من أحكام البيع (4)

أخرج البخاري في ( صحيحه ) عن حكيم بن حزام ، رضي الله عنه ، قال ‏‏: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا – أو ‏قال : حتى يتفرقا – فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما ، وإن كتما وكذبا ‏محقت بركة بيعهما ) .‏

وعن ابن عمر ، رضي الله عنهما ، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : ( ‏إن المتبايعين كل واحد منهما بالخيار في بيعهما على صاحبه ما لم يتفرقا أو ‏يكون البيع خيارًا ) ‏

وفي رواية : ( إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا ‏جميعًا ، أو يخير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك ، فقد وجب البيع ، وإن ‏تفرقا بعد أن يتبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع ) .‏

الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه وسلم ، وبعد : فنكمل ‏حديثنا عن أحكام البيع ، فنقول وبالله تعالى التوفيق : ‏

الزيادة في المبيع أو الثمن :‏

يجوز للمشتري أن يزيد في الثمن بعد العقد ، وكذلك يجوز للبائع أن يزيد في المبيع بعد ‏العقد على أن يقترن ذلك بقبول الطرف الآخر في مجلس الزيادة ، لا فرق فيما لو كانت ‏الزيادة بعد التقابض أو قبله ، أو كانت من جنس المبيع أو الثمن أو من غير جنسه ، مع ‏ملاحظة ألا تكون هذه الزيادة مقصود بها إضاعة حق الغير ؛ مثل الشفيع الذي يأخذ ‏المباع بحق الشفعة .‏

مصاريف التسليم :‏

اتفق الفقهاء على أن أجرة الكيال أو الوزان أو الذراع (1) أو العداد تكون على البائع ، ‏وكذلك مئونة إحضار المبيع إلى مكان العقد إذا كان غائبًا ، إذ لا يحصل الوفاء إلا بذلك ، ‏كل ذلك في المبيع ، أما إن كان الثمن يكال أو يُوزن أو يقاس أو يُعد فمئونة ذلك على ‏المشتري .‏

البيع الجبري :‏

هو أن يكون على الرجل دين ، وله عين لا يريد بيعها لسداد دينه ، فيجبره السلطان ‏على البيع وفاءً لدينه ، فإن أصر على الامتناع قضى الحاكم الدين من ماله إن كان من ‏جنس الدين الذي عليه وباع الإمام ماله جبرًا نيابة عنه إن كان من غير جنسه ، وكذلك ‏في المرهون إذا حل أجل الدين وامتنع المدين عن الأداء .‏

الاحتكار : وهو شراء القوت ، وحبسه لبيعه وقت الغلاء تضييقًا على الناس ، ويطلق ‏الاحتكار فيما إذا كان المحتكَر طعامًا ، وأن يكون ملكه للمحتكر بطريق الشراء ليس ‏الزرع ولا الجلب، وأن يحبسه بقصد الغلاء على الناس ، وأن يترتب على ذلك الإضرار ‏بهم والتضييق عليهم، ويكون ذلك بالشراء وقت الغلاء انتظارًا لزيادة الغلاء على الناس ‏‏.‏

هذا ، فإذا وقعت الشدة بأهل بلد أُمر أهل الطعام بإخراجه ، سواء كان من جلب أو ‏زراعةٍ رعايةً لمصالح العباد ، وإن لم يسم عمل المجبرين على البيع هنا احتكارًا ، فكل ‏متصرف في سلعة وحده يبيع كيف شاء ، بحيث يضيق على العباد ، يؤخذ على يديه ‏ليبيع بثمن المثل .‏

يفهم من ذلك أن الاحتكار المحرم هو ما كان :‏

‏1- في القوت .‏

‏2- سبيل الحصول عليه هو الشراء من سوق المسلمين .‏

‏3- أن يكون ذلك وقت الغلاء .‏

‏4- أن ينتظر به شدة الغلاء فيحبسه عن البيع حتى يشتد الغلاء .‏

أما إن وقعت شدة بالمسلمين فإن السلطان يأمر أصحاب الأقوات وكل ما تعلقت به حاجة ‏المسلمين أن يبيعوها ، بل ويجبرهم على ذلك رعاية لصالح الناس جميعًا .‏

ضع وتعجل : وهي أن يكون للرجل على الآخر دين إلى أجل فيطلب منه دينه قبل موعده ‏ويسقط عنه بعضه ، أجازه ابن عباس وزفر ، ومنعه جماعة من الصحابة ؛ منهم ابن ‏عمر ، ومنعه مالك وأبو حنيفة وجماعة من فقهاء الأمصار .‏

وعمدة من لم يجز – ( ضع وتعجل ) – أنه شبيه بالزيادة مع التأجيل المجمع على ‏تحريمها ، ووجه شبهه بها أنه جعل للزمان مقدارًا من الثمن في الموضعين جميعًا ، ‏وذلك أن هناك لما زاد له في الزمان زاد له عوضه ثمنًا ، وهنا لما حط عنه الزمان حط عنه ‏مقابله ثمنًا .‏

وعمدة المجيزين حديث ابن عباس ، حيث قال لبني النضير لما أرادوا الخروج ولهم ‏ديون على الناس : ( ضعوا وتعجلوا ) (1) .‏

يقوم الشيك مقام القبض ‏

من قرارات المجمع الفقهي بمكة في رجب 1409 هـ بشأن قيام الشيك والقيد في دفاتر ‏المصرف مقام القبض :‏

أولاً : يقوم استلام الشيك مقام القبض عند توفر شروطه في مسألة صرف النقد بالتحويل ‏في المصارف .‏

ثانيًا : يعتبر القيد في دفاتر المصرف في حكم القبض لمن يريد استبدال عملة بعملة أخرى ‏‏، سواء كان الصرف بعملة يعطيها الشخص للمصرف أو بعملة مودعة فيه . اهـ .‏

الصدق والبيان وأثرهما :‏

في الحديث : ( فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما ) ، وفي حديث البخاري عن جابر ‏‏، رضي الله عنه ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( رحم الله رجلاً سمحًا إذا باع ، ‏سمحًا إذا اشترى ، وإذا اقتضى ) .‏

وفي حديث عثمان عند النسائي مرفوعًا: ( أدخل الله رجلاً الجنة كان سهلاً مشتريًا ‏وبائعًا وقاضيًا ومقتضيًا ).‏

وفي ذلك : الحض على السماحة في المعاملة ، واستعمال معالي الأخلاق ، وترك المشاحة، ‏والحض على عدم التضييق على الناس في المطالبة وأخذ العفو منهم .‏

وفي حديث البخاري عن حذيفة ، رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ‏تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم، فقالوا : أعملت من الخير شيئًا ؟ قال: كنت ‏أنظر الموسر ، وأتجاوز عن المعسر ، قال : فتجاوزوا عنه ) .‏

وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم في حديث: ( بيع المسلم من المسلم لا داء ولا خبيئة ‏ولا غائلة )؛ أي لا عيب إلا بينه؛ لأنه لا يحل للمسلم كتمان عيب سلعته ممن يبيعها ‏إليه، فلا يحتال على الناس في أموالهم.‏

والحلف الكاذب وإن زاد في المال فإنه يمحق البركة ، فكذلك قوله تعالى : ( يَمْحَقُ اللَّهُ ‏الرِّبَا) [ البقرة : 276] ؛ أي يمحق البركة من البيع الذي فيه الربا ، وإن كان العدد ‏زائدًا ، لكن محق البركة يفضي إلى اضمحلال العدد في الدنيا ، وإلى اضمحلال الأجر في ‏الآخرة .‏

والصدق في البيع والشراء وسائر المعلامات سبب خير كثير ؛ ففي حديث ابن مسعود ، ‏رضي الله عنه ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر ‏يهدي إلى الجنة ، وإن الرجل ليصدق حتى يُكتب عند الله صديقًا ، وإن الكذب يهدي إلى ‏الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، وإن الرجل ليكذب حتى يُكتب عند الله كذابًا ) . ‏متفق عليه.‏

وفي حديث أبي داود عن أبي أمامة الباهلي ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى ‏الله عليه وسلم : ( أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا ، وببيت ‏في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا ، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه ) ‏‏.‏

‏ ‏البركة والمحق :‏

البركة ثبات العطاء ودوامه ونماؤه وزيادته وبلوغ السعادة واليُمن فيه ، والمحق النقصان ‏وذهاب البركة والخير ، ومن المحق الخفي أن تلد الإبل الذكور ، ولا تلد الإناث ؛ لأن فيه ‏انقطاع النسل وذهاب اللبن .‏

والمحق الإبطال والمحو والنقصان ، قال تعالى : ( يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ) [‏البقرة : 276] ، في الحديث : ( الحلف منفقة للسلعة ، ممحقة للبركة ) .‏

