لماذا التوحيد (6)

للأستاذ الشيخ: محمد عبد المجيد الشافعي

الرئيس العام للجماعة ورئيس التحرير

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين

)إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا)

والشريعة الإسلامية هي التي جعلت عمر بن الخطاب يسوي بين ملك من ملوك غسان وبين واحد من عامة المسلمين – حين أسلم جبلة بن الأبهم آخر ملوك بني غسان وفرح المسلمون بإسلامه وقدومه لحضور موسم الحج مع عمر رضي اللَّه عنه فبينما هو يطوف بالبيت إذ وطئ على إزاره رجل من فزاره واستحله،

فالتفت إليه جبله مغضبًا فلطمه فهشم أنفه. فكشى الفزاري إلى عمر بن الخطاب فقال عمر جبلة: ما دعاك أن تظلم أخاك؟ فقال: إنه وطئ إزاري ولولا حرمة هذا البيت لأخذت الذي عليه عيناه – يعني رأسه – فقال عمر رضي اللَّه عنه: أما أنت فقد أقررت فإما أن ترضيه وإما أن أقيده منك – قال جبلة: أتقيد مني وهو رجل سوقة – قال عمر قد شملك وإياه الإسلام فما تفضله إلا بالعافية، قال: قد رجوت أن أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية – قال عمر هو ذاك – يعني لا بد من القصاص – قال: إذن أتنصر – قال له عمر إن تنصرت ضربت عنقك – قال جبلة: أنظرني إلى غد يا أمير المؤمنين – قال له عمر: ذلك إليك ففر في ليلته مع أصحابه إلى القسطنطينية.

وهكذا الشريعة الإسلامية التي تضرب أروع الأمثلة وأعلاها وأسماها في العدل، فلا فرق بين عربي ولا أعجمي ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى، كما يقول اللَّه تعالى: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، وهكذا تبدو الشريعة الإسلامية أنها تبني أعظم الحضارات وتقيم أكرم الأمم على أسس من العدل والمساواة المطلقة بين الأفراد، وقد وضعت التعصب للجنس تحت أقدامها منذ ثلاثة عشر قرنًا، بينما نرى أمريكا المتحضرة وجنوب أفريقيا المتمدنة تترديان في ردغة الخبال غير عابئة بعدل ولا مصغية لضمير.

والتوحيد يلزم المسلم حاكمًا ومحكومًا أن يتحاكم إلى الكتاب والسنة؛ لأنهما مناط العدل ولأن التحاكم إلى غيرهما تحاكم إلى الطاغوت والتحاكم إلى الطاغوت شرك بالله والله يقول: (إن الشرك لظلم عظيم) [لقمان].

فكيف بالذي يدع حكم الله إلى حكم الإنسان – والقرآن يقرع سمعه بما جاء في صدر سورة المائدة من قول الله تعالى: ( .. إن الله يحكم ما يريد).

كما يندد في سورة النساء بأولئك الذين يتحاكمون إلى غير كتاب الله وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخرجهم من عداد المؤمنين ويعتبرهم أدعياء وكاذبين فيقول سبحانه: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا)، بل ويعتبر هؤلاء من المنافقين والمنافقون هم الذين يظهرون ما لا يبطنون، وكأنما يريد القرآن الكريم أن يحذرنا منهم لأنهم يظهرون الإسلام ويخفون في أنفسهم الكفران والعصيان، فيقول معقبًا: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا).

منافقون إذن أولئك الذين يدعون إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله ليحكم بينهم فيعرضون – ذلك أنهم واحد من ثلاثة:

1- مريض بقلبه.

2- أو مرتاب في ربه.

– 3أو رجل يخاف من الله ظلمًا ويخشى منه هضمًا، فهو يطعن في صفة من صفاته وهي العدل، ويفضح الله هؤلاء في قوله تعالى: (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ. وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ. وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ. أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [النور].

والحكم بغير ما أنزل الله اتباع للكافرين والمنافقين واتباع للكافرين والمنافقين طاعة لهم وطاعتهم أمر قد حذر الله منه، حيث بدأ سورة الأحزاب بقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا. وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا).

والتقوى باب الحكمة وسبل الرشد وطريق السداد، فكأن الخير والبر في عدم طاعة الكافرين واتباع المنافقين والشر كل الشر في طاعتهم والسير على نهجهم والأخذ بقوانينهم.

والقرآن الكريم لم ينزل لنتخذ منه حلية توضع على صدور الغانيات ولا حجابًا نعلقه في المصانع والمحلات ليجلب البركة ويمنع النقمة، ولا كذلك لنربطه على جسوم أبنائنا فيحميهم من الحسد أو ليشفيهم من المرض ولا ليبيعه قراء القرآن على قبور الموتى وكأنه صكوك الغفران ولا لنقرأه في المآتم رحمة على موتانا ولا لنتلوه في المساجد حربًا على أعدانا ولا لنسمعه في سهراتنا من السادة القرائين غناء ونغمًا وألحانًا.

