أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به، والصيام جُنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإنه سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخُلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه».
هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في خمسة من صحيحه بألفاظ متقاربة عن أبي هريرة رضي الله عنه:
هذا الموضع عن أبي صالح عنه، وموضع قبله في الصحيح عن الأعرج عنه، والموضع الذي بعد هذا عن ابن المسيب عنه، والذي بعده عن أبي صالح عنه، والموضع الأخير عن محمد بن زياد عنه .
وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، وعن الأعرج عنه، وعن أبي صالح عنه.
من فوائد الصيام
قال ابن القيم رحمه الله: المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية، ويكسر الجوع والظمأ من حدتها وسورتها، ويذكر بحال الأكباد الجائعة من المساكين، ويُضيق مجاري الشيطان بتضييق مجراي الطعام والشراب، فهو لجام المتقين، وجنة المحاربين، ورياضة الأبرار المقربين. [زاد المعاد: 2/28، 29].
معنى تخصيص الصيام لله من بين جميع العبادات:
قال ابن حجر في الفتح: «مَعَ أَنَّ الْأَعْمَالَ كُلَّهَا لَهُ، وَهُوَ الَّذِي يَجْزِي بِهَا عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَقَعُ فِيهِ الرِّيَاءُ كَمَا يَقَعُ فِي غَيْرِهِ, حَكَاهُ الْمَازِرِيُّ وَنَقَلَهُ عِيَاضٌ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ, وَلَفْظُ أَبِي عُبَيْدٍ فِي غَرِيبِهِ: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أَعْمَالَ الْبِرِّ كُلَّهَا لِلَّهِ وَهُوَ الَّذِي يَجْزِي بِهَا, فَنَرَى – وَاللَّهُ أَعْلَمُ – أَنَّهُ إِِنَّمَا خَصَّ الصِّيَامَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَظْهَرُ مِنِ ابْنِ آدَمَ بِفِعْلِهِ، وَإِِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ فِي الْقَلْبِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ، صلى الله عليه وسلم”لَيْسَ فِي الصِّيَامِ رِيَاءٌ” حَدَّثَنِيهِ شَبَابَةُ عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، فَذَكَرَهُ يَعْنِي: مُرْسَلًا، قَالَ: وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ لَا تَكُونُ إِِلَّا بِالْحَرَكَاتِ, إِِلَّا الصَّوْمَ فَإِِنَّمَا هُوَ بِالنِّيَّةِ الَّتِي تَخْفَى عَنِ النَّاس, وَهَذَا وَجْهُ الْحَدِيثِ عِنْدِي. انْتَهَى.
وَقَدْ رَوَى الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ الْبَيْهَقِيُّ فِي “الشُّعَبِ” مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ، وَأَوْرَدَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ مَوْصُولًا، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَإِِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَلَفْظُهُ: {الصِّيَامُ لَا رِيَاءَ فِيهِ؛ قَالَ اللَّهُ، U هُوَ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ} وَهَذَا لَوْ صَحَّ لَكَانَ قَاطِعًا لِلنِّزَاعِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَمَّا كَانَتِ الْأَعْمَالُ يَدْخُلُهَا الرِّيَاءُ، وَالصَّوْمُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ فِعْلِهِ إِِلَّا اللَّهُ، فَأَضَافَهُ اللَّهُ إِِلَى نَفْسِهِ, وَلِهَذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ: “يَدَعُ شَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي” وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: جَمِيعُ الْعِبَادَاتِ تَظْهَرُ بِفِعْلِهَا، وَقَلَّ أَنْ يَسْلَمَ مَا يَظْهَرُ مِنْ شَوْبٍ, بِخِلَافِ الصَّوْمِ. وَارْتَضَى هَذَا الْجَوَابَ الْمَازِرِيُّ وَقَرَّرَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ لَمَّا كَانَتْ يُمْكِنُ دُخُولُ الرِّيَاءِ فِيهَا أُضِيفَتْ إِِلَيْهِمْ, بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِِنَّ حَالَ الْمُمْسِكِ شِبَعًا مِثْلُ حَالِ الْمُمْسِكِ تَقَرُّبًا. يَعْنِي: فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ.
