بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتم علينا نعمته، ورضي لنا الإسلام ديناً، والصلاة والسلام على نبينا محمد، الذي أرسله الله هداياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إليه بإذنه وسراجاً منيراً، أما بعد :
فإن الناس قد غلب عليهم التساهل في أمر الرضاع، فتراهم يُرضعون الولد من امرأة أو عِدة نسوة ولايهتمون بمعرفة أولاد المرضعة وأخواتها، ولا أولاد زوجها من غيرها وإخوته، ليعرفوا ما يترتب عليهم في ذلك من الأحكام، ولا يعرفون حقوق هذه القرابة الجديدة التي جعلها الشرع كالنسب . فكثيراً ما يتزوج الرجل أخته، أو عمته أو خالته من الرضاعة وهو لا يدري، من أجل ذلك أحببت أن أُذكر نفسي وإخواني الكرام بأحكام الرضاع بإيجاز شديد . وقد تحدثت في هذه الرسالة عن معنى الرضاع والمُحَرَّمات منه والحكمة من التحريم بالرضاع ، وصفة الرضعة المعتبرة شرعاً، وسن الرضاع الذي يثبت به التحريم، والشهادة على الرضاع ثم ختمت الرسالة بالحديث عن حُكم رضاع الكبير وأقوال أهل العلم فيه . أسأل الله أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .
صلاح نجيب الدق
بلبيس – مسجد التوحيد
أحكام الرضاع
معنى الرضاع :
مَصُّ الرضيع من ثدي الآدمية في مدة الرضاع .
( التعريفات للجرجاني صـ148 )
المحرمات بسبب الرضاع :
يجب أن يكون من المعلوم أنه يَحرمُ من الرضاع ما يَحرمُ من النسب، والذي يحرم من النسب سبعة، هن :
(1) الأمهات، (2) البنات، (3) الأخوات، (4) العمات، (5) الخالات، (6) بنات الأخ، (7) بنات الأخت .
والتحريم من الرضاع ثابت بالقرآن والسُّنة وإجماع علماء الأمة . ( المغني لابن قدامة جـ11 صـ309 )
قال اللهُ تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ ) ( النساء : 23 )
روى الشيخانِ عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أن النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال : الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا يَحْرُمُ مِنْ الْوِلَادَةِ . ( البخاري حديث 5099 / مسلم حديث 1444 )
وروى البخاريُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قِيلَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَلَا تَتَزَوَّجُ ابْنَةَ حَمْزَةَ ؟قَالَ: إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ . ( البخاري حديث 5100 )
الحكمة من التحريم بالرضاعة :
قال ابن حجر العسقلاني :
ـ وهو يتحدث عن المحرمات بالرضاعة ـ: الحكمة في ذلك أن سبب التحريم ما ينفصل من أجزاء المرأة وزوجها وهو اللبن فإذا اغتذى به الرضيع صار جزءا من أجزائهما فانتشر التحريم بينهم .
( فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ9 صـ45 )
إذا رضع شخصٌ من امرأة فإنه يحرم عليه ما يلي :
(1) المرأة المرضعة لأنها أصبحت أماً له من الرضاع .
(2) أم المرضعة لأنها أصبحت جدة للرضيع .
(3) أم زوج المرضعة، الذي جاء لبنها بسبب الحمل منه، لأنها صارت جدة للرضيع .
(4) أخت المرضعة لأنها أصبحت خالة للرضيع .
(5) أخت زوج المرضعة لأنها أصبحت عَمةً للرضيع .
(6) بنات المرضعة، سواء من وُلدنَ قبله أو بعده، لأنهن أصبحن أخوات للرضيع .
(7) بنات أبناء المرضعة لأنهن أصبحن بنات إخوته من الرضاع، وهو عمهم، وكذلك بنات بنات المرضعة لأنهن أصبحن بنات أخواته، وهو خالهم .
