الحمد لله خلق فسوى وقدر فهدى ، وأنزل الشرع وقدر له البقاء ، وبعث نبيه بالهدي ودين الحق ، وهدى له رجالاً استجابوا لدعوة الحق فقاموا معه خير قيام حتى نشر الله الإسلام في ربوع الأرض .
والله القادر هيأ لدينه الكون وأعده لاستقباله أتم إعداد ، فكان من ذلك حرس طريق الوحي من كل مسترق للسمع : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا(8)وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا) [ الجن : 8 ، 9] ، فقدر الله سبحانه لنبيه الكريم ودينه القويم بلدًا لا تغلق أبوابها عن داخل أو خارج – وهي مكة – ليبدأ بدعوته فيها ، فانتشر خبر دعوته إلى الناس في الآفاق ، فسمعوا به ، ولم يستطع من كره دعوته من عظماء مكة ورؤسائهم أن يغلقوا أبواب بلدهم ليمنعوا دعوته من الانتشار ، وكان سبب تقدير رب العالمين أن جعلها بلدًا غير ذي زرع عند بيته المحرم ، فأما غياب الزرع فجعلهم يألفون رحلة الشتاء والصيف ، وأما البيت المحرم فجعل أفئدة من الناس تهوي إليه ، فبعد أن بلغت الدعوة بمكة مبلغها وتكونت من المؤمنين زمرة طيبة قدر رب العالمين لنبيه عند العقبة من الخزرج من أهل المدينة رجالاً سمعوا منه دعوة فاستجابوا لها ، وقالوا : إنه النبي المبعوث الذي بشر به يهود ، فلا يسبقنكم إلى اتباعه ، وذلك ما ذكره رب العزة في قوله : (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) [ البقرة : 89] ، فكأن الخزرج بل والأوس عرفوا خبر النبي الخاتم من اليهود فكان تقدير رب العالمين بوجود اليهود في المدينة بجوار الأوس والخزرج قد هيأ أهل المدينة للترحيب بدين الإسلام ونبي الإسلام ، وكان من أسباب ذلك وجود اليهود ، فقدر الله للناس أن عرفوا الإسلام منهم ، بينما كفروا هم ليستحقوا بذلك العذاب ، وينشر الله دينه ، ويجعل المدينة حرزًا للإسلام والمسلمين .
ومن التدبير الإلهي الذي هيأ الله به المدينة لهجرة نبيه الكريم أن كان العداء بين الأوس والخزرج طويلاً ، فنشأ من ذلك العداء أمران هامان جعلا المدينة خير مهد للإسلام بعد مكة ، فكانت دار الهجرة :
الأمر الأول : أن القوم كانوا قد تعلموا فنون الحرب ، وكانوا قد جمعوا الشجاعة والإقدام ، فلما جاء الإسلام ونابذهم الناس العداء قال قائلهم يوم بدر : إنا لصبُر في الحرب صدق عند اللقاء ، لعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك ، فسر على بركة الله ، فكانوا لا يهابون الحرب ولا يخافون السيوف ، وكانوا شجعانًا فرسانًا ، نصر الله بهم دينه ، ورفع بهم لواءه .
الأمر الثاني : أن القوم كانت بينهم مصاهرات ، فإذا وقعت حرب بينهم التقوا بسيوفهم وبينهم الأرحام والقرابات ، فسفكت الدماء بأيديهم على ما بينهم من قرابات ومصاهرات فاشتاقوا لسلم يجمعهم فيكفوا أسلحتهم ، حتى أن البعض منهم قدم عبد الله بن أبي بن سلول ليكون ملكًا عليهم ؛ لأنه استطاع أن يجنب طرفًا من قومه الدخول في أحد هذه الحروب !! فكانوا يقولون للنبي – صلى الله عليه وسلم – في أول لقاء لهم به عند العقبة : إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم ، فعسى أن يجمعهم الله بك ، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين ، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك .
ومن التدبير الإلهي الذي أهل الله به المدينة لتكون دار هجرة لنبيه الكريم أن كانت المدينة دار فيها زرع يصبر سكانها على حصارها إذا حوصروا ، كما وقع ذلك في ( أُحد ) ، وفي ( الأحزاب ) بينما مكة لا تستطيع الصبر ؛ لأنها غير ذات زرع ، فلا تصبر على حصار .
ولقد سبق ذلك تدبير إلهي طويل في طريق الهجرة ، حيث أخذ الله أبصار المحاصرين ، فلم يروا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو خارج حتى وضع التراب على رءوسهم ، ولما دخل إلى الغار وأخذ المشركون يبحثون حتى وصلوا إلى الغار ، ولكن أخذ الله بأبصارهم ، فقال أبو بكر : يا نبي الله ، لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا ، قال : ( ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما ) .
ولما سار خلفهم سراقة بن مالك طمعًا فيما فرضته قريش لمن يأتي بالنبي صلى الله عليه وسلم حيًّا أو ميتًّا ، قال سراقة : ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين فخررت عنها ، فتكرر ذلك حتى علم أن الله يمنعهما منه ، فعاد وهو يقول لمن يبحث عنهما : قد كفيتكما هذا الطريق ليبحثا في طريق غيره .
تلك لمحات يسيرة من الحماية القدرية لطريق هجرة النبي – صلى الله عليه وسلم – ، وإعداده للمدينة لتكون دار الهجرة للمسلمين : (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ) [يوسف :21] ، فمن أطاعه سدد خطاه : ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا(2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ) [الطلاق :2 ،3] ، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ) [الطلاق :4] .
والله من وراء القصد .