الرد على من ينكر عذاب القبر ونعيمه

المقدمة:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الأسوة الحسنة وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن الإيمان بعذاب القبر ونعيمه وسؤال الملكين، من أمور العقيدة المجمع عليها عند أهل السنة الجماعة؛من أجل ذلك قمت بإعداد هذه الرسالة للرد على الذين ينكرون عذاب القبر ونعيمه،وقد تحدثت في هذه الرسالة عن أدلة ثبوت عذاب القبر ونعيمه، من القرآن والسنة، والحكمة من إخفاء عذاب القبر، وذكرت عقيدة سلفنا الصالح، وصورًا من عذاب القبر، وشبهات من ينكرون عذاب القبر وحكمهم، ثم ختمت الرسالة بذكر أسباب عذاب القبر، ووسائل النجاة منه،أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، كما أسأله سبحانه أن ينفع به طلاب العلم،وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الإيمان بعذاب القبر ونعيمه، للروح والجسد معًا، وسؤال الملكين، من أمور العقيدة المجمع عليها عند أهل السنة الجماعة، بدليل القرآن الكريم، والسنة النبوية المباركة، وإجماع علماء المسلمين.

أولًا: عذاب القبر ونعيمه في القرآن:

سوف نذكر بعض آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن عذاب القبر ونعيمه، وسؤال الملكين.

(1)قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27].

روى الشيخان عن البراء بن عازبٍ رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (({يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27] قال: نزلت في عذاب القبر، فيقال له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، ونبيِّي محمدٌصلى الله عليه وسلم، فذلك قوله عز وجل: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]))؛ (البخاري حديث: 1369/ مسلم حديث: 2871).

(2) قال جل شأنه: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99، 100].

* البرزخ: هو الفترة التي يقضيها الإنسان في قبره من بعد موته إلى قيام الساعة.

قال الإمام ابن كثير (رحمه الله): قال أبو هريرة: إذا وضع – يعني الكافر – في قبره، فيرى مقعده من النار،قال: رب، ارجعونِ أتوب وأعمل صالحًا،فيقال: قد عمرت ما كنت معمرًا،قال: فيضيق عليه قبره، قال: فهو كالمنهوش، ينام ويفزع، تهوي إليه هوام الأرض وحياتها وعقاربها؛ (تفسير ابن كثير جـ 10 ـ صـ 147).

(3) قال سبحانه: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 45، 46].

قال الإمام ابن كثير (رحمه الله): إن أرواحهمتعرض على النار صباحًا ومساءً إلى قيام الساعة، فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في النار؛ ولهذا قال: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]؛ أي: أشده ألَمًا وأعظمه نكالًا،وهذه الآية أصلٌ كبيرٌ في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور، وهي قوله: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46]؛ (تفسير ابن كثير جـ 12 صـ 193).

(4) قال الله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93].

قال الإمام ابن كثير (رحمه الله): قال الله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} [الأنعام: 93]؛ أي: في سكَراته وغمَراته وكُرباته.

{وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} [الأنعام: 93]؛ أي: بالضرب لهم حتى تخرج أنفسهم من أجسادهم؛ ولهذا يقولون لهم: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} [الأنعام: 93]؛ وذلك أن الكافر إذا احتُضِر بشرته الملائكة بالعذاب والنكال، والأغلال والسلاسل، والجحيم والحميم، وغضب الرحمن الرحيم، فتتفرق روحه في جسده، وتعصى وتأبى الخروج، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم، قائلين لهم: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93]؛ أي: اليوم تهانون غاية الإهانة، كما كنتم تكذبون على الله، وتستكبرون عن اتباع آياته، والانقياد لرسله؛ (تفسير ابن كثير جـ 6 صـ 113).

قال الإمام ابن حجر العسقلاني (رحمه الله): هذا الضرب، وإن كان قبل الدفن، فهو من جملة العذاب الواقع قبل يوم القيامة، وإنما أضيف العذاب إلى القبر؛ لكون معظمه يقع فيه، ولكون الغالب على الموتى أن يقبروا، وإلا فالكافر ومن شاء الله تعذيبه من العصاة يعذب بعد موته ولو لم يدفن، ولكن ذلك محجوبٌ عن الخلق، إلا من شاء الله؛ (فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ 3 صـ 276: 275).

(5) قال سبحانه: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة: 101].

روى ابن جرير الطبري عن قتادة {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: 101] عذاب الدنيا وعذاب القبر، {ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة: 101]؛ (تفسير الطبري جـ 14 صـ 442).

(6) قال جل شأنه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124].

روى الطبري عن أبي سعيدٍ الخدري، قال في قول الله: {مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124] قال: عذاب القبر؛ (تفسير الطبري جـ 18 صـ 393).

(7) قال تعالى: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الطور: 47].

روى ابن جرير الطبري عن ابن عباسٍ، قوله تعالى: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} [الطور: 47] يقول: (عذاب القبر قبل عذاب يوم القيامة)؛ (تفسير الطبري جـ 22 صـ 487).

روى ابن جرير الطبري عن قتادة، أن ابن عباسٍ كان يقول: إن عذاب القبر في القرآن، ثم تلا: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} [الطور: 47]؛ (تفسير الطبري جـ 22 صـ 487).

(8) قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران: 169، 170].

روى مسلمٌ عن مسروقٍ، قال: سألنا عبدالله بن مسعودٍ عن هذه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] قال: أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((أرواحهم في جوف طيرٍ خضرٍ، لها قناديل معلقةٌ بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطلاعةً، فقال: هل تشتهون شيئًا؟ قالوا: أي شيءٍ نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟! ففعل ذلك بهم ثلاث مراتٍ، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب، نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرةً أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجةٌ تركوا))؛ (مسلم، حديث: 1887).

(9) قال سبحانه: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 83 – 96].