( الجامع لأحكام القرآن للقرطبي جـ5 صـ109 )
ويضاف إلى هؤلاء :
(8) بنت زوج المرضعة ولو من امرأة أخرى، لأنها أصبحت أخت الرضيع من الأب .
(9) الزوجة الأخرى لزوج المرضعة لأنها أصبحت زوجة أبيه من الرضاع .
(10) زوجة الرضيع تَحرُمً على زوج المرضعة لأنها زوجة ابنه من الرضاع .
التحريم بالرضاع خاص بالرضيع فقط :
إن التحريم بالرضاع خاص بالرضيع فقط، ولا يتعدى التحريم إلى أحد من قرابة الرضيع فليست أخته من الرضاعة أختاً لأخيه ولا بنتاً لأبيه إذ لا رضاع بينهم . ( فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ9 صـ45)
ولذا، فإن من اجتمعوا على ثدي واحد صاروا إخوة . وعلى ذلك فأخو الرضيع الذي لم يشترك في الرضاعة، يجوز له أن يتزوج بنت مرضعة أخيه لأنها أجنبية عنه، وإن كانت أختاً لأخيه من الرضاعة .
صفة المرضعة :
المرضعة التي يثبت بلبنها التحريم هي كل امرأة درَّ اللبن من ثديها، سواء أكانت بالغة أم غير بالغة، وسواء كانت يائسة من المحيض أم غير يائسة، وسواء أكان لها زوج أم لم يكن، وسواء أكانت حاملاً أم غير حامل . ( بداية المجتهد لابن رشد جـ2 صـ72 ) ( فقه السنة للسيد سابق جـ2 صـ35 )
الرضاع الذي يثبت به التحريم :
هو خمس رضعات معلومات في مدة الرضاع، وهي السنتان الأوليان من ولادة الطفل .
( الأم للشافعي جـ5 صـ27 ) ( المحلى لابن حزم جـ10 صـ9 رقم 1868 )
( المغني لابن قدامة جـ11 صـ309 : صـ310 ) ( فتاوى دار الإفتاء المصرية جـ9 رقم 1236، صـ3265 : صـ3266 )
روى مسلمٌ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ . ( مسلم حديث 1452 )
روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عائشة قالت: لا يحرم دون خمس رضعات معلومات .
( إسناده صحيح ) ( مصنف عبد الرزاق جـ7 صـ466 )
الشك في الرضاع :
إِذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي وُجُودِ الرَّضَاعِ ، أَوْ فِي عَدَدِ الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمِ ، هَلْ كَمُلَا أَوْ لَا ؟ لَمْ يَثْبُتْ التَّحْرِيمُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ ، فَلَا نُزُولَ عَنْ الْيَقِينِ بِالشَّكِّ .( المغني لابن قدامة جـ11 صـ312 ) ( فتاوى دار الإفتاء المصرية جـ2 رقم 345 صـ691 : صـ692 )
صفة الرضعة :
الْمَرْجِعُ فِي مَعْرِفَةِ الرَّضْعَةِ إلَى الْعُرْفِ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِهَا مُطْلَقًا ، وَلَمْ يَحُدَّهَا بِزَمَنِ وَلَا مِقْدَارٍ ، فإذا التقم الرضيع الثدي فامتص منه، ثم تركه باختياره من غير عارض، كان ذلك رضعة واحدة، فإذا عاد والتقم الثدي كانت رضعة ثانية، وأَمَّا إنْ قَطَعَ الرضاعة لِضِيقِ نَفَسٍ ، أَوْ لِلِانْتِقَالِ مِنْ ثَدْيٍ إلَى ثَدْيٍ ، أَوْ لَشَيْءٍ يُلْهِيه ، أو استراحة يسيرة، ثم يعود، فإن هذا لا يخرجه عن كونه رضعة واحدة، كما أن الإنسان إذا قَطَعَ أكلته لِشُرْبِ الْمَاءِ أَوْ انْتِقَالٍ مِنْ لَوْنٍ إلَى لَوْنٍ ، أَوْ انْتِظَارٍ لِمَا يُحْمَلُ إلَيْهِ مِنْ الطَّعَامِ ، لَمْ يُعَدَّ إلَّا أَكْلَةً وَاحِدَةً.
