الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه وبعد :
فإن في دراسة الحديث النبوي الشريف التعرف على الدين كله، وإن إسناد الحديث من الدين، ودراسته وتدبره دين من عند الله رب العالمين، وأريد أن أشير إلى فائدة من تلك الفوائد الكثيرة.
عند قراءة الأسانيد كثيرًا ما يسترعي الناظر منها أن يقرأ عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، ويقرأ سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن جده ، ويقرأ سعيد بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه عن جده ، ثم نظرت إلى غالب هذه الأحاديث المروية ، فإذا هي قد رُويت في المسجد فتعلمها الصحابة من الرسول – صلى الله عليه وسلم – فنقلوها إلى البيوت، سواء في حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – أو بعد موته ، وأن من بعدهم نقلوها كذلك للأبناء والزوجات وذوى الأرحام في البيوت ، فسمعها الأبناء والأحفاد فتسلسلت في الأسرة .
من أجل ذلك أفردت هذا الحديث عن الأسرة والمسجد، ملخص القول فيه بأن: ( الأسرة دعامتها فطرية، والمسجد دعامة شرعية، فإذا نقلت الأصول الشرعية من المساجد فأدخلت البيوت نقلت معها السعادة، فغمرت البيوت وسكانها ).
وإذا أردنا شرح ذلك المعنى نقول مستعينين بالله عز وجل:
إن الله خلق الإنسان من ذكر وأنثى ، وجعل الألفة بين الذكر والأنثى في الإنسان فطرية ، لا يستغني الزوج عن زوجه العمر كله ، بل إن الله – عز وجل – أمر الرجال والنساء بغض الأبصار ، وأمر النساء بعدم الخضوع بالقول ، وأمرهما بعدم التسمع للهو الحديث حتى لا يستخدم الميل الفطري ، فيتولد منه علاقات طفيلية تضر البيوت وبراعمها وأزهارها .
انظر رعاك الله إلى الأبقار في حظيرتها لا يجمع بين الذكور والإناث في حظيرة واحدة ؛ لأن كل واحد منهما لا يحتاج إلى الآخر إلا في وقت بعينه بخلاف البشر ، فإن البيت والأسرة لا تكون كذلك إلا بالرجل مع زوجه ، ولا يستقر لها قرار بغير هذا .
ثم انظر ما جعله الله سبحانه من المحبة والإشفاق من الآباء على الأبناء ، وأنه حب فطري لا يتعلمه الناس ليكتسبوه ، إنما جعله الله مع خلق الإنسان ، فجعل الأبناء هبة وزينة يحبها كل إنسان ويبذل الجهد لجمع أسباب النماء والبقاء والسعادة لهم حتى امتن الله سبحانه على الإنسان ببنين وحفدة وحببهم إلى قلوبهم ، بل جعل الطفل يحبو أشهرًا ويتلعثم في قوله سنوات، ويحتاج إلى المربين من حوله عقودًا ، ذلك حتى يتمكنوا من تعليمه وتربيته ورعايته والإحسان في تنشئته ، فإن جاع أطعموه ، وإن بكى أسكتوه ، وإن مرض سهروا عليه يداووه، وإن استوحش آنسوه ، وإن احتاج أعطوه ، فيرى الخير الذي يحتاجه يأتيه من طريقهم ، فيحب أن يدخل السرور عليهم ، لذا فإنك ترى الطفل إن قطب أحد والديه جبينه في وجهه بكى وارتمى في أحضانه ، كأنه بذلك يعتذر عما أغضبه ويطلب رضاه ، وإن تبسم في وجهه سُر لذلك وأعاد ذلك الأمر الذي شعر أنه سبب دخول السرور على الوالدين ، كل هذا يمثل الدعائم الفطرية في الأسر والبيوت ، فهي من خلق الله وهدايته ، وليست من أوامر البشر وتعليمهم .