ثانيًا: عذاب القبر ونعيمه في السنة:

جاءت أحاديث كثيرة تثبت عذاب القبر أو نعيمه وسؤال الملكين بروايات عديدةٍ، وتوجب الاعتقاد الجازم بصحة حدوث ذلك، نذكر منها:

(1) روى البخاري عن عائشة، رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ: ((اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار، ومن عذاب النار، وأعوذ بك من فتنة القبر، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة الغنى، وأعوذ بك من فتنة الفقر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال))؛ (البخاري حديث: 6376).

* الفتنة في اللغة: الاختبار.

* فتنة القبر: سؤال الميت عن ربه ودينه ونبيه؛ (شرح لمعة الاعتقاد لابن عثيمين صـ 67).

(2) روى الشيخان عن عبدالله بن عباسٍ، رضي الله عنهما، قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال: ((إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبيرٍ، أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة))؛ (البخاري حديث 218 / مسلم حديث 292).

قال الإمام النووي (رحمه الله): في هذا الحديث إثبات عذاب القبر، وهو مذهب أهل الحق؛ (مسلم بشرح النووي جـ 2 صـ 206).

(3) روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها: أن يهوديةً دخلت عليها، فذكرت عذاب القبر، فقالت لها: أعاذكِ الله من عذاب القبر، فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر، فقال: ((نعم، عذاب القبر حق))، قالت عائشة رضي الله عنها: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدُ صلَّى صلاةً إلا تعوذ من عذاب القبر؛ (البخاري حديث: 1372).

(4) روى الشيخان عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلمقال: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة (صباحًا) والعشي (مساءً)، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة))؛ (البخاري حديث 1379/ مسلم حديث 2866).

قال الإمام ابن حجر العسقلاني (رحمه الله): في هذا الحديث إثبات عذاب القبر، وأن الروح لا تفنى بفَناء الجسد؛ (فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ 3 صـ 287).

(5) روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر، فليتعوذ بالله من أربعٍ: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر المسيح الدجال؛ (مسلم حديث: 588).

(6) روى مسلم عن علي بن أبي طالبٍ، رضي الله عنه، قال: لما كان يوم الأحزاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا، كما حبسونا وشغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس))؛ (مسلم حديث: 627).

(7) روى مسلم عن زيد بن ثابتٍ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا ألا تدافنوا، لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه))؛ (مسلم حديث: 2867).

(8) روى الشيخان عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلمقال: ((العبد إذا وضع في قبره، وتولى وذهب أصحابه، حتى إنه ليسمع قرع نعالهم (صوتها عند المشي)، أتاه ملكان، فأقعداه، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمدٍصلى الله عليه وسلم؟ فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال: انظر إلى مقعدك من النار، أبدلك الله به مقعدًا من الجنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فيراهما جميعًا، وأما الكافر – أو المنافق – فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دريت ولا تليت، ثم يضرب بمطرقةٍ من حديدٍ ضربةً بين أذنيه، فيصيح صيحةً يسمعها من يليه (من ملائكة وغيرهم) إلا الثَّقَلين “الإنس والجن”))؛ (البخاري حديث: 1338/ مسلم حديث: 2870).

* لا درَيْتَ ولا تلَيْتَ: دعاء عليه؛ أي: لا كنت داريًا ولا تاليًا، فلا توفق في هذا الموقف، ولا تنتفع بما كنت تسمع أو تقرأ.

قال الإمام النووي (رحمه الله): قال أصحابنا (أي الشافعية): لا يمنع من سؤال الملكين وعذاب القبر كون الميت قد تفرقت أجزاؤه، كما نشاهد في العادة، أو أكلته السباع أو حيتان البحر أو نحو ذلك، فكما أن الله تعالى يعيده للحشر، وهو سبحانه وتعالى قادر على ذلك، فكذا يعيد الحياة إلى جزءٍ منه أو أجزاءٍ وإن أكلته السباع والحيتان،فإن قيل: فنحن نشاهد الميت على حاله في قبره، فكيف يسأل ويقعد ويضرب بمطارق من حديد ولا يظهر له أثر؟! فالجواب أن ذلك غير ممتنعٍ، بل له نظير في العادة، وهو النائم، فإنه يجد لذةً وآلامًا لا نحس نحن شيئًا منها، وكذا يجد اليقظان لذةً وآلمًا لما يسمعه أو يفكر فيه ولا يشاهد ذلك جليسه منه، وكذا كان جبرائيل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيخبره بالوحي الكريم ولا يدركه الحاضرون، وكل هذا ظاهر جلي،وأما ضربه بالمطارق فلا يمتنع أن يوسع له في قبره فيقعد ويضرب؛ (مسلم بشرح النووي جـ 9 صـ 224).

(9) روى الشيخانعن البراء بن عازبٍ، عن أبي أيوب الأنصاري، رضي الله عنهم، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما غربت الشمس، فسمع صوتًا، فقال: ((يهودُ تُعذَّب في قبورها))؛ (البخاري حديث: 1375/ مسلم حديث: 2869).

(10) روى أبو داود عن فضالة بن عبيدٍ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كل الميت يختم على عمله، إلا المرابط (المجاهد)؛ فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة، ويؤمن من فتَّان القبر -الملَكان اللذان يسألان العبد في قبره، وهما منكرونكير)) (حديث صحيح)؛ (صحيح أبي داود للألباني حديث 2182).

(11) روى الترمذي عن المقدام بن معدي كرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((للشهيد عند الله ست خصالٍ: يغفر له في أول دفعةٍ، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجةً من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه))؛ (حديث صحيح)؛ (صحيح الترمذي للألباني حديث 1358).

(12) روى ابن ماجه عن هانئٍ مولى عثمان، قال: كان عثمان بن عفان إذا وقف على قبرٍ يبكي حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار ولا تبكي، وتبكي من هذا؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه، فما بعده أيسر منه، وإن لم ينجُ منه، فما بعده أشد منه))، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما رأيت منظرًا قط إلا والقبرُ أفظعُ منه)) (حديث حسن)؛ (صحيح ابن ماجه للألباني حديث: 3442).

(13) روى ابن مردويه عن عبدالله بن مسعودٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((سورة تبارك هي المانعةُ مِن عذاب القبر)) (حديث صحيح)؛ (صحيح الجامع للألباني حديث: 3643).

