لو أن منصفـًا عاقلاً قرأ آيات القرآن الكريم في الأخلاق ومحاسن أهلها ، ثم طالع سير الصالحين المهتدين بهديها ، ثم أطرق يفتش في أهل عصره ، ويجول بفكره وقد أغمض عينيه يتخيل تلك الصفات ، وقد منَّ اللَّه تعالى بها على إنسان واحد من بني البشر يمشي على الأرض ، وهو يدع شقاشق الكلام للذين ملئوا الدنيا خطبـًا رنانة ، ومواعظ مؤثرة ، أما هو فإنه يوافق قوله ولسانه بحاله وأفعاله ، متجافيـًا عن أهل الغرور والكبر والنفاق ، يفعل الخير سجية بلا تكلف مع الناس ، ولا تحمُّل له على غير طبعه الأصيل ، تخيل رجلاً نظر في الشرع فتمثل محاسنه ، يصادق كل مسلم في آفاق الأرض إذا عرفه ، ويتعاطف مع كل مكروب إذا سمع به ، يجاهد بلسانه وقلمه ويده مع المجاهدين في ميادين الجهاد ، ويدعو مع الدعاة في منابرهم ، فيرشد المخطأ إلى خطئه من غير تعيير ولا فضيحة ، ويؤيد المصيب في قوله وعمله من غير تملق ولا محاباة ، يمد يده بالعون لكل محتاج إلى ذلك ، موائده لسائر الناس منصوبة ممدودة ، ووجهه مملوء بالبشاشة لسائر ضيوفه ، يجد صاحب المنصب الرفيع في مجلسه توقيرًا ، متأسيـًا بقول النبي – صلى الله عليه وسلم – : (( أنزلوا الناس منازلهم)) . ويجد الضيف الوضيع في استقباله عناية واهتمامـًا .
صاحب المال يستأمنه على زكاة ماله ليضعها في مصارفها ، والمكلوم والمدين وصاحب الهم يجد عنده تفريج همه وسداد دينه .
ذلك (( الإنسان )) رب العزة سبحانه يجعله في كل عصر واقعـًا لا خيالاً ؛ إقامة للحجة على خلقه ، وتحقيقـًا لمطلبه الذي أمرهم به .
– صلى الله عليه وسلم – قيض اللَّه سبحانه لهذه الأمة الخاتمة في كل زمان علماء ربانيين عاملين يجددون لها أمر هذا الدين ويعيدون معالم الشرع ، ويحملون لهم راية السنة ، ويكشفون معايب الشرك والبدعة .
– صلى الله عليه وسلم – لم يُحرم من نصائح الشيخ ابن باز – رحمه اللَّه – الحاكم في سلطنته، والعالِم في حلقته ودروسه ، والعابد في مسجده ، والزوج مع زوجته وولده .ولقد رأى كل من خالط سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه اللَّه تعالى رحمة واسعة – رأى كل ما ذكرت وزيادة ، يتمثل في الرجل خير تمثيل وينطبق عليه جميل الانطباق ، حتى يعجز القلم عن وصفه ، واللسان عن ذكر محامده .
ذلك أن اللَّه سبحانه وتعالى قيض لهذه الأمة الخاتمة في كل زمان علماء ربانيين عاملين يجددون لها أمر هذا الدين ويعيدون معالم الشرع الذي اندرس ، ويحملون لهم راية السنة ، ويكشفون معايب الشرك والبدعة ، يحيون فيها رسالة المرسلين وميراث النبيين ، يقومون بواجب الدعوة إلى رب العالمين ، فيذودون عن حياضها ، ويمتثلون بأعمالهم وسلوكهم وأخلاقهم سيرة نبيهم الكريم الذي جعل اللَّه تعالى خُلقه القرآن .
إنهم هم المجددون الذين قال عنهم النبي – صلى الله عليه وسلم – : (( إن اللَّه يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها )) . رواه أبو داود ، وسنده صحيح .
وهم الذين عناهم النبي – صلى الله عليه وسلم – بقوله : (( يحمل هذا الدين من كل خلف عدوله ، ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين )) .
والذي يرتضيه رب العزة مجددًا لدينه لا بد أن يكون عالِمـًا بالعلوم الدينية ، والعلوم التي تتعلق بها العلوم الشرعية ، وأن يكون ناشرًا للسنة ، قامعـًا للبدعة ، وأن يعم علمه أهل زمانه ، فيكون أثره عامـًّا في جميع أهل ذلك العصر ، يبين السنة من البدعة ، ويكثر العلم ويعز أهله ، ويقمع البدعة ويكشف عوار أهلها ، وأن يكون ذلك همه بالليل والنهار ، وأن يبذل وسعه في ذلك بلسانه ويده ، وأن موائده لسائر الناس منصوبة ممدودة ، ووجهه مملوء بالبشاشة لسائر ضيوفه ، يجد صاحب المنصب
وهم الذين عناهم النبي – صلى الله عليه وسلم – بقوله : (( يحمل هذا الدين من كل خلف عدوله،)) ينفون عنه تحري يعرف الناس ذلك من لسانه مقالاً ، ومن يده كتابة ، ويعرفه طلبته ومن يشهد مجالسه كاتبـًا ومحاضرًا ومعلمـًا .
كل ذلك كان سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز خير مثال له ، فرحمه اللَّه رحمة واسعة .
حيث كان أنموذج لعالِم شامخ تسنم الذروة في الرجال ، وعلا قمة الأفذاذ دينـًا وعلمـًا وورعـًا وفضلاً وكرمـًا وجودًا .
عاش حياة حافلة بالخير ، حياة علمية دعوية متوازنة يتوافق فيها العلم والعمل ، ويقترن فيها الفقه بالخُلق ، حياة يتألق فيها الفكر والعطاء .
