الحمد لله وحده والصلاة والسلام على خير خلقه ، محمد وآله وصحبه .. وبعد:
إن البدن يتأثر كثيرًا بما يصيب الروح ، فقد يعتريه المرض ويشتد به الوهن إذا عرضت له مشكلة ، وإن مشاهدة أحوال المسلمين في بلاد الغربة أمر محزن جدًّا لكثرة المشكلات وصعوبتها مع إغراءات مادية وشهوات جارفة تجرف الأسرة وأفرادها بعيدًا عن كل قيمة نافعة أو سلوك حميد .
والتحسن والعلاج إنما بدايته في الشعور بالمشكلة ، وذلك هو الذي بدأ يدب اليوم في المسلمين في بلاد الغربة ، حيث ظهر الشعور عند بعضهم بالضياع والشتات ، والشعور بضرورة الحل وأنه ممكن ، لكن تبقى الشهوات تجرف بعنف وشدة ، فتنسي كثيرًا ، فما يتفق عليه اليوم من نظام للإصلاح وحل للمشكلات يبقى طي النسيان ، وحبيس الخواطر حتى يأتي موعده من العام القابل – إن كتب له المراجعة – وتعجب عندما تحدث مسلمًا في المشكلات والمخالفات الواقعة فيوافقك فيها ويتأثر معك ويتحمس للحل ، إلا أن الخوض في الحياة بعد ذلك ينسي كل هذا .
قد نعيب على المسلم في بلاد المسلمين أن شأنه مع الموعظة والتذكرة ليس كما قال النبي- صلى الله عليه وسلم – لحنظلة بن أبي الربيع : ( ساعة وساعة ) ، إنما هو ساعة وأسبوع ، لأن الكثير منهم لا يجلسون للموعظة إلا في يوم الجمعة ويجلسون في شرود وغفلة وتبرم وضجر ، مما يجعل الأمراض تستفحل وتزداد .
إذا كان الحل كذلك في بلاد المسلمين فإن شأن الكثير من المسلمين في بلاد الغرب هو موسم يعقدون فيه مؤتمرًا يتلوه عام كامل يغرقون فيه في الدنيا وشهواتها ، فشأنهم ليس ساعة وساعة ، ولا ساعة وأسبوع ، بل ساعة وسنة ، فكيف لهذه الساعة أن تزيل أدران سنة كاملة ، وأن تعالج أمراضها وتزيل أسقامها ؟!
في وسط هذه الآلام والأحزان يظهر بصيص الأمل وبارقة الضوء تلمع ، فتبعث في النفس إشراقة ، وفي الجسد نشاطًا ، أذكر من هذا مثالين :
– المثال الأول : ذلك الطفل الذي لا يزال دون العاشرة من عمره ، لقيته مع أبيه في مدينة (كرفالس ) من ولاية ( أُدُريجان ) أبوه عربي وأمه عربية ، قد أخذا على أنفسهما أن يفرغا كل ما يستطيعان من وقت للأبناء ، فولدهم هذا يتكلم العربية ويقرأ بها جيدًا ، وهذا أمر نادر جدًّا بين أبناء المسلمين العرب هناك ، رأيته يقرأ في كتب الأصول وغيرها ، وقد قص على عجل قصة دعوته لصاحبه الأمريكي في مثل سنِّه فأسلم صاحبه رغم أن الأسرة كلها كانت تدعوه إلى عقيدتهم في الصلب والفداء ويمارسون عليه أساليب الإغراء ، وهو ثابت أمامهم بحجته القوية الواضحة التي تبين عظمة الإسلام وتفاهة كل العقائد الأخرى ، كل هذا وصاحبه الصغير يسمع الحوار فيقول له : دينكم هو الحق أريد أن أدخل فيه فيعلمه الشهادتين ، والصلاة ليصلي معه .
– أما المثال الآخر : فهو في ( عبد الله الأمريكي ) الذي لقيته في مسجد التوحيد بمدينة ( ديترويت ) من ولاية ( متشجان ) ، وقد تحول إلى هذه المدينة قريبًا من المسجد ليحمل مفاتيح المسجد ويعتني به ، أقتطفت من الحوار الطويل معه هذه المقتطفات لتكون أمام القارئ عظة وعبرة :
– سؤال : ماذا كنت تعرف عن الإسلام والمسلمين قبل إسلامك ؟
– الجواب : حقيقة الإسلام والمسلمين عند الغالبية العظمى من الأمريكان ، بل جميعهم خاطئة ، حيث كنت أعتقد بأن الإسلام هو ما تدعو إليه جماعة ( لويس فرخان ) التي تسمى ( أمة الإسلام ) ، فهم يعتدون أن الله رجل ، وأن الجنس الأسود هم شعب الله المختار ، وأن الجنس الأبيض شياطين وكفرة ولا صلة لهم بالإسلام .