(14) روى أبو داود عن البراء بن عازبٍ، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الل4ه عليه وسلم في جنازة رجلٍ من الأنصار، فانتهينا إلى القبر (أي وصلنا إليه)،ولما (أي لم)يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأنما على رؤوسنا الطير (أي: لا يتحرك منا أحد توقيرًا لمجلسه صلى الله عليه وسلم)، وفي يده عود ينكت به في الأرض (أي يضرب بطرفه الأرض)، فرفع رأسه، فقال: ((استعيذوا بالله من عذاب القبر)) مرتين، أو ثلاثًا، وقال: ((وإنه ليسمع خفق نعالهم (أي صوت نعالهم)إذا ولوا مدبرين حين يقال له: يا هذا، من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ قال: ويأتيه ملَكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ قال: فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولان: وما يدريك؟ (أي شيءٍ أخبرك وأعلمك؟)فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به (أي بالقرآن أو بالنبي أنه حق)وصدقت، فذلك قول الله عز وجل {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [إبراهيم: 27]، قال: فينادي منادٍ من السماء: أن قد صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة، وألبسوه من الجنة، قال: ((فيأتيه من رَوحها (الراحة والنسيم)وطيبها))، قال: ((ويفتح له فيها (أي في تربته وهي قبره)مد بصره (أي منتهى بصره)، قال: ((وإن الكافر)) فذكر موته (أي حال موت الكافر وشدته)،قال: وتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه هاه، لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه (كلمة يقولها المتحير)، لا أدري (ما أجيب به)، فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري، فينادي منادٍ من السماء: أن كذب، فأفرشوه من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار، قال: ((فيأتيه من حرها (أي حر النار وهو تأثيرها)وسمومها (وهي الريح الحارة)، قال: ((ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه (أي حتى يدخل بعضها في بعضٍ من شدة التضييق والضغطة)، قال: ((ثم يقيض (أي يسلط ويوكل)له أعمى (أي زبانية أعمى كيلا يرحمه)،أبكم، معه مرزبة (المطرقة الكبيرة)من حديدٍ، لو ضرب بها جبل لصار ترابًا))، قال: ((فيضربه بها ضربةً يسمعها ما بين المشرق والمغرب إلا الثَّقَلين، فيصير ترابًا))، قال: ((ثم تعاد فيه الروح))؛ (حديث صحيح)؛ (صحيح أبي داود للألباني حديث: 3979).

(15) روى الترمذيعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قُبِر الميت – أو قال: أحدكم – أتاه ملَكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما: المنكر، وللآخر: النكير، فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: ما كان يقول: هو عبد الله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول هذا، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعًا في سبعين، ثم ينور له فيه، ثم يقال له: نَمْ، فيقول: أرجع إلى أهلي فأخبرهم، فيقولان: نَمْ كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك، وإن كان منافقًا قال: سمعت الناس يقولون، فقلت مثله، لا أدري، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول ذلك، فيقال للأرض: التئمي عليه، فتلتئم عليه، فتختلف فيها أضلاعه، فلا يزال فيها معذَّبًا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك)) (حديث حسن)؛ (صحيح الترمذي للألباني حديث: 856).

الحكمة من إخفاء عذاب القبر:

يمكن أن نوجز الحكمة من عدم سماع الإنسان لعذاب القبر في الأمور التالية:

(1) الخوف من عدم دفن الناس لموتاهم.

روى مسلم، عن زيد بن ثابتٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا ألا تدافنوا، لدعوتُ الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه))؛ (مسلم حديث: 2867).

(2) في إخفاء عذاب القبر ستر للمسلم للعاصي.

(3) في إخفاء عذاب القبر عدم إزعاج لأهل الميت؛ لأنهم إذا سمعوا ميتهم يعذب، فسوف يجلب ذلك عليهم الحزن باستمرار.

(4) في إخفاء عذاب القبر عدم شعور أهل الميت بالخجل؛ لأن بعض الناس سيقولون لهم: انظروا هذا أبوكم، هذا أخوكم، هذا ولدكم، يعذب في قبره.

(5) قد يموت الإنسان أو يغشى عليه من سماع صراخ المعذبين في قبورهم.

* روى البخاري عن أبي سعيدٍ الخدري، رضي الله عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إذا وضعت الجنازة، فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحةً قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحةٍ قالت لأهلها: يا ويلها أين يذهبون بها؟! يسمع صوتها كل شيءٍ إلا الإنسان، ولو سمع الإنسان لصعق؛ (البخاري حديث: 1316).

* قال الإمام ابن حجر العسقلاني (رحمه الله): قوله: لَصعق؛ أي: لَغُشِي عليه من شدة ما يسمعه، وربما أطلق ذلك على الموت، والضمير في يسمعه راجع إلى دعائه بالويل؛ أي: يصيح بصوتٍ منكرٍ، لو سمعه الإنسان لغشي عليه،قال ابن بزيزة: هو مختص بالميت الذي هو غير صالحٍ؛ (فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ 3 صـ: 221).

(6) لأن عذاب القبر من أمور الغيب؛ (شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين جـ 2 صـ 119: 118).

عقيدة السلف الصالح في عذاب القبر ونعيمه:

اتفق أهل السنة والجماعة على وجوب الإيمان بعذاب القبر ونعيمه؛ (شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي جـ 2 صـ 163).

وسوف نذكر بعض أقوال سلفنا الصالح.

(1) أبو هريرة (رضي الله عنه):

روى عبدالرزاق عن سعيد بن المسيب قال: رأيت أبا هريرة يصلي على المنفوس (الجنين السقط) الذي لم يعمل خطيئةً قط، فيقول: ((اللهم أعِذْه من عذاب القبر))؛ (مصنف عبدالرزاق جـ ـ3 صـ 533ـ حديث: 6610).