( المغني لابن قدامة جـ11 صـ312 : صـ313 )
هل يُشترط في الرضاع المص من الثدي؟
إن لبن المرضعة يثبت به التحريم، سواءٌ مصَّه الرضيع من ثدي مرضعته أو حُلبَ له في إناء وشربه أو وُضع له في فمه أو وضع له عن طريق الأنف، بحيث يحصل له به الغذاء ويسد جوعه وينبت لحمه وينشز عظمه . ( المغني لابن قدامة جـ11 صـ313 )
روى الشيخانِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا رَجُلٌ فَكَأَنَّهُ تَغَيَّرَ وَجْهُهُ كَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ فَقَالَتْ إِنَّهُ أَخِي فَقَالَ انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ .
( البخاري حديث 5102 / مسلم حديث 1455 )
لبن الرضاع المختلط بغيره :
إذا اختلط لبن المرأة بطعام أو شراب أو دواء، أو لبن شاة أو غيره، وتناوله الرضيع, فإن كان الغالب لبن المرأة، ثبت التحريم، وإن لم يكن غالباً لم يثبت التحريم . ( فتاوى دار الإفتاء المصرية جـ6 رقم 659 صـ2174 )
سن الرضاع الذي يثبت به التحريم :
الرضاع الذي يثبت به التحريم هو ما كان في السنتين الأوليين من ولادة الطفل .
( فتاوى دار الإفتاء المصرية جـ6 رقم 955 صـ2167 )
قال تعالى : (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ) ( البقرة : 233 )
روى الترمذيُّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- :لَا يُحَرِّمُ مِنْ الرِّضَاعَةِ إِلَّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ فِي الثَّدْيِ وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ . ( حديث صحيح ) ( صحيح الترمذي للألباني حديث 921 )
الشهادة على الرضاع :
شهادة المرأة الواحدة مقبولة في الرضاع إذا كانت معروفة بالصدق . ( المغني لابن قدامة جـ11 صـ340 )
روى البخاريُّ عن عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إِهَابٍ قَالَ: فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَعْرَضَ عَنِّي .قَالَ: فَتَنَحَّيْتُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ. قَالَ: وَكَيْفَ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنْ قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا فَنَهَاهُ عَنْهَا . ( البخاري حديث 2659 )
أحكام الرضاع المحرم :
الرضاع المُحَرَِم يُباح به النظر إلى من رضع مع الشخص ( ما عدا ما بين السرة والركبة ) والمصافحة والخلو والسفر، بشرط عدم الفتنة، ولا يجوز به التوارث، ولا يجب به الإنفاق . ( سبل السلام للصنعاني جـ3 صـ291 )
رضاع الكبير :
روى أبو داودَ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ كَانَ تَبَنَّى سَالِمًا وَأَنْكَحَهُ ابْنَةَ أَخِيهِ هِنْدَ بِنْتَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَهُوَ مَوْلًى لِامْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ كَمَا تَبَنَّى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَيْدًا وَكَانَ مَنْ تَبَنَّى رَجُلًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ دَعَاهُ النَّاسُ إِلَيْهِ وَوُرِّثَ مِيرَاثَهُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي ذَلِكَ [ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ] فَرُدُّوا إِلَى آبَائِهِمْ فَمَنْ لَمْ يُعْلَمْ لَهُ أَبٌ كَانَ مَوْلًى وَأَخًا فِي الدِّينِ فَجَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الْقُرَشِيِّ ثُمَّ الْعَامِرِيِّ وَهِيَ امْرَأَةُ أَبِي حُذَيْفَةَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا نَرَى سَالِمًا وَلَدًا وَكَانَ يَأْوِي مَعِي وَمَعَ أَبِي حُذَيْفَةَ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ وَيَرَانِي فُضْلًا وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ مَا قَدْ عَلِمْتَ فَكَيْفَ تَرَى فِيهِ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَرْضِعِيهِ فَأَرْضَعَتْهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ فَبِذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَأْمُرُ بَنَاتِ أَخَوَاتِهَا وَبَنَاتِ إِخْوَتِهَا أَنْ يُرْضِعْنَ مَنْ أَحَبَّتْ عَائِشَةُ أَنْ يَرَاهَا وَيَدْخُلَ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا خَمْسَ رَضَعَاتٍ ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَيْهَا وَأَبَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَسَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُدْخِلْنَ عَلَيْهِنَّ بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ حَتَّى يَرْضَعَ فِي الْمَهْدِ وَقُلْنَ لِعَائِشَةَ وَاللَّهِ مَا نَدْرِي لَعَلَّهَا كَانَتْ رُخْصَةً مِنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِسَالِمٍ دُونَ النَّاسِ .
