للأستاذ علي عبد العظيم
فرض اللَّه سبحانه الصيام على المسلمين كما فرضه على الأمم السابقة، وذلك لأهميته العظمى في التربية الجسمية والعقلية والروحية، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
وجوهر الصيام هو كف النفس عما تشتهيه وترويضها على السمو عن النزوات والنزغات؛ وكانت الأمم السابقة تكف عن تناول ألوان خاصة من الطعام، وكان بعضها يكف عن الكلام فترة من الزمان، وقد أوصى عيسى عليه السلام أمه بالصيام عن الكلام، وأمه تشير إلى قومها موحية إليهم: {إني نذرت للرحمن صومًا فلن أكلم اليوم إنسيًا}.
وقد جاء الصيام في الإسلام ليحقق أدق نظام وأسمى وسيلة للرقي البشري من الجوانب المادية والروحية على السواء، فهو مقاومة للشره والنهم لتفرة محدودة من كل يوم، ولأمد محدود من العام، وهو مقاومة لطغيان الشهوات والنزوات وترويض للغرائز البهيمية التي تتحكم في معظم الناس، وهو إلى هذا ترويض للألسنة لتقتصد في السخف والهذر واللغو وهو إلى جانب هذه الفضائل الرادعة يحقق فضائل إيجابية عديدة، مثل تقوية الغزائم الواهية، وتوثيق الصلات الاجتماعية بين مختلف الطبقات عن طريق الترغيب في الصدقات الاختيارية وزكاة الفطر الاجبارية. والتمسك بالصبر وسنتناول هذه الفضائل بإيجاز:
الكف عن الطعام والشراب:
الكف عن الطعام والشراب لفترة محدودة بقوم على أن معظم الناس يفرطون في إلتهام الطعام والشراب إلى درجة تعرضهم لكثير من الأمراض التي تدمر الجسم.
ولهذا قال أحد أساطين الطب: ((إن كثيرين من الناس يحفرون قبورهم بأسنانهم)). وقد قام أحد الأطباء المصريين بتجارب عملية دقيقة اتضح منها أن الأغلبية الساحقة من الناس يأكلون ثلاثة أمثال ما تحتاج إليه أجسامهم فتتكدس الشحوم والدهون في أجسامهم فتدمرها تدميرًا؛ وهذا يذكرنا بقوله تعالى: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين}. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما ملأ آدمي وعاء شرًا من بطن، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه. فإن كان لا بد فاعلاً فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه)). والحكمة النبوية في عبارة ((وثلث لنفسه)) كشفها الطب الحديث، فإن المعدة إذا امتلأت ضغطت على الحجاب الحاجز فيضغط بدوره على الرئتين ضغطًا يعوقهما عن حركة النفس، وهنا يشعر الآكل النهم بضيق في الصدر يظل يجثم على صدره حتى تستطيع المعدة التخلص من رحمة الطعام، والمعدة إذا امتلأت بالطعام عجزت عن الهضم.
وفي الصيام تخفيف عن أعضاء الجهاز الهضمي الذي يرهقه الإفراط في التهام الطعام إرهاقًا شديدًا، وإذا كانت الآلات الحديدية الصماء تتحطم إذا واصلت العمل دون راحة فما بالك بأعضاء الإنسان؟ إن معظم العلاج الطبيعي الآن لا يتم إلا بالكف عن الطعام والشراب. وكثير من المستشفيات العالمية تعالج مرضاها عن طريق الصيام لفترات محدودة تتيح للجسم أن يتخلص مما تكدس فيه من شحوم ودهون، فقد ثبت طبيًا أن الأجسام عند الصيام تستمد غذاءها مما اختزنته من شحوم ودهون؛ وبهذا تتخلص من أعبائها الثقيلة التي ترهق القلوب كما ترهق بقية الأعضاء.
وكان ((مكفادون)) أبو الطب الطبيعي يعتمد في علاجه أكبر الاعتماد على الصيام، ثم على أساليب الرياضة البدنية المختلفة، وكان يكف عن الطعام يومين من كل أسبوع.
الكف عن الشهوات:
من الغرائز القوية المتحكمة في الجمهرة العظمى من الناس الغريزة الجنسية، فإذا لم يتم تنظيمها وتنسيقها والسمو بها دمرت أصحابها شر تدمير كما حطمت المجتمعات أي تحطيم؛ والإسلام لا يكبح الغرائز وإنما يسمو بها وينظمها لخير الأفراد والجماعات، ولهذا حض على الزواج وقاوم الرهبانية، وأباح تعدد الزوجات لحكمة عظمى قد نتناولها قريبًا فيما نعرض له من دراسات، والحكمة في الزواج – كما عرض الإسلام – تقوم على الإنجاب وامتداد النسل امتدادًا للحياة. وليست لمجرد إرضاء النزوات البهيمية ولا لإشباع الرغبات الجنسية، وإن كان هذا مباحًا إذا تم عن طريق مشروع، ولكن الهدف الأسمى هو الترابط الاجتماعي وامتداد الحياة، قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً}، فالهدف من الزواج هو إنجاب البنين والحفدة، كما من الله على البشر بأنه يسر لهم الترابط القوي بالمصاهرة قال تعالى: {وهو الذي خلق من الماء بشرًا فجعله نسبًا وصهرًا}. فإذا صرفنا الغريزة الجنسية عن هدفيها الساميين واستجبنا لنزواتها العارمة حطمت أعصابنا وقضت على كل مقوماتنا.
ومن هنا جاء الصيام لترويض هذه الغريزة والسيطرة عليها والسمو بها لتحقيق خير الأفراد والمجتمعات.