قُلْتُ: مَعْنَى النَّفْيِ فِي قَوْلِهِ: “لَا رِيَاءَ فِي الصَّوْمِ” أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهُ الرِّيَاءُ بِفِعْلِهِ, وَإِِنْ كَانَ قَدْ يَدْخُلُهُ الرِّيَاءُ بِالْقَوْلِ، كَمَنْ يَصُومُ ثُمَّ يُخْبِرُ بِأَنَّهُ صَائِمٌ، فَقَدْ يَدْخُلُهُ الرِّيَاءُ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ, فَدُخُولُ الرِّيَاءِ فِي الصَّوْمِ إِِنَّمَا يَقَعُ مِنْ جِهَةِ الْإِِخْبَارِ, بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الْأَعْمَالِ فَإِِنَّ الرِّيَاءَ قَدْ يَدْخُلُهَا بِمُجَرَّدِ فِعْلِهَا. وَقَدْ حَاوَلَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ إِِلْحَاقَ شَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ بِالصَّوْمِ فَقَالَ: إِِنَّ الذِّكْرَ بِـ “لَا إِِلَهَ إِِلَّا اللَّهُ” يُمْكِنُ أَنْ لَا يَدْخُلَهُ الرِّيَاءُ؛ لِأَنَّهُ بِحَرَكَةِ اللِّسَانِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَعْضَاءِ الْفَمِ, فَيُمْكِنُ الذَّاكِرُ أَنْ يَقُولَهَا بِحَضْرَةِ الجزء الرابع النَّاسِ وَلَا يَشْعُرُونَ مِنْهُ بِذَلِكَ. ثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَأَنَا أَجْزِي بِهِ أَنِّي أَنْفَرِدُ بِعِلْمِ مِقْدَارِ ثَوَابِهِ وَتَضْعِيفِ حَسَنَاتِهِ. وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَقَدِ اطَّلَعَ عَلَيْهَا بَعْضُ النَّاسِ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَعْمَالَ قَدْ كَشَفَتْ مَقَادِيرَ ثَوَابِهَا لِلنَّاسِ، وَأَنَّهَا تُضَاعَفُ مِنْ عَشْرَةٍ إِِلَى سَبْعِمِائَةٍ إِِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ إِِلَّا الصِّيَامَ، فَإِِنَّ اللَّهَ يُثِيبُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ تَقْدِيرٍ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا السِّيَاقِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، يَعْنِي: رِوَايَةَ “الْمُوَطَّأِ”, وَكَذَلِكَ رِوَايَةُ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ حَيْثُ قَالَ: {كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ؛ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ – قَالَ اللَّهُ – إِِلَّا الصَّوْمَ فَإِِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ} أَيْ: أُجَازِي عَلَيْهِ جَزَاءً كَثِيرًا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ لِمِقْدَارِهِ, وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} انْتَهَى. وَالصَّابِرُونَ الصَّائِمُونَ فِي أَكْثَرِ الْأَقْوَالِ.
قُلْتُ: وَسَبَقَ إِِلَى هَذَا أَبُو عُبَيْدٍ فِي “غَرِيبِهِ” فَقَالَ: بَلَغَنِي عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ, وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِأَنَّ الصَّوْمَ هُوَ الصَّبْرُ؛ لِأَنَّ الصَّائِمَ يُصَبِّرُ نَفْسَهُ عَنِ الشَّهَوَاتِانْتَهَى. وَيَشْهَدُ رِوَايَةُ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عِنْدَ سَمَوَيْهِ: {إِِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ, إِِلَّا الصَّوْمَ فَإِِنَّهُ لَا يَدْرِي أَحَدٌ مَا فِيهِ} ” وَيَشْهَدُ لَهُ أَيْضًا مَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ فِي جَامِعِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ جَدِّهِ زَيْدٍ مُرْسَلًا, وَوَصَلَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي “الشُّعَبِ” مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِينَاءَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: “الْأَعْمَالُ عِنْدَ اللَّهِ سَبْعٌ” الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: “وَعَمَلٌ لَا يَعْلَمُ ثَوَابَ عَامِلِهِ إِِلَّا اللَّهُ” ثُمَّ قَالَ: “وَأَمَّا الْعَمَلُ الَّذِي لَا يَعْلَمُ ثَوَابَ عَامِلِهِ إِلَّا اللَّهُ فَالصِّيَامُ”, ثُمَّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا الْقَوْلُ ظَاهِرُ الْحُسْنِ، قَالَ: غَيْرَ أَنَّهُ تَقَدَّمَ وَيَأْتِي فِي غَيْرِ مَا حَدِيثٍ أَنَّ صَوْمَ الْيَوْمِ بِعَشْرَةِ أَيَّامٍ, وَهِيَ نَصٌّ فِي إِِظْهَارِ التَّضْعِيفِ, فَبَعُدَ هَذَا الْجَوَابُ بَلْ بَطَلَ. قُلْتُ: لَا يَلْزَمُ مِنَ الَّذِي ذُكِرَ بُطْلَانُهُ, بَلِ الْمُرَادُ بِمَا أَوْرَدَهُ أَنَّ صِيَامَ الْيَوْمِ الْوَاحِدِ يُكْتَبُ بِعَشْرَةِ أَيَّامٍ, وَأَمَّا مِقْدَارُ ثَوَابِ ذَلِكَ فَلَا يَعْلَمُهُ إِِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا الْعُرْفُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَنَا أَجْزِي بِهِ؛ لِأَنَّ الْكَرِيمَ إِِذَا قَالَ أَنَا أَتَوَلَّى الْإِِعْطَاءَ بِنَفْسِي كَانَ فِي ذَلِكَ إِِشَارَةٌ إِِلَى تَعْظِيمِ ذَلِكَ الْعَطَاءِ وَتَفْخِيمِهِ.
ثَالِثُهَا مَعْنَى قَوْلِهِ: الصَّوْمُ لِي أَيْ: إِنَّهُ أَحَبُّ الْعِبَادَاتِ إِِلَيَّ وَالْمُقَدَّمُ عِنْدِي.
رَابِعُهَا: الْإِِضَافَةُ إِِضَافَةُ تَشْرِيفٍ وَتَعْظِيمٍ، كَمَا يُقَالُ: بَيْتُ اللَّهِ، وَإِِنْ كَانَتِ الْبُيُوتُ كُلُّهَا لِلَّهِ.
قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: التَّخْصِيصُ فِي مَوْضِعِ التَّعْمِيمِ فِي مِثْلِ هَذَا السِّيَاقِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِِلَّا التَّعْظِيمُ وَالتَّشْرِيفُ.
خَامِسُهَا: أَنَّ الِاسْتِغْنَاءَ عَنِ الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ – جَلَّ جَلَالُهُ – فَلَمَّا تَقَرَّبَ الصَّائِمُ إِِلَيْهِ بِمَا يُوَافِقُ صِفَاتِهِ أَضَافَهُ إِِلَيْهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ مُنَاسِبَةٌ لِأَحْوَالِهِمْ إِِلَّا الصِّيَامَ فَإِِنَّهُ مُنَاسِبٌ لِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْحَقِّ, كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِِنَّ الصَّائِمَ يَتَقَرَّبُ إِِلَيَّ بِأَمْرٍ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِي.
سَادِسُهَا: أَنَّ الْمَعْنَى كَذَلِكَ, لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إِِلَى الْمَلَائِكَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِمْ. سَابِعُهَا: أَنَّهُ خَالِصٌ لِلَّهِ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَظٌّ, قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ، هَكَذَا نَقَلَهُ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ, فَإِِنْ أَرَادَ بِالْحَظِّ مَا يَحْصُلُ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ رَجَعَ إِِلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ, وَقَدْ أَفْصَحَ بِذَلِكَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فَقَالَ: الْمَعْنَى لَيْسَ لِنَفْسِ الصَّائِمِ فِيهِ حَظٌّ بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِِنَّ لَهُ فِيهِ حَظًّا لِثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيْهِ لِعِبَادَتِهِ. ثَامِنُهَا: سَبَبُ الْإِِضَافَةِ إِِلَى اللَّهِ أَنَّ الصِّيَامَ لَمْ يُعْبَدْ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ, بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالطَّوَافِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا بِمَا يَقَعُ مِنْ عُبَّادِ النُّجُومِ الجزء الرابع وَأَصْحَابُ الْهَيَاكِلِ وَالِاسْتِخْدَامَاتِ, فَإِِنَّهُمْ يَتَعَبَّدُونَ لَهَا بِالصِّيَامِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ إِِلَهِيَّةَ الْكَوَاكِبِ, وَإِِنَّمَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا فَعَّالَةٌ بِأَنْفُسِهَا, وَهَذَا الْجَوَابُ عِنْدِي لَيْسَ بِطَائِلٍ, لِأَنَّهُمْ طَائِفَتَانِ, إِِحْدَاهُمَا كَانَتْ تَعْتَقِدُ إِِلَهِيَّةَ الْكَوَاكِبِ وَهُمْ مَنْ كَانَ قَبْلَ ظُهُورِ الْإِِسْلَامِ, وَاسْتَمَرَّ مِنْهُمْ مَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ. وَالْأُخْرَى مَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ فِي الْإِِسْلَامِ وَاسْتَمَرَّ عَلَى تَعْظِيمِ الْكَوَاكِبِ وَهُمُ الَّذِينَ أُشِيرَ إِِلَيْهِمْ.