( حديث صحيح ) ( صحيح أبي داود للألباني حديث 1815 )
وهذا الحديث رواه الإمام مسلم مختصراً في كتاب رضاع الكبير . ( مسلم حديث 1453 )
ورواه أيضاً الإمام مالك في الموطأ . ( موطأ مالك – كتاب الرضاع باب رضاع الكبير حديث 12 )
قال عبد الرزاق أخبرنا بن جريج قال سمعت عطاء يُسأل، قال له رجلٌ: سقتني امرأة من لبنها بعد ما كنت رجلا كبيرا أأنكحها؟ قال :لا قلت: وذلك رأيك؟ قال: نعم. قال عطاء: كانت عائشة تأمر بذلك بنات أخيها .
( حديث صحيح ) ( مصنف عبد الرزاق جـ7 صـ458 رقم 13883 )
حُكم رضاع الكبير :
رضاع الكبير رخصة عند الضرورة فقط لمن لا يُستغنى عن دخوله على المرأة ويشق احتجابها عنه كحال سالم، الذي تبناه أبو حذيفة مع سَهلة بنت سُهيل زوجة أبي حذيفة، رضي الله عنهم أجمعين .
وهذا مذهب أم المؤمنين عائشة، زوج نبينا محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وعروة بن الزبير، وعطاء بن أبي رباح، والليث بن سعد، وإسماعيل ابن علية، وداود الظاهري، وابن حزم .( الاستذكار لابن عبد البر جـ18 صـ272 : صـ276 )
مثال لرضاع الكبير عند الضرورة :
يتضح الأخذ برخصة إرضاع الكبير عندما تقوم أسرة بتربية طفل يتيم أو غيره، ثم يصعب عليهم بعد ذلك، الاحتجاب عنه، وقد تربى معهم كواحد من أولاد الأسرة، فحينئذ يرضع هذا الغلام ويصبح محرماً، يدخل على جميع أفراد الأسرة بلا حرج .
أقوال العلماء المؤيدين بثبوت التحريم برضاع الكبير عند الضرورة :
(1) قال ابن حزم : رضاع الكبير مُحرِّم ولو أنه شيخ .