(2) أنس بن مالكٍ (رضي الله عنه):

روى البيهقي، عن عبدالله الداناج قال: شهدت أنس بن مالكٍ، وقال له رجل: “يا أبا حمزة، إن قومًا يكذبون بعذاب القبر، قال: فلا تجالسوا أولئك”؛ (إثبات عذاب القبر للبيهقي صـ 135ـ حديث: 235).

(3) قال الإمام الشافعي (رحمه الله): عذاب القبر حق، ومساءلة أهل القبور حق، والبعث حق، والحساب حق، والجنة والنار حق؛ (اعتقاد أئمة السلف ـ لمحمد الخميس ـ 43).

(4) الإمام أحمد بن حنبل:

قال حنبل: قلت لأبي عبدالله أحمد بن حنبل في عذاب القبر،فقال: هذه أحاديث صحاح نؤمن بها ونقر بها، كلما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم إسناد جيد أقررنا به، إذا لم نقر بما جاء به الرسول ودفعناه ورددناه، رددنا على الله أمره؛قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]،قلت: وعذاب القبر حق؟ قال: حق يعذبون في القبور؛ (الروح لابن القيم صـ 77).

قال حنبل: سمعت أبا عبدالله أحمد بن حنبل يقول: نؤمن بعذاب القبر وبمنكرٍ ونكيرٍ، (وأن العبد يسأل في قبره، فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة في القبر؛ (الروح لابن القيم صـ 77).

(5) قال الإمام البخاري (رحمه الله): باب ما جاء في عذاب القبر،وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأنعام: 93]، وقوله جل ذكره: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة: 101]، وقوله تعالى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 45، 46]؛ (البخاري ـ كتاب الجنائز باب ـ86).

قال الإمام ابن حجر العسقلاني (رحمه الله): قدم الإمام البخاري ذكر هذه الآيات لينبِّهَ على ثبوت ذكر عذاب القبر في القرآن، خلافًا لمن رده وزعَم أنه لم يَرِدْ ذكرُه إلا من أخبار الآحاد؛ (فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ 3 صـ 275).

(6) قال الإمام مسلم (رحمه الله): باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه؛ (مسلم ـ كتاب صفة القيامة ـ باب: 17).

(7) قال الإمام أبو جعفر الطحاوي (رحمه الله): نؤمن بعذاب القبر لمن كان له أهلًا، وسؤال منكرٍ ونكيرٍ في قبره عن ربه ودينه ونبيه، على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة رضوان الله عليهم،والقبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران)؛ (شرح الطحاوية جـ 2 صـ 157).

(8) قال الإمام البيهقي (رحمه الله): باب ما يكون على المنافقين من العذاب في القبر قبل العذاب في النار،قال الله جل ثناؤه: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة: 101]؛ (إثبات عذاب القبر للبيهقي صـ 56).

(9) قال الإمام ابن حزم (رحمه الله): قال الله تعالى في آل فرعون: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 45، 46].

فهذا العرض هو عذاب القبر، وإنما قيل: عذاب القبر، فأضيف إلى القبر؛ لأن المعهود في أكثر الموتى أنهم يقبرون، وقد علمنا أن فيهم أكيل السبع، والغريق تأكله دواب البحر، والمحرق، والمصلوب، والمعلق، فلو كان على ما يقدر من يظن أنه لا عذاب إلا في القبر المعهود لما كان هؤلاء فتنة ولا عذاب قبر ولا مسألة، ونعوذ بالله من هذا، بل كل ميت فلا بد من فتنة وسؤال، وبعد ذلك سرور أو نكد إلى يوم القيامة، فيوفون حينئذٍ أجورهم، وينقلبون إلى الجنة أو النار؛ (الفصل في الملل والنحل لابن حزم جـ 4 صـ 56).

(10) قال الإمام عبدالغني المقدسي (رحمه الله): (الإيمان بعذاب القبر حق واجب، وفرض لازم،رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم: علي بن أبي طالب، وأبو أيوب، وزيد بن ثابت، وأنس بن مالك، وأبو هريرة، وأبو بَكْرة، وأبو رافع، وعثمان بن أبي العاص، وعبدالله بن عباس، وجابر بن عبدالله، وعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأختها أسماء، وغيرهم؛ (الاقتصاد في الاعتقاد ـ لعبدالغني المقدسي صـ 174: 172).

(11) قال الإمام النووي (رحمه الله): مذهب أهل السنة: إثبات عذاب القبر، وقد تظاهرت عليه دلائل الكتاب والسنة؛قال الله: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 45، 46]، وتظاهرت به الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية جماعةٍ من الصحابة في مواطن كثيرة، ولا يمتنع في العقل أن يعيد الله تعالى الحياة في جزءٍ من الجسد ويعذبه، وإذا لم يمنعه العقل وورد الشرع به، وجب قبوله واعتقاده؛ (مسلم بشرح النووي جـ 9 صـ 223).

قال الإمام النووي (رحمه الله) أيضًا: المعذب عند أهل السنة: الجسد بعينه أو بعضه بعد إعادة الروح إليه، أو إلى جزءٍ منه؛ مسلم بشرح النووي جـ 9 صـ 224).

(12) قال محمد بن حيان (رحمه الله): الأحاديث الصحيحة قد استفاضت بعذاب القبر؛ فوجب القول به واعتقاده؛ (التفسير المحيط جـ 1 صـ 211).

(13) قال الإمام القرطبي (رحمه الله): الإيمان بعذاب القبر وفتنته (أي الاختبار فيه بسؤال الملكين): واجب، والتصديق به لازم، حسَب ما أخبر به الصادقصلى الله عليه وسلم، وأن الله تعالى يُحيي العبد المكلَّف في قبره، برد الحياة إليه، ويجعله من العقل في مثل الوصف الذي عاش عليه ليعقل ما يسأل عنه وما يجيب به، ويفهم ما أتاه من ربه، وما أعد له في قبره من كرامة أو هوان، وبهذا نطقت الأخبار عن النبي المختار صلى الله عليه وسلموعلى آله آناء الليل وأطراف النهار، وهذا مذهب أهل السنة، والذي عليه الجماعة من أهل الملة، ولم تفهم الصحابة الذين نزل القرآن بلسانهم ولغتهم من نبيهم صلى الله عليه وسلمغير ما ذكرنا، وكذلك التابعون بعدهم؛ (التذكرة للقرطبي صـ 106).