ثم نظرت إلى المسجد فإذا دخوله بالنداء الشرعي : ( الله أكبر . الله أكبر – إلى – لا إله إلا الله ) ، فإذا ذهبت إلى المسجد تطهرت طهارة شرعية تشعرك بجلال الموقف وعظمة اللقاء وقُدْسِيَّته ، فإذا خطوت عرفت بالشرع أن الخُطى تكتب بها الحسنات ، وتحط بها الخطيئات ، وترفع بها الدرجات ، فإذا دخلت قدمت الرجل اليمنى ، ثم تصلى لله تحية لبيته ، تؤمر أن تأتي إلى الصلاة وعليك السكينة والوقار غير صخاب ولا مختال ، فإذا وقف الإمام وأُقيمت الصلاة لزمت الصف خاشعًا في بصرك وأعضائك ، منصتًا لقراءة الإمام إذا قرأ القرآن ، والقرآن فيه العلم الشرعي كله ، فتتدبر وتتذكر وتتعلم وتعبد الله ترجو الخير وتستدفع الشر .
فإذا كان يوم الجمعة دعاك رب العزة سبحانه بقوله : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) [ الجمعة : 9] ، وإذا صعد الإمام على المنبر جلست في خشوع تسمع حتى إذا تكلم أحد المصلين فلا ترد، بل ولا تقول له : أنصت ، فمن قال لأخيه والإمام يخطب يوم الجمعة : أنصت فقد لغى، فمن اللغو أن تسكته بقولك : أنصت ، فيتعلم من الإمام في الصلاة ومن الخطيب يوم الجمعة يسمع سماع إلزام ، فالله سبحانه يقول : ( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون ) [ الأعراف : 204] ، والمقصود هنا : هو قراءة الصلاة ، ورب العزة يقول : (وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ) ، فكأن الله جعل سبل تعلم ذلك الدين والتذكير به في قرآن نسمعه خاشعين ، وفي خطبة نجلس إليها منصتين فنتعلم ، ومفتاح العلم يؤدي للاستزادة منه ، فيطلب العلم بعد ذلك فيجد بابه مفتوحًا في مواعظ المساجد ودروسها ، وفي سؤال الإمام وجوابه ، فإذا تعلم العلم النافع فانقاد إليه تحسن سلوكه ، وترشد في عمله واعتقاده ، فإذا أحب ذلك نقل العلم معه إلى بيته فعلمه زوجه وولده .
فإذا تعلمت الزوجة قول النبي – صلى الله عليه وسلم – : ( الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة …) ، فتتعلم المرأة الصلاح ، وتعمل به ، فيسعد الزوج بزوجته ، والله يأجر الزوجة إذا أسعدت زوجها ، وكذلك الزوج يتعلم قول النبي – صلى الله عليه وسلم – : ( خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي ) ، وقوله – صلى الله عليه وسلم -: ( إذا كرهت منها خلقًا رضيت منها غيره ) ، فيحسن الرجل لزوجه ويصفح عنها ، ويتجاوز عن خطئها بغير أجر يطلبه منها ؛ لأن الأجر إنما هو من الله سبحانه .
وهكذا تنقل الدعائم الشرعية للبيت من المسجد، فيبر الولد أباه، ويحسن الوالد العناية بولده، وتجتهد الأم في رعاية طفلها، ويحسن الرجل الإنفاق على بيته، وهكذا.
فتدبر كيف جعل الله سبحانه الأسرة دعامتها فطرية ، والمسجد دعامته شرعية ؛ لأن الأسر لازمة لبقاء دنيانا ، والمسجد يلزم فقط للمؤمنين ، فمن استجاب فله الأجر ، ومن لم يستجب فعليه الوزر ، فإذا شعر المؤمن بقيمة المسجد ورسالته ، نقل علم ذلك إلى البيت ، فسعد بدعامتها الفطرية .
فالأسرة والمسجد هما المؤسستان التربويتان اللتان اعتنى بهما شرع الله سبحانه ، فعلينا العناية بالأمر الفطري ، وبالأمر الشرعي ، نسعد في الدنيا والآخرة ، وتكون ثمارنا في أبنائنا أبناء صالحين ، وعلماء عاملين ، ومجاهدين ورعين .
والله من وراء القصد.