تَاسِعُهَا: أَنَّ جَمِيعَ الْعِبَادَاتِ تُوَفَّى مِنْهَا مَظَالِمُ الْعِبَادِ إِِلَّا الصِّيَامَ, وهذا معترض عليه بحديث: {الْمُفْلِسُ الَّذِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصَدَقَةٍ وَصِيَامٍ, وَيَأْتِي وَقَدْ شَتَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا وَأَكَلَ مَالِ هَذَا}. الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: {فَيُؤْخَذُ لِهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَلِهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ, فَإِِذَا فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ, ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ}.
عَاشِرُهَا: أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَظْهَرُ فَتَكْتُبُهُ الْحَفَظَةُ كَمَا تَكْتُبُ سَائِرَ الْأَعْمَالِ, وَاسْتَنَدَ قَائِلُهُ إِِلَى حَدِيثٍ وَاهٍ جِدًّا أَوْرَدَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي “الْمُسَلْسَلَاتِ” وَلَفْظُهُ: ” {قَالَ اللَّهُ الْإِِخْلَاصُ سِرٌّ مِنْ سِرِّي اسْتَوْدَعْتُهُ قَلْبَ مَنْ أُحِبُّ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكْتُبَهُ وَلَا شَيْطَانٌ فَيُفْسِدُهُ}” وَيَكْفِي فِي رَدِّ هَذَا الْقَوْلِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي كِتَابَةِ الْحَسَنَةِ لِمَنْ هَمَّ بِهَا وَإِِنْ لَمْ يَعْمَلْهَا.
قال ابن حجر: فهذا ما وقفت عليه من الأجوبة، وقد بلغني أن بعض العلماء بلغها إلى أكثر من هذا، وأقرب الأجوبة التي ذكرتها إلى الصواب الأول والثاني، ويقرب منهما الثامن والتاسع . انتهى من «الفتح» باختصار (4/129 وما بعدها).
قلت: هكذا قال، مع أن التاسع كما رأيت عليه اعتراض، والأولى من التاسع الجواب الثالث، والله أعلم .
معنى الصيام في الشريعة وفي اللغة:
قال ابن عبد البر في الاستذكار:
الصيام في الشريعة الإمساك عن الأكل والشرب والجماع هذا فرضه عند جميع الأئمة وسننه اجتناب قول الزور واللغو والرفث .
وأصله في اللغة الإمساك مطلقا وكل من أمسك عن شيء فهو صائم منه ألا ترى قول الله تعالى {إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا} [مريم 26].
وقوله جنة فهي الوقاية والستر عن النار وحسبك بهذا فضلا للصائم وروي عن عثمان بن أبي العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الصيام جنة يستجن بها العبد من النار .
وقوله فلا يرفث فالرفث هنا الكلام القبيح والشتم والخنا والغيبة والجفاء وأن تغضب صاحبك بما يسوءه والمراء ونحو ذلك كله ومعنى لا يجهل قريب مما يصيبنا من الشتم والسباب والقباح كقول القائل:
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
أقول: وفي الرواية التي معنا: «ولا يصخب». قال ابن حجر: كذا للأكثر بالصاد المهملة، الساكنة بعدها خاء معجمة، ولبعضهم بالسين بدل الصاد، وهو بمعناه، والصخب الخصام والصياح، وقد تقدم أن المراد النهي عن ذلك تأكيده حال الصوم، وإلا فغير الصائم منهي عنه .
