قال تعالى : ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم ) [ التوبة : 60] .
فرض الله الزكاة في العام الثاني من الهجرة ، فكان بها الفضل العظيم من الله على الغني الذي يُخرج الزكاة ، ثم على الفقير الآخذ لها ، وعلى جميع الأمة أيضًا .
أما الغني فإن الله رفعه فوق المال ، فصار للمال مستخدِمًا بعد أن كان للمال خادمًا ، حيث يعطي المال بغير عوض عاجل ، كما اعتاد في البيع والشراء وسائر المعاملات ، فرفعه الله بذلك عن العبودية للمال ، فأصبح الغني سيدًا للمال ، وفي الحديث : (تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة ، إن أعطي رضي ، وإن لم يعطَ لم يرضَ ، تعس وانتكس ) [رواه البخاري عن أبي هريرة ] .
ومن فضل الله في الزكاة على الغني أن جعل الله يد الغني هي العليا بشرعه من أنه قَدَّر رزق الفقير ، فلا ينال الفقير من رزق الغني شيئًا ، والله قادر على أن يوصل للفقير رزقه بغير واسطة الغني ، فلما وَسَّطَ الله الغني كرمه ، فمن أبي الكرامة استعبده المالُ فانتكس .
وفي الحديث : ( اليد العليا خير من اليد السفلى ) ، وفي الحديث : ( ثلاث أقسم عليهن : ما نقص مال عبد من صدقة … ) ، فالله قَدَّرَ الأرزاق ، فلا يعدو عبد رزقه ، والله يوصله إليه، فكل ما جعله الله وسيلة رزق لعبد فهي كرامة من الله كرم بها تلك الوسيلة .
ومن فضل الله في الزكاة على الغني أن جعل الله محبة في قلب الفقير لذلك الغني الباذل ، وجعل مع المحبة دعاءً له ، نال ذلك بحق الفقير الذي جعله الله في ماله : ( وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) [ الذاريات : 19] ، ( وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ( 24 )لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) [المعارج : 24 ، 25] .
ومن فضل الله على الغني في الزكاة، الزيادة في الإيمان التي تجعله يتعلق بالآخرة ، وتخفف من تطلعه وتعلقه بالدنيا ؛ لأن من أجهد نفسه في جمع شيء علق نفسه به ، فصاحب الدنيا الجامع لها يعلق نفسه بها حتى يكون على فراش الموت وهو يلفظ أنفاسه يتعلق بها ويوصي ، وهذه من أمارات سوء الخاتمة ، ومن أعد لثواب الآخرة تعلق بها في حياته وعند موته ، فحسنت خاتمته ؛ لأنها تكون مع آخر لفظة ، والنبي- صلى الله عليه وسلم – يقول : (يُبعث كل عبد على ما مات عليه ) .
ومن فضل الله على الغني في الزكاة أن ينال من عطاء رب العالمين أضعافًا ، مع أن ما أعطاه هو ( العفو ) أي اليسير من الزائد عن حاجته ، وهو من عطاء الله وفضله ، وقد أمره بتوصيله إلى الفقير ، فلما استجاب لأمره رزقه في النفس سماحة وانشراحًا ، هي خير له من المال ، وفي الثواب تضعيفًا يدفع عنه به أليم العذاب يوم الدين ، ويستجلب له به حب المخلوقين .
هذه بعض فضائل الزكاة على الغني التي جعلها الله منحة للأغنياء المُزَكّين.
والزكاة فضل الله على الفقير كذلك ، فالله سبحانه قدر الأرزاق ، حيث جعل فلاحًا يرزقه الله بسبب أرض يحرثها ، وتاجر بسبب مال يتاجر فيه ، وصانع يرزقه بسبب صنعته ، فهذا يُرزق بسبب عمله ، وذلك يرزق بغيره ، فالله كتب الأرزاق وقدر لها الأسباب القَدَرِيَّةَ ، ثم مِن الناس مَن فقدوا كل الأسباب القدرية ، فلا أرض يزرعها ، ولا مال يتاجر فيه ، ولا صنعة يصنعها ، ولا سبب غير ذلك ، هذا يدركه الله بلطفه في شرعه ، فيجعل رزقه في الصدقات والزكاة : ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ) [ التوبة : 60] ، فيتعلم الفقير شكر ربه الرزاق ، وشكر الغني الذي جعله الله من الأسباب .
والزكاة فضل على الأمة بأسرها، ويظهر فضلها إذا راعى المسلمون مشروعيتها؛ فعملوا بها في وقتها ومقدارها وأصنافها، ويظهر الخلل بقدر ما يبتعدُ الناس عن مشروعيتها، فالزكاة جعلها الله تخرج في الزرع يوم حصاده، وفي سائر المال على رأس حوله.