من أسباب البركة :‏

الكيل : لحديث المقدام بن معد يكرب ، رضي الله عنه ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ‏‏( كيلوا طعامكم يبارك لكم ) .‏

وقد يبدو التعارض بين هذا وبين قول عائشة، رضي الله عنها: ( كان عندي شطر شعير ‏آكل منه حتى طال عليَّ فكلته ففني ) .‏

والجواب : قال ابن الجوزي : يشبه أن يكون البركة للتسمية عند الكيل .‏

قال ابن حجر : فالبركة تحصل في الطعام بالكيل ؛ لامتثال أمر الشارع ، وإذا لم يمتثل ‏الأمر فيه بالاكتيال نُزعت منه لشؤم العصيان .‏

ثم قال : والحاصل أن الكيل بمجرده لا تحصل به البركة ما لم ينضم إليه أمر آخر ، وهو ‏امتثال الأمر فيما يشرع فيه الكيل ولا تنزع البركة في المكيل بمجرد الكيل ، ما لم ينضم ‏إليه أمر آخر كالمعارضة والاختيار ، والله أعلم .‏

فالتزام الشرع بركة عند البيع والشراء والتوكل بركة في تناول الطعام الموجود في البيت من ‏غير إحصاء له؛ لحديث: ( لا تحصي فيحصي الله عليك ).‏

البكور : البركة في البكور ؛ لحديث صخر الغامدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏‏: ( اللهم بارك لأمتي في بكورها ) .‏

قال : وكان إذا بعث سرية أو جيشًا بعثهم أول النهار ، وكان صخر رجلاً تاجرًا ، وكان إذا ‏بعث تجارة بعثهم أول النهار فأثري وكثر ماله .‏

البركة في شجرة الزيتون وزيتها :‏

لحديث عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (‏كلوا الزيت وادهنوا به ، فإنه من شجرة مباركة ) .‏

والحديث رواه الترمذي وابن ماجه والدرامي والحاكم وأبو نعيم والطبراني .‏

قال القاري في ( المرقاة ) : الزيت يحصل من شجرة مباركة ؛ يعني : ( زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ ‏وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ ) [ النور : 35] ، ثم وصفها ‏بالبركة لكثرة منافعها وانتفاع أهل الشام بها ، كذا قيل ، والأظهر لكونها تنبت في الأرض ‏التي بارك الله فيها للعالمين ، قيل : بارك فيها سبعون نبيًّا ، منهم : إبراهيم ، عليه ‏السلام ، وغيرهم .‏

ويلزم من بركة هذه الشجرة بركة ثمرتها، وهي الزيتون ، وبركة ما يخرج منها وهو ‏الزيت، وكيف لا وفيه التأدم والتدهن وهما نعمتان عظيمتان .‏

بركة زمزم :‏

في حديث إسلام أبي ذر عند مسلم وأحمد قال أبو ذر : ما كان لي طعام إلا ماء زمزم ، ‏فسمنت حتى تكسرت عكن بطني وما أجد على كبدي سخفة جوع ، قال صلى الله عليه وسلم ‏‏: ( إنها مباركة ، إنها طعام طعم ) .‏

الصدق والبيان في البيع والشراء :‏

لحديث حكيم بن حزام : ( فإن صدقا وبينا بُورك لهما في بيعهما ) ؛ قوله : ( صدقا ) ؛ أي ‏من جانب البائع في بيان أوصاف السلعة وميزاتها وعيوبها وثمنها بغير مغالاة أو جشع ولا ‏احتكار ، ومن جانب المشتري في الوفاء والسداد وعدم المطل ؛ أي فلا كتمان ، ولا مطل .‏

وظاهر الحديث أن البركة تحصل لهما بالصدق للصادق منهما المُبيِّن لما عنده ، وإن كتم ‏الآخر وكذب ، وأن المحق لمن خالف ، ويحتمل أن يحل شؤم المعصية على الآخر حتى ‏ينصرف الناس عن الكاذب والغاش فيحيق المحق به ويشتد ، إلا أن الأجر للصادق المُبيِّن ‏والوزر حاصل للكاذب الكاتم .‏

صلة الرحم :‏

لحديث أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ‏‏( من سره أن يبسط له في رزقه أو يُنسأ له في أثره فليصل رحمه ) .‏