( المحلى لابن حزم جـ10 صـ17 : صـ24 )
(2) قال ابن تيمية : رضاع الكبير يجوز إذا احتيج إلى جعله ذا محرم، وقد يجوز للحاجة ما لا يجوز لغيرها . ( مجموع فتاوى ابن تيمية جـ24 صـ60 )
(3) قال ابن القيم : حَدِيثَ سَهْلَةَ لَيْسَ بِمَنْسُوخِ وَلَا مَخْصُوصٍ وَلَا عَامّ فِي حَقّ كُلّ أَحَدٍ وَإِنّمَا هُوَ رُخْصَةٌ لِلْحَاجَةِ لِمَنْ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ دُخُولِهِ عَلَى الْمَرْأَةِ وَيَشُقّ احْتِجَابُهَا عَنْهُ كَحَالِ سَالِمٍ مَعَ امْرَأَةِ أَبِي حُذَيْفَةَ فَمِثْلُ هَذَا الْكَبِيرِ إذَا أَرْضَعَتْهُ لِلْحَاجَةِ أَثّرَ رَضَاعُهُ وَأَمّا مَنْ عَدَاهُ فَلَا يُؤَثّرُ إلّا رَضَاعُ الصّغِيرِ وَهَذَا مَسْلَكُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيّةَ رَحِمَهُ اللّهُ تَعَالَى وَالْأَحَادِيثُ النّافِيَةُ لِلرّضَاعِ فِي الْكَبِيرِ إمّا مُطْلَقَةٌ فَتُقَيّدُ بِحَدِيثِ سَهْلَةَ أَوْ عَامّةٌ فِي الْأَحْوَالِ فَتَخْصِيصُ هَذِهِ الْحَالِ مِنْ عُمُومِهَا وَهَذَا أَوْلَى مِنْ النّسْخِ وَدَعْوَى التّخْصِيصِ بِشَخْصِ بِعَيْنِهِ وَأَقْرَبُ إلَى الْعَمَلِ بِجَمِيعِ الْأَحَادِيثِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَقَوَاعِدُ الشّرْعِ تَشْهَدُ لَهُ . ( زاد المعاد لابن القيم جـ5 صـ593 )
(4) قال السندي :ـ في تعليقه على سنن النسائي في كتاب النكاح باب رضاع الكبيرـ : لو كان الأمر إلينا لقلنا بثبوت ذلك الحكم في الكبير عند الضرورة . ( سنن النسائي بشرح السندي جـ6 صـ405 )
(5) قال الصنعاني :ـ بعد أن ذكر أقوال الفريقين في رضاع الكبير ـ والأحسنُ في الجمع بين حديث سَهلة وما عارضه : كلام ابن تيمية، ثم ذكر أن رضاع الكبير رخصة عند الضرورة فقط لمن كان حاله كحال سالم مولى أبي حذيفة مع سهلة زوجة أبي حذيفة . ( سبل السلام للصنعاني جـ3 صـ313 )
(6) قال الشوكاني : الرضاع يعتبر فيه الصغر إلا فيما دعت إليه الحاجة كرضاع الكبير الذى لا يُستغني عن دخوله على المرأة ويشق احتجابها منه، واليه ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية، وهذا هو الراجح عندي .
( نيل الأوطار للشوكاني جـ 6صـ314 )
(7) قال محمد شمس الحق العظيم آبادي : إن الرضاع يعتبر فيه الصغر إلا فيما دعت إليه الحاجة كرضاع الكبير الذي لا يُستغني عن دخوله على المرأة ويشق احتجابها منه .
( عون المعبود شرح سنن أبي داود جـ6 صـ47 )
(8) قال السيد سابق : بعد أن ذكر قولي العلماء في رضاع الكبير : المختار من هذين القولين ما حققه ابن القيم : ثم ذكر أن التحريم برضاع الكبير رخصة عند الضرورة فقط، كمن كان حاله كحال سالم مولى أبي حذيفة مع سهلة زوجة أبي حذيفة . ( فقه السنة للسيد سابق جـ2 صـ360 )
قال المؤيدون بالتحريم برضاع الكبير :
