرأة نطفة ورحماً تلتقى النطفتان فى الرحم ، فيقلب الله سبحانه أطوارها حتى تصير طفلاً يولد . لكن الله سبحانه أذن بخلق آدم بغير نطفة ولا رحم ، وخلق حواء من رجل بغير نطفة امرأة ولا رحم ، ثم خلق عيسى من نطفة امرأة وفى رحمها بغير نطفة رجل ، فهذا خلق الله يأذن فيه سبحانه ، فيحدث فيه اختلافاً . أما الشرع فهو ثابت القواعد منذ أنزله . فالربا حرام كله ، والزنا فاحشة لا تحل أبداً ، وهكذا فى سائر الفرائض والأركان ، والمحرمات فى الإسلام شرع ثابت لا تناله يد بشر فتغيره ، ولا يحدث فيه ما يعكره ، لأنه شرع الله الذى خلق .

خامساً : الله الذى خلق هو الذى أنزل الشرع ، فهو يخلق له أسباب الحماية والبقاء ، لذلك فإنه سبحانه يقول : ”  وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ” ( محمد : 38 ) ويقول: ” يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ .” الآية ( المائدة : 54 ) .

فالإسلام غنى عن الخلق باقٍ مهما حدثت الضلالات ، أو تجمعت قوى الكفر والشر تريد إزالته ، لأنه شرع الله سبحانه ، يحميه الله بقدره وخلقه ، بل يحمى من انتسب إليه وعمل به ، فمن أراد الحماية فهى فى شرع الله سبحانه ، يتولاها بنفسه ، وهو على كل شىء قدير .

هذه اللمحات يدل عليها قول الله سبحانه فى أول ما أنزل من الشرع : ” اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ” لنكون واعين متدبرين أن الخالق هو صاحب الشرع سبحانه ، وهو يغنى شرعه بنفسه، فإذا كان الخلق لا تزال عناصره تمد الخلق بأسباب الحياة ، فالشرع أحدث من ذلك ، وأولى أن يكون منه أسباب الحياة أوفر وأغزر فالعاقل من عمل بشرع الله فى كونه ، والسفيه من ظن أن شرعاً غير شرعه يمكن أن ينجيه فى الدنيا فضلاً عن الآخرة . فهيا إلى الشرع حاكماً فى كل أمور حياتنا ، لأن الله قال : ” اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ” والله من وراء القصد .

——————-

(1) أخرج البخارى عن عمران بن حصين قال : دخل على النبى – صلى الله عليه وسلم – ناسٌ من أهل اليمن قالوا : جئنا نسألك عن أول هذا الأمر . قال : ” كان الله ولم يكن شىء قبله وكان عرشه على الماء ، ثم خلق القلم فقال : اكتب ما هو كائن ثم خلق السموات والأرض وما فيهن ” يقول الحافظ فى الفتح : فصرح بترتيب المخلوقات بعد العرش والماء .

(2) أخرج البخارى عن عائشة – رضى الله عنها – قالت : أول ما بدىء به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الوحى الرؤيا الصالحة فى النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح . ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه الليالى ذوات العدد . قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها . حتى جاءه الحق فى غار حراء ، فجاء الملك فقال : اقرأ .. ( إلخ ) .