الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه إلى يوم الدين، وبعد:
فإن الإسلام حث على فضائل ، وحذر من رذائل ، الأخذ بذلك نجاة في الدارين وسلامة للعبد ومن حوله ، ومن ذلك اختيار الصحبة الصالحة .
ففي ( الصحيحين ) من حديث أبي موسى الأشعري ، رضي الله عنه ؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال : ( إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير ، فحامل المسك : إما أن يحذيك ، وإما أن تبتاع (1) منه ، وإما أن تجد منه ريحًا طيبةً ، ونافخ الكير : إما أن يحرق ثيابك ، وإما أن تجد منه ريحًا منتنة ) .
وفي سنن أبي داود والترمذي من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ) .
وعندهما أيضًا من حديث أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لا تصاحب إلا مؤمنًا ، ولا يأكل طعامك إلا تقي ) .
وفي ( الصحيحين ) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : ( تنكح المرأة لأربع : لمالها ، ولحسبها ، ولجمالها ، ولدينها ، فاظفر بذات الدين تربت يداك ) .
قال النووي : معناه أن الناس يقصدون في العادة من المرأة هذه الخصال الأربع ، فاحرص أنت على ذات الدين واظفر بها ، واحرص على صحبتها .
والمسلم في الصحبة الصالحة يستعين بها على مواجهة الفتن والثبات على طريق الرشد.
هذا ، وقد نهى النبي – صلى الله عليه وسلم – عن التبدي – سكنى البادية – لما فيه من البعد عن الجماعة التي يستعين بها على دينه، وقد أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – المسلم بالهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام ، والهجرة من بلد المعصية إلى بلد الطاعة ، والهجرة من بلد الكفر التي لا يستطيع أن يقيم فيها دينه – ولا توجد بلد إسلام – إلى بلد كفر يستطيع أن يقيم فيها دينه ، كهجرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الحبشة .
يقول في ( منار السبيل ) : والهجرة واجبة على كل من عجز عن إظهار دينه بمحل يغلب فيه حكم الكفر والبدع المضلة ، بحيث يمنع من فعل الواجبات ؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به واجب ، وكذا إن خاف الإكراه على الكفر ؛ لقوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ) [ النساء : 97] .
وعنه – صلى الله عليه وسلم – قال : (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين لا تراءى نارهما ) .
وعن معاوية مرفوعًا : ( لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها ) .
ففي بلاد الإسلام توجد كثرة مسلمة وقلة من غير المسلمين ، فيسير المسلم في طريقه يلقي السلام على من عرف ومن لم يعرف ؛ لأن الغالبية من المسلمين وإن لم يتميزوا في زيهم وهيئتهم ، ويشتري اللحم ممن يبيعه بغير سؤال عن حل الذبح ؛ لأن الغالب عليهم الإسلام .
وتخرج فئات من المسلمين وشبابهم إلى بلاد الكفر سعيًا وراء مال يجمعونه ، أو دنيا يصيبونها كلهم – إلا من رحم ربي – ولم يتحصنوا في دينهم وعقيدتهم ؛ لذا فإن شبهات الكافرين تتسرب إليهم رويدًا رويدًا ، فتراهم يتشككون في الجليات الواضحات ، ويستريبون في المستيقنات ، ويردون البديهيات ، فإن بقوا هناك فإنهم يلدون ذرية لا تعرف من الإسلام الاسم ولا الرسم ، وإن عادوا إلى بلاد المسلمين فيعودون بأفكار حملوها معهم ، فيجدون لهم من أبناء المسلمين منصتين وسامعين ، خاصة وأن التحصن بالعلم النافع في كثير من بلاد المسلمين صار هامشيًا جانبيًّا وتعلم القرآن ولغته صار في كثير من بلاد المسلمين رجعية وتخلفًا ، وإدخال الكلمات الأجنبية رقيًّا وتقدمًا ، فيهدمون من الصدور إيمانًا ، ويزعزون من أعمال الناس كثيرًا مما هو من مسالك المسلمين، فيؤثرون على كثير من البسطاء والشباب ، ويتركون بذلك شبابًا لا يعرف من الإسلام إلا اسمه ، ولا من الدين إلا رسمه ، فتبقى صورة الإسلام بغير حقائق ، بل سرعان ما تزول الرسوم بعد زوال الحقائق والمعتقدات ، وإن الاحتلال الذي أصاب بلاد المسلمين دخل عليهم ليهز بخبث ومكر معتقداتهم ، فلما اهتزت وضعفت انهارت الصور والأشكال ، فلما قامت امرأة واحدة في جمهرة من النساء بنزع النقاب عن وجهها ، والذي بقي على وجهها قرونًا طويلة تبعها جميع النساء من حولها بنزع النقاب ، بل وداسوه بالأقدام ، فما هي سوى أعوام قليلة حتى كشفت الأفخاذ والصدور ، وجسمت الثياب ما لم يُكشف من مفاتن المرأة ، فلما كان الوجه مستورًا كان الدن كذلك ، فلما كشف الوجه هان كشف بقية البدن .
هذا ، وكلما عظم المسلمون الكافرين وما عندهم أسرعوا فاستوردوا منهم عادات وثقافات أثرت على الناس ، كان من أول ذلك لما ترجمت الفلسفة اليونانية في عهد الدولة العباسية وانبهر بها بعض الرجال ، فحكموها في معتقدهم ، حتى حكموها في أسماء الله وصفاته ، فقالوا : رأي السلف أسلم ، ورأي الخلف أعلم وأحكم ، وجعلوا ذلك في معتقدهم ، فأولوا كثيرًا من نصوص الشرع ، فضلوا بذلك التأويل .
لذا وجب على المسلم تعلم دينه والإقرار بكماله ، فيستسلم له ، فإذا فعل ذلك التزمه فرفعه رب العزة في الدنيا عزًّا وفي الآخرة جنة عرضها السماوات والأرض .والله من وراء القصد.
—————–
(1) تبتاع : تشترى .