ومن اليسير أن تجد من يعمل بالسنة ومن يلتزم الاعتدال في أوقات الاعتدال ، ولكن كثيرًا ما يخرج العبد عن حد الاعتدال إذا زاد الفرح أو أقبل الهم واشتد ، لكن الشيخ – رحمه اللَّه تعالى – كان في جميع أموره التي يعلمها منه الناس موافقـًا للسنة حريصـًا عليها ، ناصحـًا بها ، رادًّا من شرد عنها بلطف وحنو ، يأخذ بيد العاصي ليتوب من معصيته ، وبيد المبتدع ليهجر بدعته عن قناعة وفهم .
لم يُحرم من نصائح الشيخ – رحمه اللَّه – الحاكم في سلطنته ، والعالِم في حلقته ودرسه ، والعابد في مسجده ، والزوج مع زوجته وولده ، والمرأة تجد فيه الأب الحاني الذي يتولى أمرها إن فقدت وليـًّا ، والفقير يجد منه العطف والإنفاق عند حاجته للمال ، كان يتمثل خُلق النبي – صلى الله عليه وسلم – ؛ يُعطي عطاء من لا يخشى الفقر ، في أي نكبة أصابت المسلمين أفرادًا وجماعات ، بل شمل عطاؤه دولاً من تلك التي ابتليت بمصائب كبيرة ، فطردوا من ديارهم ، وسلبت أموالهم ؛ متمثلاً قول النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – : (( مثل المسلمين في توادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر )) .
كان الشيخ – رحمه اللَّه – وهو كفيف يعيش معهم فيجاهد بلسانه ، فيتحرك بقوله الرجال ، وتنهال على الجائعين والعراة الخيرات والأموال ، التي يسد اللَّه بها الخلة ، ويرفع بها النكبة ، ويعز بها القوم بعد ذلة ، في كل ميدان تجد له صولة وجولة .
شاء اللَّه سبحانه أن يقع على كاهل الشيخ أعباء جسام في فترة حساسة من فترات الدهر ، فيها تلاحق في الفتن ، وطغيان لأهل الباطل ، وصحوة وإفاقة من غيبوبة وفقدان الوعي لأُمة خرجت من احتلال صليبيين وملاحدة وتسلط فساق وجبابرة .
في هذه الظروف والأحوال كان الشيخ – رحمه اللَّه تعالى – مشاركـًا في مؤتمرات علمية ومجامع فقهية وحلقات علمية ، ومنابر وعظية ، ومجالس متتالية ، ولجان بحثية ، وصحف دورية ، بين رئيس ، أو مشرف ، أو أستاذ ومدرس ، أو عضو مشارك يتصدى للأعباء الجسام في الدعوة والإرشاد والبحث العلمي والإفتاء ، وبحث قضايا المسلمين في النكبات وفي البدع والمخالفات ، ومثل ذلك أو يزيد من خلال بيته بعد الانتهاء من عمله .
قضى حياته – رحمه اللَّه – بغير توقف ، وأمضى عمره بين عمل رسمي هو به مكلف ، أداه خير الأداء ، كان فيه بين المكاتب والدواوين يعاونه جمع كبير من العلماء المبرزين والفنيين والمدققين هو أكبر منهم سنـًّا ، وأضعف منهم بدنـًا ، ولكنه أكثرهم للجهد بذلاً ، يَتعبون ولا يَتعب ، يَسأمون ولا يَسأم ، فإذا انتهى من عمله الرسمي كان بعد ذلك في بيته لا يغلق بابه عن أصحاب الحاجات ، تعرض عليه كافة الطلبات ، فيفتي ويقضي ويراسل الجهات الخيرية في كافة أنحاء العالم ، ويشفع في حاجات أصحاب الحاجات ، فتقبل شفاعته ، لا تكاد تراه إلا في شغل ، ومع ذلك فإن لسانه لا يفتر عن الذكر ، رحمه اللَّه رحمة واسعة .
وهذه أبيات من بعض تلامذته ومحبيه – دكتور ناصر الزهراني – تعبير عن جانب يسير من خُلق الشيخ ومنهجه:
يـا رائــد العلــم في هــــــذا الزمــــان
ويــــا مجـدد العصـــر في علم وأعـمـال
وحاتم فـي عطـــــــايــــاه وجودتــــه
في بحركم لا يســـــاوي عشــر مثقــال
في الجـود مــدرسة فـي البذل مملكــــــة
فـي العــــلم نابغــة أستـــــــاذ أجيـــــال
الحـــق مذهبه والنـصــــح يعجبــــــه
والــذكر يطــربه يحيـى بــه ســــــــــأل
الـعـلـــــم مـــؤنســـه واللَّـه يحـرســه
مــا كـــــان مجلسه للقيـــــــل والقـــال
بالنـص فتــواه بالــرفــق ممشـــــــاه
مـــن فيــض تقـواه مخشوشــن الحـال
لم ينتقـــص أحـدًا لم يمتـلئ حســـــدًا
لم يفتتـــــن أبــــدًا بالمنصــب العالــي
العين دامعة والكــــف ضـــارعـــــــة
والنفـــس خاشعة من خشية الــوالـــي
المال ينفقـــه والوعـد يصـدقــــــــــه
والشهــــد منطقـــه مستعذبحــــــــال
يـــا درة الـعصـــر يا بحر العلوم فما
رأت لـــك العيــــن مــــن ند وأمثــــال
رحم اللَّه الشيخ ابن باز ، وأجزل له العطاء ، وجعله من أهل الفردوس الأعلى ، وألحقنا به على الصالحات .
اللهم لا تحرمنا أجره ، ولا تفتنا بعده ، واغفر اللهم لنا وله .
واللَّه من وراء القصد .