قال العلماء : معنى البسط في الرزق البركة فيه ، وفي العمر : حصول القوة في الجسد ؛ لأن ‏صلة أقاربه صدقة ، والصدقة تربي المال وتزيد فيه فينمو بها ويزكو .‏

الطاعة لله ورسوله والذكر :‏ ‏( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ) [ الأعراف : ‏‏96] ، وقوله تعالى : ( وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ) [ الجن : 16] .‏

وفي الحديث : ( إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها ، ‏فاتقوا الله وأجملوا في الطلب فإنه لا يُنال ما عند الله إلا بطاعة ) .‏

الصدقة : لقوله تعالى : ( وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ) .‏

أسباب المحق :‏

‏1- الكفر لقوله تعالى : ( وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ) [آل عمران : ‏‏141].‏

يقول ابن كثير : ( وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ) ، فإنهم إذا ظفروا بغوا وبطروا فيكون ذلك سبب ‏دمارهم وهلاكهم ومحقهم وفنائهم .‏

وقال القرطبي : ( وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ) ؛ أي يستأصلهم بالهلاك .‏

‏2- الربا : لقوله تعالى : ( يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيم ) ‏‏[ البقرة : 276] ، وقوله تعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا ‏إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(278)فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ ‏أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ) [ البقرة : 278 ، 279] .‏

‏3-  الكذب في البيع لما جاء في الحديث : ( وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما ) فعسى أن ‏يربحا ربحًا ويمحقا .‏

‏4- الحلف : لحديث أبي هريرة عند البخاري سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏‏: (الحلف منفقة للسلعة ، ممحقة للبركة ) ؛ أي وإن كثر البيع فإن البركة فزوعة وإن زاد العدد لكن محق البركة يفضي إلى ‏اضمحلال العدد في الدنيا ، وفي الحديث : ( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر ‏إليهم ، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ، المسبل إزاره ، والمنان ، والمنفق سلعته بالحلف ‏الكاذب ) . رواه مسلم وأحمد وأصحاب السنن عن أبي ذر .‏

‏5- المعصية : فالمعصية تزيل النعمة وتوجب سخط الرب : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا ‏نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) [ الأنفال : 35] .‏

إذا كنت في نعمة فارعها ‏

فإن الذنوب تزيل النعم

وحطها بطاعة رب العباد

فرب العباد سريع النقم

وإياك والظلم مهما استعطت ‏

فظلم العباد شديد الوخم

والمعصية تمحق بركة العمر وتمحق بركة الرزق ، فإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه .‏

وهذا ، ونريد أن نفرد فصلاً عن المعاريض لتعلقه بالصدق والكذب :‏

المعاريض :‏

هي أن يتكلم الرجل بكلام جائز يقصد به معنى صحيحًا ويوهم غيره أنه يقصد به معنى ‏آخر، فيكون سبب ذلك الوهم كون اللفظ بين حقيقتين لغويتين أو عرفيتين أو شرعيتين أو ‏بين نوعين مما سبق ، فيكون المقصود أحدهما ويوهم السامع بالمعنى الآخر ، إما لعدم علمه ‏بالمعنى الآخر ، أو لدلالة الحال ، أو لقرينة في السياق ، أو غير ذلك من الاستخدامات ‏اللغوية .‏

‏إنما المعاريض تجوز إذا كان فيها تخلص من ظالم ، كما عرض الخليل بقوله 🙁 هذه أختي‏‏)، أو تضمنت نصر حق ، أو إبطال باطل ، كما عرّض الخليل بقوله : ( إِنِّي سَقِيمٌ ) [ ‏الصافات : 89] ، وبقوله : ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ ) [ الأنبياء : 63] ، وكما ‏عرّض النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( نحن من ماء ) .‏

وكما كان يُوَري عن الغزوة بغيرها لمصلحة الإسلام والمسلمين ، وتجوز إذا لم تكن تتضمن ‏مفسدة في دين ولا دنيا ، كما عرّض النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( إنا حاملوك على ولد ‏الناقة ) .‏ وبقوله إن الجنة لا يدخلها العجز.