فإذا اشتدت سورتها في الشباب، فإن الإسلام يأمرهم بترويضها عن طريق الصيام، قال صلى الله عليه وسلم: “يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء “. رواه الشيخان، ومعنى الوجاء إغلاق أبواب الشهوة وكفها عن الانطلاق.
الكف عن اللغو والآثام:
وصف الله المؤمنين بأنهم {عن اللغو معرضون} وبأنهم {لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا باللغو مروا كرامًا}. ووصف الله عباده الذين فازوا بالجنة بأنهم {لا يسمعون فيها لغوًا ولا كذابًا}. ومعظم الرذائل والشرور ناتجة إطلاق العنان للألسنة أو إطلاق العنان للغرائز وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم: ((من يضمن لي بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)). وللكلام شهوة كما للغرائز شهوة، وكثير من الناس تدفعهم ألسنتهم إلى النار دفعًا. روى الشيخان عن النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يدخل الجنة نمام”. وهو الذي يطلق لسانه في الإفساد بين الناس بالنيمية.
قال عقبة بن نافع: “يا رسول الله، ما النجاة؟ قال: أمسك عليك لسانك “. وقال معاذ بن جبل: “يا رسول الله، أنؤاخذ بما نقول؟ فقال: ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟ “. وقال صلى الله عليه وسلم: “إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسًا يهوى بها سبعين خريفًا في النار”.
وقال صحابي للنبي صلى الله عليه وسلم: “إن فلانة تكثر من الصدقة والصلاة والصيام غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها فقال عليه الصلاة والسلام: هي في النار”.
ولهذا لا يتم الصيام إلا بصون اللسان والكف عن اللغو والآثام. وإلى هذا نبهنا الحديث الشريف: “من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه”. وحسب المؤمن أن يعلم أن عليه من الله رقيبًا في كل ما ينطق به من أقوال، قال تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}.
السمو الوجداني: إن الصيام يهذب النفوس ويسمو بالعواطف الوجدانية فهو يشعر الأغنياء بما يقاسيه الفقراء من الحرمان.
والصيام يتم بأداء زكاة الفطر وهي فرض على جميع الصائمين من أغنياء وفقراء، وهنا يشعر الفقير بأنه يأخذ ويعطي، وهذا يصهر المجتمع في وحدة متكاملة كالجسد الواحد أو البنيان المرصوص.
الصبر في احتمال الأزمات:
إن الحياة قاسية لا ترحم؛ عنيفة لا تهدأ، وهي قائمة على الكفاح والنضال واقتحام العقبات في صراع مرير بين القوى العاتية، ولا بقاء فيها إلا للأصلح: {فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}. والأقوى في هذا المعترك هو الذي يملك زمام نفسه وينظم طاقاته النفسية ومواهبه العقلية التي هي سلاحه في معترك الحياة، وبهذا يستطيع أن يتلقى الصدمات بالصبر، وأن يحوض المعارك محتملاً مشقاتها في صبر وجلد حتى يفوز بالنصر.
ويصمد حتى تلوح أمامه الفرصة للانقضاض.
ولا يعلم الصبر شيء مثل الصيام، قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن ماجه: “الصيام نصف الصبر”. وقال عليه الصلاة والسلام: “الصيام جنة – الجنة الوقاية – وهو حصن من حصون المؤمن “.
وخير نعمة ينعم الله بها على عباده أن يلهمهم الصبر في اجتياز الأزمات واحتمال المشقات.
روى الشيخان عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث: ((ومن يصبر يصبره الله، وما أعطى أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر)).
والمؤمن دائم الثقة بربه، وهو يعلم علم اليقين: “أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه “. رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
كما يعلم أن لكل شدة نهاية: {إن مع العسر يسرًا إن مع العسر يسرًا}. وهو مؤمن بقول الرسول صلى الله عليه وسلم – من حديث طويل رواه الترمذي وحسنه -: ” إن عظم البلاء مع عظم الجزاء، وإن الله تعالى إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضى فله الرضا ومن سخط فله السخط “.
والتطبيق العملي للصبر هو الصيام، لأنه صبر على أداء الطاعات، واحتمال المشقات، وسيطرة على النزوات والشهوات. وهو تدريب واقعي يكف النفس عما ألفته من عادات وما تعلقت به من طيبات.
وهو مع هذا يقوي العزمات، ويعود الأمانات المطلقة التي هي أساس كل عقيدة ودعامة كل عمل صالح، فإن الصائم يخلو بنفسه وقد استبد به الجوع وأرهقه الظمأ وبين يديه أشهى الطعام، وألذ الشراب، ولا رقيب عليه إلا الله، فلا تمتد يده إلى طعام أشرار وإنما يظل صابرًا راضيًا مطمئنًا حتى يحين موعد الإفطار، هذه الأمانة المطلقة هي أساس الإيمان، وعلينا أن نتدبر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “لا إيمان لمن لا أمانة له”. رواه أحمد وابن حبان.
والصائم إذا أحسن الصيام ظل على صلة وثيقة بربه تورثه السكينة والاطمئنان حتى يفوز بالرضوان، وحسبنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله، قال الله عز وجل: إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه “. رواه مسلم والنسائي وأحمد وابن ماجه.
إن الانتصار على الأعداء سهل لمن أحسن الاستعداد والتخطيط والتدريب، أما الانتصار على شهوات النفس فهو أبلغ الانتصار، ولا يفوز به إلا الأبطال، ولن تحل الهزيمة بشخص استطاع أن ينتصر على نفسه وما تفور به من نزوات ونزغات.