الحمد لله رب العالمين ، الذي ربَّى الخلق جميعًا بنعمة منه وكرمه وفضله خلقًا وأمرًا : ( أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ) [ الأعراف : 54] ، فلقد خلق الله الخلق فأبدعه ، وأنزل الأمر كله فأكمله وأتمه ورضيه : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) [المائدة : 3]، فكان ذلك النظام الرباني هو الذي تصلح به الحياة، وهو الذي تحل به المشكلات.
أذكر أنني قرأت في عام 1397 هـ الموافق 1977م، وكنت بمدينة طنطا في جريدة مصرية تقريرًا عن نقابة المهندسين جاء فيه : إن حل مشكلة الإسكان في مصر يكون بالرجوع إلى النظام الإسلامي في بناء المساكن ذات الطابقين، فعجبت لذلك كثيرًا، وعندما تدبرت ذلك وجدت :
1 – أن الإسكان المرتفع بصورته الحالية يكشف العورات ولا يستر أهله ، وأنه كذلك أدى إلى صعوبات بالغة في توصيل الخدمات والنجدة في الأزمات من حريق أو غيره ، فضلاً عن ضيق الطرقات بازدحام المواصلات وتعقيد الأوامر والإشارات، وصعوبة الحفاظ على الأمن، وذلك كله مناقض لمقاصد الشرع من الحفاظ على النفس والنسل والمال والدِّين والعِرْض والعقل .
2 – أن الإسكان المرتفع أدى إلى التكدس البالغ في رقعة بعينها ، فتغالي الناس في الأثمان، وتكلفوا طلبًا لمؤنة البنيان، وكانت الندامة والخسران عند حدوث زلزال أو حريق أو غيره، فضلاً عن كثرة الاحتكاك المفضي إلى تبلد الحس، بما عند الجار بالنسبة لجاره ، خاصة وأن الأسباب التربوية ضعيفة إن لم تكن منعدمة ، بل تربية معكوسة تغرس الرذيلة وتحقر الفضيلة وتحض على الجريمة وتنفي الاستقامة .
3 – أن الإسكان من طابقين يؤدي إلى انتشار المدن السكنية في الأرض الصحراوية الـممتدة التي تمثل 96.5 % من مساحة مصر، فيؤدي ذلك إلى نشر السكان في مساحة كبيرة بما يسهل تعمير أرضها بالزراعة والاستفادة من خاماتها ونشر الخدمات وتيسير الصناعات، خاصة وأن الأشجار التي يمكن أن تجود في الصحراء مثل (النخيل والزيتون)، هي من أجود الأشجار اقتصاديًّا.
3 – وأن الإسكان من الطابقين لا يحتاج إلى تكلف في الخامات ولا مزيد من وسائل التأمين، هذا فإذا رجعنا إلى البيت الإسلامي وجدنا أن شكله ينبع من عقيدته ، ويلتزم بالشرع في نصوصه ، ويستفيد من الكون في آلائه ، فهو بيت التربية ، فله صحن فسيح في وسطه يدخله الهواء والشمس ، ويمكن زراعة بعض النباتات والأشجار به التي تحقق بعض الأغراض المنزلية ، وأن نوافذه الرئيسية الكبيرة إلى داخله ، وأنه بيت يتميز بالمرونة التي تسهل إضافة وحدات له ، أو عزل أجزاء أخرى ؛ لتكوين وحدات للأسر الجديدة التي تتكون فيه ، وليس بنظام الشقوق التي نسكنها اليوم ؛ لأن الشقوق سكني الهوام ، والبيوت سكني الإنسان ، وهذا البيت في النظام الإسلامي يتميز بوجود باب خارجي يجاوره موقع الضيف الذي لا يجرح بيتًا ، ولا يشعر بحرج إن مكث أيامًا ، وحاجاته الأساسية قريبة منه ، فإن جاء الضيف لرجل مسلم ولم يجده وجد آخر ؛ لأن البيت فيه رجال متعددون.
في هذا البيت يسكن الجد بأبنائه وأحفاده، فكلما نضج واحد من أولاده وأراد الزواج أمكن له أن يحجز له مكانًا فيه المخدع، وغالبًا ما يتصل بالطابق العلوي بحيث يتيسر حفظ العورات، مع الاتصال بسائر أفراد البيت بغير ضيق ولا تكلف.
أما الطفل فإنه يجد المكان الفسيح الذي يستمتع به ، ويجد الرعاية من أمه وأبيه وجده وجدته وأعمامه وزوجات الأعمام ، فلا ينقل ألفاظًا سيئة من شوارع يسعى فيها ، ولا يخاف عليه من مخوفات يخرج إليها خارج البيت ، فيكون الولد في البيت مستمتعًا بالراحة وعلى الأيدي الحانية تربى ، وبين الأحضان الدافئة يتنقل ، يربيه الجد الذي أقعده السن عن العمل ، وصار ذا خبرة واسعة في الدنيا ، فيكون عمر خبرة المربين كبيرة .
البيت المسلم بيت يحمي الفضيلة وينفي الرذيلة ، فإن وجد بهذا البيت أحد أفراده من النساء أو الرجال في طبعه الرذيلة لم يستطع ممارستها ؛ لأن البيت عامر لا يخلو من سكانه ورواده، فلا يعين إلا على الاستقامة ، فالانحراف بعيد المنال ، والتفكير فيه لا يخطر على البال .
في هذا البيت يجد الطفل أقرانًا من أعمامه أو أبناء عمومته ، فيجد من أقرانه من يؤنسه فينمو اجتماعيًّا لا أنانيًّا ، لا يحتاج الأب أن يتكلف محاكاة الطفولة أو الانشغال بملاعبته وتسليته ؛ لأن البيت لا يخلو من الأقران في سن الطفولة .
أما البيت الحديث فقد خلا من الجد والجدة ، واجتهد الأب فيه لكسب القوت ، وطلب المعاش ، فلما عجز ، بل قبل أن يعجز خرجت الأم إلى معترك الحياة ، فخلا عليه البيت ، فإما أن يعيش بين الجدران حبيس الوحدة والوحشة ، أو يخرج مبكرًا في صيف أو شتاء في حر أو قر ؛ ليأوي إلى حضانة التربية فيها على غير يد الأم ، والتغذية فيها بغير اللبن الفطري ، فإذا عاد الوالدان فهما متعبان منهكان لا طاقة عندهما بسماع شكوى لطفل أو إيناسه ومداعبته ، فكيف يتربى كما يريدان ؟!
فتدبر أخا الإسلام، رعاك الله تعالى، كيف أن لجنة فنية هندسية قررت أن نظام الإسلام في بناء المساكن هو المواكب للعصر !
فالعقيدة الإسلامية والعبادة والشريعة تستلزم نظام بيت يحقق النظام الإسلامي ، ويعين عليه ، ويتحقق به حسن التربية وجمال التنسيق ويسر التعامل وقلة الإنفاق والألفة والمحبة ، فيسعد أفراده في الدنيا والآخرة ، ويحيون في أمان ، وتأمن بهم أرضهم وبلادهم ، ويرهبهم عدوهم، ويحمون ثغورهم ، فالعقيدة والعبادة تصوغ الحياة كلها .
فاللهم ألهمنا الرشاد والسداد والصواب. آمين .