وبقوله : ( من يشتري هذا العبد ) ، يريد عبد الله ، وبقوله لتلك المرأة : ( زوجك الذي في ‏عينه بياض ) ، وإنما أراد به البياض الذي خلقه الله في عيون بني آدم ، وهذه المعاريض ‏ونحوها من أصدق الكلام ، ومنه قول الصديق لما سُئل في الهجرة عن النبي صلى الله عليه ‏وسلم ، فقال : هادٍ يهديني السبيل ، ومنه قول عبد الله بن رواحة : شهدت بأن وعد الله ‏حق ، الأبيات أوهم امرأته بالقرآن .‏

ومثل هذا يكون جائزًا ، بل قد يبلغ إلى الوجوب إذا تضمن دفع ضرر يجب دفعه ولا يندفع ‏إلا بذلك ، وهذا ليس من الحيل المحرمة : أولاً لأنه دفع ضرر غير مستحق .‏

لكنه لو تضمن كتمان ما يجب إظهاره من شهادة أو إقرار أو علم أو نصيحة مسلم أو ‏التعريف بصفة معقود عليه في بيع أو نكاح أو إجارة كان ذلك غشًّا محرمًا بالنصوص ‏المحرَّمة للكذب والتدليس والغرر .‏

قال أحمد : المعارض لا تكون في الشراء والبيع ، بل تكون في الرجل يصلح بين الناس أو ‏نحو ذلك .‏

وخلاصة ذلك : أن كل ما وجب بيانه فالتعريض فيه حرام ، وكتمانه تدليس ، وكل ما حرم ‏بيانه فالتعريض فيه جائز ، بل واجب إذا أمكن ، فأما إن كان بيانه جائزًا وكتمانه جائزًا ‏وكانت المصلحة في كتمانه فالتعريض مستحب كتورية الحالف لظالم له أو لمن استحلفه يمينًا ‏لا تجب عليه ، وإن كانت المصلحة في إظهاره فالتورية مكروهة والإظهار مستحب .‏

قال أحمد عن حديث : ( إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب ) ، هذا عند الحاجة إلى ‏الجواب .‏

قاعدة : من كان علمه بالشيء يحمله على ما يكرهه الله ورسوله كان تجهيله به وكتمانه ‏عنه أصلح له وللمتكلم ، وكذلك من كان في علمه مضرة على القائل أو تفوت عليه مصلحة هي ‏أرجح من مصلحة البيان فله أن يكتمه عن السامع ، فإن أبي إلا استنطاقه فله أن يُعرِّض له .‏

والمُعرِّض إنما تكلم بحق ، لا سيما أنه لم ينو باللفظ خلاف ظاهره في نفسه ، وإنما كان عدم ‏الظهور من قصور السامع عن إدراك دلالة اللفظ .‏

والتدليس في الإسناد وإن كان من التعريض لكن نهى العلماء عنه لتعلقه بالدِّين ، وكونه من ‏البيان الواجب ، والمعاريض إنما شُرعت لمحتاج إليها ، أو لمن لا يسقط بها حقًّا ولا يضر ‏بها أحدًا ، فإذا تضمنت إسقاط حق أو إضرارًا لغير مستحق فليست بمشروعة ، فغاية ‏المعاريض أن يكون خداعًا لمخلوق أباح الشارع خداعه لظلم ، فما كان من المعاريض مخالفًا ‏لظاهر اللفظ كان قبيحًا إلا عند الحاجة ، وما لم يكن مخالفًا لظاهر اللفظ كان جائزًا إلا عند ‏تضمنه لمفسدة .‏

هذا ، وقد جاء في البخاري في كتاب البيوع : كان بعض الدلالين يسمون مرابط إبلهم ودوابهم ‏‏( الإسطبل ) ، خراسان وسجستان ليوهموا المشتري فيقولون : قدم اليوم من خراسان وقدم ‏أمس من سجستان يوهمونه أنها مجلوبة ، فيحرص عليها المشتري ، وهذا من المعاريض ‏التي تحمل الخداع والكذب ، فلا يجوز .‏

أنواع المعاريض :‏

‏1- معاريض يُستخدم اللفظ في حقيقته التي وضع عليها ويقصد المتكلم فردًا من

أفراد هذه ‏الحقيقة ، ويتوهم السامع غيره لظهوره عنده أو لشاهد الحال ، وعامة معاريض النبي ‏صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة من هذا النوع ، وهذا ما شُرع منه إنما شُرع لمظلوم يرد ‏عن نفسه الظلم به أو يتوصل لأخذ حقه منه أو لكف شر الظالم وعدوانه .‏

‏2-  أن يستخدم العام في الخاص والمطلق في المقيد ، وهو ما يسمى بالحقيقة والمجاز ، وهذا ‏هو النوع الذي قيست عليه الحيل المحرمة ، مثل أن يقول لزوجه : أنت طالق ، ‏ويقصد من الزوج الذي قبله .‏