(14) قال الإمام ابن تيمية (رحمه الله): أحاديث عذاب القبر ومساءلة منكرٍ ونكيرٍ كثيرة متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ (مجموع فتاوى ابن تيمية جـ 4 صـ 285).

وسئل ابن تيمية (رحمه الله) عن “عذاب القبر”:هل هو على النفس والبدن أو على النفس دون البدن؟

فأجاب (رحمه الله): العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعًا باتفاق أهل السنة والجماعة؛ (مجموع فتاوى ابن تيمية جـ 4 صـ 282).

(15) قال الإمام ابن القيم (رحمه الله): إن عذاب القبر هو عذاب البرزخ، فكل من مات وهو مستحق للعذاب ناله نصيبه منه، قُبِر أو لم يُقبَر، فلو أكلته السباع أو أحرق حتى صار رمادًا ونسف في الهواء، أو صلب أو غرق في البحر، وصل إلى رُوحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى القبور؛ (الروح لابن القيم صـ 78).

(16)قال الإمام ابن أبي العز الحنفي (رحمه الله):قد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلمفي ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلًا، وسؤال الملكين، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به، ولا يتكلم في كيفيته؛ إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته، لكونه لا عهد له به في هذه الدار، والشرع لا يأتي بما تحيله العقول، ولكنه قد يأتي بما تحار فيه العقول، فإن عَوْدَ الروح إلى الجسد ليس على الوجه المعهود في الدنيا، بل تعاد الروح إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا،وسؤال الملكين في القبر يكون للروح والبدن جميعًا، وكذلك عذاب القبر يكون للروح والبدن جميعًا باتفاق أهل السنة والجماعة، تنعم الروح وتعذب مفردة عن البدن ومتصلة به؛ (شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي جـ 2 صـ 163).

(17) قال الإمام الشوكاني (رحمه الله): تواترت بعذاب القبر الأحاديث الصحيحة، ودلت عليه الآيات القرآنية؛ (فتح القدير للشوكاني جـ 1 صـ 184).

(18) قال الإمام حافظ حكمي (رحمه الله): نصوص السنة في إثبات عذاب القبر قد بلغت في ذلك مبلغ التواتر؛ إذ رواها أئمة السنة وحَمَلة الحديث ونقَّاده عن الجم الغفير والجمع الكثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم: أنس بن مالكٍ، وعبدالله بن عباسٍ، والبراء بن عازبٍ، وعمر بن الخطاب، وابنه عبدالله، وعائشة أم المؤمنين، وأسماء بنت أبي بكرٍ، وأبو أيوب الأنصاري، وأم خالدٍ، وأبو هريرة، وأبو سعيدٍ الخدري، وسمرة بن جندبٍ، وعثمان، وعلي، وزيد بن ثابتٍ، وجابر بن عبدالله، وسعد بن أبي وقاصٍ، وزيد بن أرقم، وأبو بكرة، وعبدالرحمن بن سمرة، وعبدالله بن عمرو بن العاص، وأبوه عمرو، وأم مبشرٍ، وأبو قتادة، وعبدالله بن مسعودٍ، وأبو طلحة، وأسماء بنت أبي بكر الصديق، وعبدالرحمن بن حسنة، وتميم الداري، وحذيفة، وأبو موسى الأشعري، والنعمان بن بشيرٍ، وعوف بن مالكٍ؛ (معارج القبول لحافظ حكمي جـ 2 صـ 117).

(19) قال الإمام الألباني (رحمه الله): عذاب القبر ثابت كتابًا وسنةً، وبإجماع أهل السنة والجماعة والسلف الصالح؛ (السلسلة الصحيحة للألباني جـ 7 صـ: 884).

قال الإمام الألباني أيضًا (بعد أن ذكر عدة أحاديث عن عذاب القبر ونعيمه): في هذه الأحاديث فوائد كثيرة، منها:

إثبات عذاب القبر، والأحاديث في ذلك متواترة، فلا مجال للشك فيه بزعم أنها آحاد! ولو سلمنا أنها آحاد، فيجب الأخذ بها؛ لأن القرآن يشهد لها؛ قال تعالى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 45، 46]،ولو سلمنا أنه لا يوجد في القرآن ما يشهد لها، فهي وحدها كافية لإثبات هذه العقيدة، والزعم بأن العقيدة لا تثبت بما صح من أحاديث الآحاد زعمٌ باطل، دخيل في الإسلام، لم يقل به أحد من الأئمة الأعلام؛ كالأربعة وغيرهم، بل هو مما جاء به بعض علماء الكلام، بدون برهانٍ من الله ولا سلطان؛ (السلسلة الصحيحة للألباني جـ 1 صـ 295: 294).

وقال الإمام الألباني: إن سؤال الملكين في القبر حق ثابت، فيجب اعتقاده أيضًا، والأحاديث فيه أيضًا متواترة؛ (السلسلة الصحيحة للألباني جـ 1 صـ: 297).

صور من عذاب القبر:

روى البخاري عن سمرة بن جندبٍ، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلمإذا صلى صلاةً أقبل علينا بوجهه فقال: ((من رأى منكم الليلة رؤيا؟))، قال: فإن رأى أحد قصها، فيقول: ((ما شاء الله))، فسألنا يومًا فقال: ((هل رأى أحد منكم رؤيا؟)) قلنا: لا، قال: ((لكني رأيت الليلة رجلين أتياني فأخذا بيدي، فأخرجاني إلى الأرض المقدسة، فإذا رجل جالس، ورجل قائم بيده كلُّوب من حديدٍ (الحديدة التي يؤخذ بها اللحم ويعلق)، يدخل ذلك الكلوب في شدقه (جانب فمه) حتى يبلغ قفاه، ثم يفعل بشدقه الآخر مثل ذلك، ويلتئم (يشفى) شدقه هذا، فيعود فيصنع مثله، قلت: ما هذا؟ قالا: انطلق، فانطلقنا حتى أتينا على رجلٍ مضطجعٍ على قفاه، ورجل قائم على رأسه بفهرٍ (بحجر ملء الكف) – أو صخرةٍ – فيشدخ (يكسر) به رأسه، فإذا ضربه تدهده (تدحرج) الحجر، فانطلق إليه ليأخذه، فلا يرجع إلى هذا حتى يلتئم رأسه، وعاد رأسه كما هو، فعاد إليه، فضربه، قلت: من هذا؟ قالا: انطلق، فانطلقنا إلى ثقبٍ مثل التنوُّر، أعلاه ضيق وأسفله واسع يتوقد تحته نارًا، فإذا اقترب ارتفعوا حتى كاد أن يخرجوا، فإذا خمدت رجعوا فيها، وفيها رجال ونساء عراة، فقلت: من هذا؟ قالا: انطلق، فانطلقنا حتى أتينا على نهرٍ من دمٍ فيه رجل قائم على وسط النهر، وعلى شط النهر رجُلٌ بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجرٍ في فيه، فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجرٍ، فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا؟ قالا: انطلق، فانطلقنا حتى انتهينا إلى روضةٍ خضراء، فيها شجرة عظيمة، وفي أصلها شيخ وصبيان، وإذا رجل قريب من الشجرة بين يديه نار يوقدها، فصعدا بي في الشجرة، وأدخلاني دارًا لم أرَ قط أحسن منها، فيها رجال شيوخ وشباب، ونساء، وصبيان، ثم أخرجاني منها، فصعدا بي الشجرة، فأدخلاني دارًا هي أحسن وأفضل، فيها شيوخ وشباب، قلت: طوفتماني الليلة، فأخبراني عما رأيت، قالا: نعم، أما الذي رأيته يشق شدقه، فكذاب يحدث بالكذبة، فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق، فيصنع به إلى يوم القيامة، والذي رأيته يشدخ رأسه، فرجل علمه الله القرآن، فنام عنه بالليل، ولم يعمل فيه بالنهار، يفعل به إلى يوم القيامة، والذي رأيته في الثقب فهم الزناة، والذي رأيته في النهر آكلو الربا، والشيخ في أصل الشجرة إبراهيم عليه السلام، والصبيان حوله فأولاد الناس، والذي يوقد النار مالك خازن النار، والدار الأولى التي دخلت دار عامة المؤمنين، وأما هذه الدار فدار الشهداء، وأنا جبريل، وهذا ميكائيل، فارفع رأسك، فرفعت رأسي، فإذا فوقي مثل السحاب، قالا: ذاك منزلك، قلت: دعاني أدخل منزلي، قالا: إنه بقي لك عمرٌ لم تستكمله، فلو استكملت أتيت منزلك))؛ (البخاري حديث: 1386).

شبهات من ينكرون عذاب القبر، والرد عليها:

الشبهة الأولى:

يقول المنكرون لعذاب القبر وسؤال الملكين: قال الله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر: 11]، قالوا: فلو كان يحيا في قبره للزم أن يحيا ثلاث مراتٍ ويموت ثلاثًا، وهو خلاف النص.

الشبهة الثانية:

يقول المنكرون لعذاب القبر:

يقول الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22].

فقالوا: إن الغرض من هذه الآية تشبيهُ الكفرة بأهل القبور في عدم الإسماع، ولو كان الميت حيًّا في قبره أو حاسًّا لم يستقِمِ التشبيه.

الشبهة الثالثة:

يقول المنكرون لعذاب القبر:

نحن نكشف القبر فلا نجد فيه ملائكة عُمْيًا صمًّا يضربون الموتى بمطارق من حديد، ولا نجد هناك حيات ولا ثعابين ولا نيرانًا تأجج، ولو كشفنا على الميت في حالة من الأحوال لوجدناه لم يتغير، ولو وضعنا على عينيه الزئبق وعلى صدره الخردل لوجدناه على حاله،وكيف يفسح مد بصره أو يضيق عليه، ونحن نجده بحاله، ونجد مساحته على حد ما حفرناها لم يزد ولم ينقص، وكيف يسع ذلك اللحد الضيق له وللملائكة وللصورة التي تؤنسه أو توحشه،وقالوا: كل حديث يخالف مقتضى العقول والحس يقطع بتخطئة قائله،وقالوا: نحن نرى المصلوب على خشبةٍ مدة طويلة لا يسأل ولا يجيب ولا يتحرك ولا يتوقد جسمه نارًا، ومن افترسته السباع ونهشته الطيور وتفرقت أجزاؤه في أجواف السباع وحواصل الطيور وبطون الحيتان ومدارج الرياح، كيف تسأل أجزاؤه مع تفرقها؟ وكيف يتصور مسألة الملكين لمن هذا وصفه، وكيف يصير القبر على هذا روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار؟ وكيف يضيق عليه حتى تلتئمه أضلاعه؟! (الروح لابن القيم صـ 83).

الرد على الشبهة الأولى:

يراد بالحياة في القبر للمسألة ليست الحياة المستقرة المعهودة في الدنيا التي تقوم فيها الروح بالبدن وتدبره وتصرفه وتحتاج إلى ما يحتاج إليه الأحياء، بل هي مجرد إعادةٍ لفائدة الامتحان الذي وردت به الأحاديث الصحيحة؛ فهي إعادة عارضة، كما حيي خَلْق لكثيرٍ من الأنبياء لمسألتهم لهم عن أشياء ثم عادوا موتى؛ (فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ 3 صـ 284).

الرد على الشبهة الثانية:

الرد من وجهين:

الأول: أن قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22] نفي لاستطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُسمِعَهم، وليس ذلك بمحالٍ في قدرة الله أن يسمعهم، كما أسمع أهل القليب (البئر) يوم غزوة بدر الكبرى تبكيته صلى الله عليه وسلم بقوله صلى الله عليه وسلم: ((هل وجدتم ما وعد ربكم حقًّا))، وهذا إذا حمل على نفي مطلق السماع بالكلية.