– سؤال : كيف أسلمت ؟
– الجواب : كنت جنديًّا في الجيش الأمريكي الذي حارب في الخليج ، وكنت في السعودية ، وبعد الحرب كنا ننزل الأسواق القريبة من المعسكر ، ونسمع الأذان للصلاة وكم تمنيت أن أفهم معنى كلمات الأذان ، لكني أرى الناس يذهبون مباشرة للصلاة وذات يوم دخلت مع صديق لي نشتري من أحد المحلات التجارية ، وعند دفع الثمن نُودي للصلاة بالأذان ، وفورًا أوقف البائع البيع وطلب منا الخروج ، فطلبنا منه إنهاء عملية البيع ، لأن الأمر لا يستغرق إلا دقائق ، فرد علينا البائع قائلاً : ( إن عبادة الله تقدم على أمور الدنيا ) .
أثَّر هذا الموقف البسيط في نفسي الأثر الكبير ، وفكرت فيه كثيرًا ! هؤلاء يعلمون أن الجنود الأمريكان معهم أموال كثيرة ، ومع ذلك يؤثرون حب الله وعبادته وطاعته وتلبية النداء على هذا المال الذي يبذل لهم .
شعرت أن العبادة الصحيحة يجب أن تكون هكذا ، وأيقنت أن هذا هو الدين الحق فهو الوحيد الذي يدفع أتباعه ليقدموا مرضاة الله على شهواتهم باختيارهم .
بعد أن رجعت إلى أمريكا جمعت ما أستطيعه من كتب ونشرات عن الإسلام ، وقرأت ترجمة القرآن ، وقابلت بعض المسلمين ، فارتاح صدري للإسلام ، فأعلنت إسلامي .
– سؤال : هل للإسلام من أثر في حياتك ؟
– الجواب : نعم بالطبع ، لقد كنت غارقًا في كافة أنواع المعاصي والسيئات كسائر الأمريكان ، لكن بحمد الله تعالى تغيرت حياتي تغيرًا جذريًّا كاملاً ، فأصبحت أشعر بمسئولياتي الشرعية التي أوجبها الله عليَّ ، كنت معتادًا على أشياء خطيرة لم أكن أدرك أضرارها ، والآن أفقت وشعرت بضرورة تصحيح ذلك كله ، لأن الله الذي خلقني يراني ويرعاني ، أشعر بمسئوليتي نحوه وأسعد عندما أقوم بها ، أشعر بنعمة الهداية إلى الطريق الصواب ، فالحمد لله على هذه البصيرة بعد العمى ، وأسأله سبحانه أن يعينني على الطريق الذي يرضيه .
فأنا اليوم صاحب حظ سعيد أن هيأ الله لي فرصة النجاة من بين هؤلاء الأمريكان الكثيرين ، وأدعو الله أن يديم عليَّ بركته وهدايته ، وأن يجنبني الخطأ والنسيان ، وأن يوفقني للدعوة لدينه ، ولا أكون كبعض المسلمين الذين نسوا دينهم ، ولا الذين نسوا الدعوة إلى هذا الدين الحق .
أخي القارئ الكريم هذه مقتطفات من حوار مع المسلم ( عبد الله الأمريكي ) وأوصي نفس وإخواني بعد ذلك :
– أولاً : ضرورة عناية المسلم بدينه وتطبيقه علمًا وعملاً ليكون له مثالاً جيدًا ويكون بنفسه رسالة مفتوحة للناس تتحدث عن الإسلام وإن كان صامتًا .
– ثانيًا : ضرورة العناية بالأسرة وخطورة الانجراف في تيارات التغريب في بلاد المسلمين، فضلاً عن السفر والإقامة في بلاد الكفر .
– ثلالثًا : الإسلام دين الفطرة لا تستقيم السعادة إلا بالعمل به ، وهو واضح الحجة يغلب الصبي بحجته الكبار مع وسائل إغرائه ، وفي قصة حياة المهندس / محمد توفيق أحمد رحمه الله تعالى في دعوته للمبشرين الأجانب وهو طفل صغير خير مثال لذلك ، ولا يتسع المقام لسردها ، فالله الله في الإسلام عقيدة وعملاً ، والله من وراء القصد .