ومن أمثلة النوع المباح ما روى أحمد في ( مسنده ) ، أن رجلاً شكا إلى النبي صلى الله عليه ‏وسلم جاره أنه يؤذيه ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرح متاعه في الطريق ، ‏ففعل ، فجعل كل من مر عليه يسأل عن شأن المتاع ، فيخبره بأن جاره يؤذيه فيسبه ويلعنه ‏‏، فجاء إليه وقال : رد متاعك إلى مكانه ، فوالله لا أوذيك بعد ذلك أبدًا .‏

ورواه أبو داود في ( سننه ) قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو جاره ، ‏فقال : ( اذهب فاصبر ) ، فأتاه مرتين أو ثلاثًا ، فقال : ( اذهب فاطرح متاعك في الطريق )‏‏، فطرح متاعه في الطريق ، فجعل الناس يسألونه فيخبرهم خبره ، فجعل الناس يلعنونه : ‏فعل الله به ، وفعل وفعل ، فجاء إليه جاره فقال له : ارجع لا ترى مني شيئًا تكرهه .‏

وروى أبو داود في ( سننه ) كتاب الأدب ( باب في المعاريض) : عن سفيان بن أسيد بن ‏حضير قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( كبرت خيانة أن تحدث أخاك ‏حديثًا هو لك به مصدق وأنت له به كاذب ) (1) .‏

وروى أبو داود في باب المعاريض في اليمين من كتاب الأيمان والنذور من ( سننه ) عن أبي ‏هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يمينك على ما يصدقك ‏عليها صاحبك ) . والحديث صحيح .‏

وعن سويد بن غفلة قال : خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا وائل بن حجر ، ‏فأخذه عدو له فتحرج القوم أن يحلفوا، وحلفت أنه أخي ، فخلى سبيله ، فأتينا رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم فأخبرته أن القوم تحرجوا أن يحلفوا وحلفت أنه أخي ، قال : ( ‏صدقت ، المسلم أخو المسلم ) . والحديث صحيح .‏

بهذه الكلمات ننهي حديثنا حول ذلك الموضوع الهام ( البيوع) ، وفيه اكتفينا بالإشارة ‏لبعض الأحكام ، فكانت الحلقة الأولى عن الأساس العقدي للبيع والشراء ، والأخيرة عن ‏الأساس الخلقي للبيع والشراء ، وبينهما حلقتان حول بعض الأحكام العملية للبيع والشراء ‏‏، حرصت على إبراز بعض قرارات المجامع الفقهية لأحكام بعض صور من البيوع ، ولا ‏شك أن الموضوع هام ويحتاج إلى مزيد بيان ومراجعة لما كتبه الفقهاء في ذلك ، ونأمل أن ‏يعتني طلبة العلم ببيان الأحكام الشرعية في كل معاملة من المعاملات، وعلى القائمين ‏بالتجارة ضرورة سؤال العلماء حتى لا يقعوا في أمر حرام ، فذلك أولى من استشارة المكاتب ‏الاستشارية وعمل دراسة الجدوي ؛ لأن الرزق مضمون وكذلك العمر ، ولأن الدنيا مزرعة ‏الآخرة .‏

والله من وراء القصد .‏

——–

(1) الذراع : أي الذي يقبس بالذراع ومثله سائر المقاييس من استخدام المتر ومضاعفاته وأجزائه وقياس الأرض المنزرعة بالقيرايط أو الفدان وسائر أنواع القياس .

(2) من قرارات المجمع الفقهي : والحديث ضعيف أخرجه الحاكم برقم 2370 وعزاه ابن كثير في البداية والنهاية للبيهقي وقال في صحته نظر . وأخرجه الطبراني في الأوسط برقم 817 ، 6755 ، وقال : لم يروه عن عكرمة إلا على بن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة ولم يروه عن على إلا مسلم بن خالد وهو الزنجي وقد ترجم له الذهبي في الميزان وذكر اختلاف العلماء في تضعيفه ثم ذكر له جملة من الأحاديث قال في آخرها : فهذه الأحاديث وأمثالها ترد بها قوة الرجل ويضعف وجملة القول أن الحديث لا يصلح شاهدًا وأن جمهور أهل العلم على حرمة صورة (ضع وتعجل) .

ضعيف ، قاله الألباني .‏