الوجه الثاني: أنه لم ينفِ مطلق السماع، وإنما نفى سماع الاستجابة، كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلمفي حديث القليب: ((ما أنتم بأسمعَ لما أقول منهم، ولكنهم لا يجيبون))، وبهذا يتضح تشبيه الكفار بهم؛ فإن الكفار كانوا يسمعون كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ويسمعون منه كلام الله تعالى وهو يتلوه عليهم، ولكن ليس ذلك بسماع استجابةٍ؛ ولهذا أثبت تعالى هذا السماع الظاهر لهم في قوله تعالى: {يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} [الجاثية: 8]، ولو كان الكفار لم يسمعوا مطلقًا لا سماع استجابةٍ ولا مطلقًا لم يكن القرآن حجةً عليه، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلمبلَّغهم؛ لأنهم ما سمعوه منه؛ (الروح لابن القيم صـ 63: 62)؛ (معارج القبول لحافظ حكمي جـ 2 صـ 113).

الرد على الشبهة الثالثة:

إن الروح التي عليها العذاب أو النعيم المتصل بالجسم ألمه ليس بمدركٍ في الدنيا، ولا يعلمه إلا الله، فمن كان لا يدرك روح من يمشي معه ويكلمه ويأتمنه ويعامله، فكيف يدركه إذا صار من عالم الآخرة ليس من عالم الدنيا؟ وأيضًا فاحتجاب ذلك عن أهل الدنيا من حكمة الله تعالى البالغة، ورحمته بهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لولا ألا تدافنوا لدعوت الله عز وجل أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع))، وأيضًا فأكثر أمور الإيمان اعتقادات باطنة لأمورٍ غائبةٍ عنا، وهي أعلى صفات أهل الإيمان؛يقول الله تعالى في صفة عباده المتقين: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 2، 3]؛ أي: يؤمنون بكل ما غاب عنهم مما أخبرتهم به رسل الله تعالى،وعذاب القبر غائبٌ عنا في الحياة الدنيا، ونحن نعلمه عن الله علم اليقين، فإذا خرجنا من هذه الدار صار الغيب شهادةً، ورأينا ذلك عين اليقين،والذي أحرقت أعضاؤه وتفرقت أجزاؤه يجمعه الذي خلقه من لا أجزاء ولا أعضاء، ولا فرق بين من كذب بجمع هذا وبين من كذب بجمع الناس ليومٍ لا ريب فيه؛ (معارج القبول لحافظ حكمي جـ 2 صـ 114: 110).

من هم المنكرون لعذاب القبر؟

المنكرون لعذاب القبر ونعيمه وسؤال الملكين هم: الخوارج، والجهمية، ومعظم المعتزلة؛ (مسلم بشرح النووي جـ 9 صـ 224).

حكم إنكار عذاب القبر ونعيمه:

(1) الإمام أحمد بن حنبل:

قال الإمام أحمد بن حنبل (رحمه الله): عذاب القبر حق، لا يُنكِرُه إلا ضالٌّ مضلٌّ؛ (الروح لابن القيم صـ 77).

(2) الإمام ابن تيمية:

قال الإمام ابن تيمية (رحمه الله): من جحد شيئًا من الشرائع الظاهرة، وكان حديث العهد بالإسلام أو ناشئًا ببلد جهلٍ، لا يكفر حتى تبلغه الحجة النبوية،وكذلك العكس، إذا رأيت المقالة المخطئة قد صدرت من إمامٍ قديمٍ فاغتفرت؛ لعدم بلوغ الحجة له – فلا يغتفر لمن بلغته الحجة ما اغتفر للأول؛ فلهذا يبدع من بلغته أحاديث عذاب القبر ونحوها إذا أنكر ذلك؛ (مجموع فتاوى ابن تيمية جـ 6 صـ 61).

(3) دار الإفتاء المصرية:

السؤال: ينكر بعض الناس أن هناك نعيمًا وعذابًا في القبر، فما هو رأى الدين في ذلك؟

الجواب: قال الشيخ عطية صقر (رحمه الله): (رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر)؛ (شهر مايو عام: 1997م):

نعيم القبر وعذابه ثابتان بأدلة كثيرة، منها (ذكر – رحمه الله – سبعة أدلة، سوف نذكر بعضها):

(1) روى الشيخان عن البراء بن عازبٍ، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27] قال: ((نزلت في عذاب القبر، فيقال له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، ونبيِّي محمد صلى الله عليه وسلم، فذلك قوله عز وجل: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]))؛ (البخاري حديث: 1369/ مسلم حديث: 2871).

(2) روى مسلم عن زيد بن ثابتٍ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا ألا تدافنوا، لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه))، ثم أقبل علينا بوجهه، فقال: ((تعوَّذوا بالله من عذاب النار))، قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار، فقال: ((تعوذوا بالله من عذاب القبر))، قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر؛ (مسلم حديث: 2867).

(3) روى الشيخان عن عبدالله بن عباسٍ رضي الله عنهما قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال: إنهما ليُعذَّبان، وما يعذبان في كبيرٍ، أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة)؛ (البخاري حديث 218/ مسلم حديث 292).

(4) قال سبحانه: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 45، 46]، فالعرض يكون في القبر قبل يوم القيامة.

هذه بعض الأدلة القوية على ثبوت النعيم والعذاب في القبر، فذلك ثابت بالسنةِ وظاهرِ الآية، وأهل السنة مجمعون عليه، والإجماع حجة عند أكثر الأصوليين، وأنكره جماعة من المعتزلة، ومهما يكن من شيء فإن العقائد لا تثبت إلا بالنص القطعي في ثبوته ودلالته، والحديث الصحيح الذي دل على نعيم القبر وعذابه اعتبره بعض العلماء من قطعي الثبوت الذي يفيد العلم اليقيني، واعتبره آخرون ظني الثبوت الذي لا يفيد العلم اليقيني، ومن هنا كان الخلاف في الحكم على من أنكر نعيم القبر وعذابه، هل هو كافر أو غير كافر.