هل يقول الصائم: إني صائم:
قال ابن عبد البر رحمه الله: وأما قوله: «فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم ففيه قولان أحدهما أن يقول الذي يريد مشاتمته ومقاتلته إني صائم وصومي يمنعني من مجاوبتك لأني أصون صومي عن الخنا والزور والمعنى في المقاتلة مقاتلته بلسانه وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه . [أخرجه البخاري، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن خزيمة، والبيهقي].
والمعنى الثاني أن الصائم يقول في نفسه إني صائم يا نفسي فلا سبيل إلى شفاء غيظك بالمشاتمة ولا يعلن بقوله إني صائم كي لا يكون رياءً .
خلوف فم الصائم أطيب من ريح المسك
وقوله: «لخلوف فم الصائم» يعني ما يعتريه في آخر النهار من التغير وأكثر ذلك في شدة الحر [أي الرائحة التي تنبعث من الفم، وقد لا يطيقها بعض الناس].
وقوله: أطيب عند الله من ريح المسك يريد أزكى عند الله وأقرب إليه من ريح المسك عندكم يحضهم عليه ويرغبهم فيه وهذا في فضل الصيام وثواب الصائم. [انتهى كلام ابن عبد البر بتصرف: الاستذكار 10/242 وما بعدها.
قال ابن حجر: وَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ: “أَطْيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ” أَنَّ الْخُلُوفَ أَعْظَمُ مِنْ دَمِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ دَمَ الشَّهِيدِ شُبِّهَ رِيحُهُ بِرِيحِ الْمِسْكِ, وَالْخُلُوفُ وُصِفَ بِأَنَّهُ أَطْيَبُ, وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الصِّيَامُ أَفْضَلَ مِنَ الشَّهَادَةِ لِمَا لَا يَخْفَى.
فرح الصائم بصومه وبفطره
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَعْنَاهُ: فَرِحَ بِزَوَالِ جُوعِهِ وَعَطَشِهِ، حَيْثُ أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ وَهَذَا الْفَرَحُ طَبِيعِيٌّ، وَهُوَ السَّابِقُ لِلْفَهْمِ، وَقِيلَ: إِِنَّ فَرَحَهُ بِفِطْرِهِ إِِنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ إِِنَّهُ تَمَامُ صَوْمِهِ وَخَاتِمَةُ عِبَادَتِهِ وَتَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّهِ وَمَعُونَةٌ عَلَى مُسْتَقْبَلِ صَوْمِهِ. قُلْتُ: وَلَا مَانِعَ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِمَّا ذُكِرَ, فَفَرَحُ كُلِّ أَحَدٍ بِحَسَبِهِ؛ لِاخْتِلَافِ مَقَامَاتِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ, فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ فَرَحُهُ مُبَاحًا وَهُوَ الطَّبِيعِيُّ, وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا، وَهُوَ مَنْ يَكُونُ سَبَبَهُ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرَهُ.
قَوْلُهُ: (وَإِِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ) أَيْ: بِجَزَائِهِ وَثَوَابِهِ. وَقِيلَ: الْفَرَحُ الَّذِي عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ إِِمَّا لِسُرُورِهِ بِرَبِّهِ، أَوْ بِثَوَابِ رَبِّهِ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ. قُلْتُ: وَالثَّانِي أَظْهَرُ؛ إِِذْ لَا يَنْحَصِرُ الْأَوَّلُ فِي الصَّوْمِ، بَلْ يَفْرَحُ حِينَئِذٍ بِقَبُولِ صَوْمِهِ وَتَرَتُّبِ الْجَزَاءِ الْوَافِرِ عَلَيْهِ. انتهى من [فتح الباري: 4/142].
شأن الصوم عند الله عظيم
أخي المسلم: وهكذا ترى في هذا الحديث برواياته المختلفة فضل الصوم كعبادة من العبادات التي يتقرب بها العبد إلى ربه سواء كان فرضًا أم نفلاً، فشأنه عند الله عز وجل عظيم.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن تتقبل صلاتهم وصيامهم وسائر أعمالهم كما نسأله أن يأخذ بنواصينا إلى الحق، وأن يجنبنا الزلل ويقينا الفتن ما ظهر منها وما بطن . إنه ولي ذلك والقادر عليه .
والحمد لله رب العالمين .