فلما ظن أن إخراج الزكاة في رمضان أعظم أجرًا وأكثر فضلاً وفهموا النصوص على غير فهمها وقعت من ذلك مفاسد عظيمة ، منها : أن الفقير رأى المال يصب عليه في رمضان وفيرًا فتعلم الإسراف في الإنفاق ، فلما انتهى شهر رمضان لم يجد الغني يبذل له كما كان ، فلما نفد من المال ما جمع ، ذهب إلى الغني الذي رأى منه بذلاً فسأله فلم يعطه ، بحجة أنه أخرج الزكاة في رمضان ، مع أن الفقير يصوم رمضان ويفطر في سائر العام ! فهو في حاجة إلى الطعام دائمًا ، بل أكثر من رمضان ، فلما لم يعطه ألحف في المسألة ، فبعد أن تعلم الإسراف تعلم الإلحاف ، وفي إلحافه صار يعرض حاجته في تهتك وتبذل ، فصار يصطنع مظهرًا يبدي للناس السوءات ، بل ويشكو إلى الناس رب الناس ، يشكو الرازق للمرزوق ، ويشكو الخالق للمخلوق ، فأي سوء أكثر من ذلك الذي يفعله هذا العبد ، فلما أعطاه أخذ الفقير يدخر من المال الذي يأخذه ويسأل ويتسول وعنده من المال ما يكفيه ، فلا يترك المسألة مع عدم الحاجة ، فيرتكب الحرام ، حيث قال النبي- صلى الله عليه وسلم – : (إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ، ثم يمسك ، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش ، ورجل أصابته فاقة ، حتى يقول ثلاثة من ذوي الحِجَى من قومه ، لقد أصابت فلانًا فاقة ، فحلت له المسألة حتى يصيب سدادًا من عيش ، فما سواهن من المسألة فهي سحت ، يأكلها صاحبها سحتًا ) .
ويقول – صلى الله عليه وسلم – : ( لاتلحفوا في المسألة ، فوالله لا يسألني أحد منكم شيئًا فتخرج له مسألته مني شيئًا وأنا له كاره فيبارك الله فيما أعطيته ) .
وقول – صلى الله عليه وسلم – : (لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مزعة لحم ) .
ويقول – صلى الله عليه وسلم – : (من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته ، ومن أنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل ) .
فانظر، رعاك الله، كم جَرَّت هذه المخالفة التي يظنها حسنة ، جَرَّت على الناس مفاسد في الأموال والأنفس والمجتمعات ؛ لأن الله جعل شرعه كاملاً لا نقص فيه .
ومن فضل الله على الأمة في الزكاة أن تجعلها تحمي العبد من النوائب التي تصيبه في حياته، إن أصابته فاقة أو وقع في كارثة ، وكذلك الله يحمي بالزكاة صاحب النخوة إن تحمل حمالة، فله أن يأخذ من الزكاة بقدر سداد ذلك الذي تحمله ، ولو كان غنيًّا ، وبذلك يدخل المسلم في إصلاح ذات البين ، ويتحمل منها ما يصلح بين المتخاصمين ، فإن لم يَفِ أحدهم فالله يدركه بزكاة المال ، والله يحمي ثغور المسلمين بالزكاة ، يُعطى منها الغزاة ثمنًا لسلاحهم ونفقة لأنفسهم وعيالهم ؛ لتطمئن القلوب وترتفع راية الجهاد في سبيل الله ، والزكاة أيضًا يَردُّ الله بها شبهات الأعداء عن دين المسلمين بتفريغ ما تحتاجه الأمة من طلب العلم فهو سبيل الله .
والله يحمي المسلم في رقه إن وقع فيه فيجعل في الزكاة سببًا لفكاكه، والله يؤلف القلوب بالزكاة فيعطي السيد المطاع في قومه رجاء إسلامه أو دفعًا لشره أو تثبيتًا لإيمانه أو دفعًا لغيره نحو الإسلام؛ ليحصل تأليف القلوب وصلاحها.
ولم يجعل الله جمع الزكاة وإدارتها تطوعًا فحسب ، حتى جعل للعاملين عليها نصيبًا حتى لا تتعرض للضياع والإهمال ، ولا تميل نفس الجامع إلى شيء منها ، فيخون ولا يميل مع أحد من المصَّدَّقين الذين يدفعونها فيرتشي ؛ لذا جعل الله من أبواب إنفاقها العالمين عليها .
فالزكاة شرع من الله سبحانه ليحمي بها الأمة ، فيقوم المال بدوره خادمًا لأمة عبدت ربها فأطاعته ، فمن أطاع الله سبحانه جعل له النعيم والسعادة في الدارين في الدنيا والآخرة ، فهل رأيتم إخوة الإسلام صاحب مال أفلس بسبب الزكاة ، مع أن النظم الأرضية الأخرى من ضرائب وجمارك ومكوس كثيرًا ما تكون سببًا لإفلاس الموسرين والأغنياء من أصحاب الملايين ؟؟!!
فالحمد لله على نعمة الإسلام وكفي بها نعمة .
والله من وراء القصد .