إنما القرآن هو الدستور الشامل الهادي إلى الفضيلة والداعي إلى الكمال الإنساني الذي يتمثل في العدل، كما قال الله عز وجل: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ .. ).

العدل إذن هو الهدف الأسمى من نزول القرآن الكريم والعدل هو الطريق إلى السلام، والسلام هو أنشودة الدول وأغنية الأمم التي تطرب لها القلوب وتسكن بها النفوس.

ولذلك جاء القرآن الكريم يدعو أهله والمؤمنين إلى القوة ويحض عليها لتحمي ذمار العدل.

وجاء يدعو إلى إخضاع الدنيا وحكم العالم وقيادة الشعوب وريادة الأمم ليس لإهانة الضعيف وتكريم القوي ولا لتحقير الفقير وتعظيم الغني، ولكن ليعلو بالضعيف ويكرم المهين ويحرر العبيد ويعتق الرقيق ويسوي بين الناس إلا بالعافية كما قال عمر بن الخطاب لجبلة بن الأيهم.

وكما يقول أبو بكر في تلك الكلمات التي لا تزال تدوي ليعلم حكام الأرض كيف كان الإسلام دائمًا في نصرة الحق ونشر لواء العدل، حيث قال: “القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي حتى آخذ حقه له”.

القرآن إذن جاء ليبث في النفوس زكاتها وفي القلوب الطهر والعفة ليحقق الإنسانية فضائلها تمامًا كما تأتي الشمس بأنوارها فتوقظ الحياة لتحقق أعمالها.

القرآن إذن جاء بالشريعة التي تؤكد سيادة الفضيلة وتغلها بعكس شرائع الأرض التي تحقق سعادة الطبيعة وتحكمها.

وهو – أي القرآن – إذن يعمد بكل الوسائل إلى إقامة العدل يتخذ من خشية الله عز وجل لدى الإنسان وازعًا من ضميره يوقظه إذا سهى وينبهه إذا غفل ويهديه إذا ضل ويذكره إذا نسى. فمن أي عطفيه التفت هذا الإنسان وجد ملكين عن يمينه وعن شماله يكتبان أعماله خيرها وشرها فهو كالمتهم المستريب في نفسه يخشى منها ويدقق في حسابها لأنه أيقن أنه لا يمشي خطوة إلا بين مخبرين يحصيان عليه خطرات النفس ويجمعان منه نزوات الفكر ويترجمان عنه معاني النظر، كما يقول ربنا: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْه ِمِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ … ).

فإذا قامت هذه الرقابة الملائكية واستقر أمرها في النفس المؤمنة قام منها على النفس شرع نافذ هو قانون الإرادة المميزة تريد الحسنات وتعمل لها وتكره السيئات وتتحرز منها.

وإذا بالفضائل الإنسانية تنهض بإزاء الشهوات الحيوانية فتحكم الرقابة عليها وتشدد الحراسة من حولها وإذا بمعاني الفضيلة والأخلاق الفاضلة هي صاحبة السيطرة في هذه الحياة.

وسياج معاني الفضيلة والأخلاق الطيبة هو العقيدة التي ترشدك أن الله الواحد هو الملك وهو الحكم وهو العدل هو وحده الذي بيده صلاح الأمر وأنه يحكم ما يريد.

وما يريد إلا الخير، فلا عدل إلا في حكمه ولا خير إلا في أمره.

ولهذا جاء القرآن أول ما جاء يخضع حياة الإنسان للعقيدة ثم تتولى العقيدة الصحيحة المؤمنة بالله الواحد. تتولى العلو بالحياة فوق الحاجة والسمو بها فوق الشهوة فيكون الحاكم قويًا ولا يظلم ويكون القوي قادرًا ولا يبطش ويكون الفقير معه ما ويتعفف، ويكون الغني موسرًا ويتصدق، ويكون الشره طامعًا ويمسك، ويكون المتشهي راغبًا ويحجم، رغبة ورهبة من الله الواحد الذي بيده وحده مقاليد الأمور.

إلا أن الإنسانية اليوم تعيش في ليل موحش ومظلم، وقد طال هذا الليل واشتد فيه عواء الذئاب ونباح الكلاب، والخطر كل الخطر من هذه الذئاب المنهومة والكلاب المسعورة التي سعرت طباعها الشهوات والنزوات فمتى يكون النهار.

لا تسأل عن النهار الكوني، ولكن عن النهار الذي يضئ نفس الإنسان ويمد قلبه بالنور وعقله بالحكمة والذي هو الشريعة الإسلامية التي هي قصة الهداية الإنسانية في نور من الكلام.

هي النور إذن وإذا جاء النور تبدد الظلام …(يتبع).