(فتاوى دار الإفتاء المصرية جـ 8 صـ 286)؛ (الفتاوى للشيخ عطية صقر ـ المكتبة التوفيقية جـ 1 صـ 373: 372 رقم: 234).

(4) اللجنة الدائمة بالسعودية:

السؤال الأول من الفتوى رقم 9377:

س: ما حكم من ينكر عذاب القبر بحجة أن الأحاديث الواردة في عذاب القبر هي أحاديث آحاد، وحديث الآحاد لا يؤخذ به مطلقًا، وهم لا ينظرون إلى الحديث صحيح أو حسن أو ضعيف، ولكن ينظرون إليه من جهة كونه آحادًا، أو مرويًّا بطرق مختلفة، فإذا وجدوه حديث آحاد لم يأخذوا به، فما هو الرد عليهم؟

جـ: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه،وبعد:

إذا ثبت حديث الآحاد عن الرسول صلى الله عليه وسلم كان حجةً فيما دل عليه، اعتقادًا وعملًا، لإجماع أهل السنة، ومن أنكر الاحتجاج بأحاديث الآحاد بعد إقامة الحجة عليه، فهو كافر،وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء

عضو                          نائب الرئيس            الرئيس

عبدالله بن غديان                عبدالرزاق عفيفي        عبدالعزيز بن باز

(فتاوى اللجنة الدائمة بالسعودية جـ 5 صـ 20: 19).

أسباب عذاب القبر:

إن عذاب القبر أثر غضب الله تعالى وسخطه على عبده، فمن أغضب الله وأسخَطه في هذه الدار ثم لم يتُبْ، ومات على ذلك كان له من عذاب القبر بقدر غضب الله وسخطه عليه،وعذاب القبر هو نتيجة لمعاصي القلب، والعين، والأذن، والفم، واللسان، والبطن، والفرج، واليد، والرِّجل، والبدن كله؛فالنمام، والكذاب، والمغتاب، وشاهد الزور، وقاذف المحصن، والداعي إلى البدعة، والقائل على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلمما لا علم له به، وآكل الربا، وآكل أموال اليتامى، وآكل السحت من الرشوة، وآكل مال أخيه المسلم بغير حق أو مال المعاهد، وشارب الخمر، والزاني، واللوطي، والسارق، والخائن، والغادر، والمخادع، والماكر، وآخذ الربا، ومعطيه، وكاتبه، وشاهداه، والمحتال على إسقاط فرائض الله تعالى، وارتكاب محارمه، ومؤذي المسلمين، ومتتبع عوراتهم، والحاكم بغير ما أنزل الله، والمفتي بغير ما شرعه الله، والمعين على الإثم والعدوان، وقاتل النفس التي حرم الله، والمُعطل لحقائق أسماء الله وصفاته الملحد فيها، والمقدم رأيه على سنة رسول صلى الله عليه وسلم، والنائحة، والمستمع إليها، والمغنون الغناء الذي حرمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والمستمع إليهم، والمطففون في الكيل والميزان، والجبارون، والمتكبرون، والمراؤون، والهمازون، واللمازون، والطاعنون على السلف الصالح، والذين يأتون الكهنة والمنجمين والعرَّافين فيسألونهم ويصدقونهم، وأعوان الظلمة الذين قد باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم، والذي إذا خوفته بالله تعالى وذكَّرته به لم ينزجر، فإذا خوفته بمخلوق مثله خاف وكفَّ عما هو فيه، والذي يجاهر بالمعصية ويفتخر بها بين الناس، والذي لا تأمنه على مالك وحرمتك، والفاحش اللسان البذيء الذي تركه الناس اتقاء شره، والذي يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها وينقرها، ولا يذكر الله فيها إلا قليلًا، ولا يؤدي زكاة ماله طيبة بها نفسه، ولا يحج مع قدرته على الحج، ولا يؤدي ما عليه من الحقوق مع قدرته عليها، والذي لا يبالي بما حصل من المال، من حلال أو حرام، ولا يصل رحمه، ولا يرحم المسكين، ولا الأرملة، ولا اليتيم، ولا الحيوان البهيم، بل يزجر اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين، ويرائي الناس بعمله؛ ليكسب مدحهم له، ويمنع الماعون، ويشتغل بعيوب الناس عن عيبه، وبذنوبهم عن ذنبه -فكل هؤلاء وأمثالهم يعذبون في قبورهم بهذه الجرائم، بحسب كثرتها وقلتها، وصغيرها وكبيرها؛ (الروح لابن القيم صـ 103: 101).

وسائل النجاة من عذاب القبر:

وسائل النجاة من عذاب القبر هي أن يتجنب المسلم الأسباب التي تقتضي عذاب القبر، ومن أنفعها أن يجلس المسلم عندما يريد النوم لله ساعة يحاسب نفسه فيها على ما خسره وربحه في يومه، ثم يجدد له توبة نصوحًا بينه وبين الله، فينام على تلك التوبة، ويعزم على ألا يعود إلى الذنب إذا استيقظ من نومه، ويفعل هذا كل ليلة، فإن مات من ليلته مات على توبة، وإن استيقظ استيقظ مستقبِلاً للعمل، مسرورًا بتأخير أجله حتى يستقبل ربه ويستدرك ما فاته، وليس للعبد أنفع من هذه النومة، ولا سيما إذا عقب ذلك بذكر الله، واستعمال السنن التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلمعند النوم حتى يغلبه النوم، فمن أراد الله به خيرًا وفقه لذلك، ولا قوة إلا بالله؛ (الروح لابن القيم صـ 104).

وعلى المسلم، الذي يريد النجاة من عذاب القبر، أن يحافظ على أداء ما أوجبه الله تعالى عليه، وترك ما حرمه عليه سبحانه، والإكثار من التوبة الصادقة، والاستغفار، وفضائل الأعمال، والإكثار من الاستعاذة بالله تعالى من عذاب القبر.

أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعله ذخرًا لي عنده يوم القيامة {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89]، كما أسأله سبحانه أن ينفع به طلاب العلم.

وآخر دعوانا أنِ الحمدُ لله رب العالمين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.