قَدْ صَحّ عَنْ عائشة أَنّهَا كَانَتْ تُدْخِلُ عَلَيْهَا الْكَبِيرَ إذَا أَرْضَعَتْهُ فِي حَالِ كِبَرِهِ أُخْتٌ مِنْ أَخَوَاتِهَا الرّضَاعَ الْمُحَرّمَ وَنَحْنُ نَشْهَدُ بِشَهَادَةِ اللّهِ وَنَقْطَعُ قَطْعًا نَلْقَاهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنّ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ تَكُنْ لِتُبِيحَ سِتْرَ رَسُولِ اللّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِحَيْثُ يَنْتَهِكُهُ مَنْ لَا يَحِلّ لَهُ انْتِهَاكُهُ وَلَمْ يَكُنْ اللّهُ عَزّ وَجَلّ لِيُبِيحَ ذَلِكَ عَلَى يَدِ الصّدّيقَةِ بِنْتِ الصّدّيقِ الْمُبَرّأَةِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ وَقَدْ عَصَمَ اللّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ الْجَنَابَ الْكَرِيمَ وَالْحِمَى الْمَنِيعَ وَالشّرَفَ الرّفِيعَ أَتَمّ عِصْمَةٍ وَصَانَهُ أَعْظَمَ صِيَانَةٍ وَتَوَلّى صِيَانَتَهُ وَحِمَايَتَهُ وَالذّبّ عَنْهُ بِنَفْسِهِ وَوَحْيِهِ وَكَلَامِهِ . قَالُوا : فَنَحْنُ نُوقِنُ وَنَقْطَعُ وَنَبُتّ الشّهَادَةَ لِلّهِ بِأَنّ فِعْلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا هُوَ الْحَقّ وَأَنّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ يَقَعُ بِهِ مِنْ التّحْرِيمِ وَالْمَحْرَمِيّةِ مَا يَقَعُ بِرَضَاعِ الصّغِيرِ وَيَكْفِينَا أُمّنَا أَفْقَهُ نِسَاءِ الْأُمّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَقَدْ كَانَتْ تُنَاظِرُ فِي ذَلِكَ نِسَاءَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَا يُجِبْنَهَا بِغَيْرِ قَوْلِهِنّ مَا أَحَدٌ دَاخِلٌ عَلَيْنَا بِتِلْكَ الرّضَاعَةِ. ( المحلى لابن حزم جـ10 صـ24 ) ( زاد المعاد لابن القيم جـ5 صـ584 )
التحريم برضاع الكبير ليس خاصاً بسالم مولى أبي حذيفة :
إن التحريم برضاع الكبير لو كان خاصاً بسالم مولى أبي حذيفة فقط لبين ذلك النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأصحابه، كما بين النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأبي بردة ابن نيار أن جَذعتة ( الشاة ) تجزئ عنه فقط، ولا تجزئ عن أحد بعده . ( مسلم حديث 1961 )
وَأَيْنَ يَقَعُ ذَبْحُ جَذَعَةٍ أُضْحِيّةً مِنْ هَذَا الْحُكْمِ الْعَظِيمِ ( التحريم برضاع الكبير ) الْمُتَعَلّقِ بِهِ حِلّ الْفَرْجِ وَتَحْرِيمُهُ وَثُبُوتُ الْمَحْرَمِيّةِ وَالْخَلْوَةِ بِالْمَرْأَةِ وَالسّفَرِ بِهَا، ومَعْلُومٌ قَطْعًا أَنّ هَذَا أَوْلَى بِبَيَانِ التّخْصِيصِ لَوْ كَانَ خَاصّا بسالم مولى أبي حذيفة . ( زاد المعاد جـ5 صـ582 : صـ583 )
صفة سقي اللبن من أجل تحريم الكبير :
تجلس المرأة في مكان منعزل ليس فيه أحد إلا محارمها، ثم تحلب اللبن في كوب ثم ترسله إلى هذا الكبير ليشربه، وتكرر ذلك خمس مرات . وأما إذا كانت المرأة لا ترضع، فإنها تجعل أحد أخواتها أو بنات إخوانها أو أخواتها يسقين اللبن لهذا الكبير بالصفة التي ذكرنها آنفاً . ( الاستذكار لابن عبد البر جـ18 صـ273 :صـ274 )
خلاصة القول في رضاع الكبير :
إن الرضاع الذي يثبت به التحريم هو ما كان في السنتين الأوليين من ولادة الطفل، إلا فيما دعت إليه الضرورة، كرضاع الكبير الذي لا يستغنى عن دخوله على المرأة ويشق احتجابها عنه كحال سالم مولى أبي حذيفة مع سهلة بنت سُهيل، زوجة أبي حذيفة y أجمعين .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلي يوم الدين .