لماذا التوحيد (5)

للأستاذ الشيخ: محمد عبد المجيد الشافعي

الرئيس العام للجماعة ورئيس التحرير

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين

ولهذا قامت أنصار السنة المحمدية تؤكد للناس أن الخير كل الخير، والبر كل البر في العودة بالمسلمين إلى ما كان عليه سلفهم الصالح من تحكيم الكتاب والسنة حتى تبنى الإنسان الحر الذي يأبى أن تستعبده الأوهام وبمحو ذاته في ذوات أولئك الدجالين والمتجرين بالدين،

كما يأبى أن يعطل ما منحه اللَّه من عقل فيستعلي بهذا على العبودية للعبيد ويسمو بكرامته أن تنحط بها التبعية لبشر مثله – كما لا يرضى أن يكون إمعة ساقطة الهمة يقود خطامه الظن الذي جسده له الشيطان أو الأشياخ في هيكل ولي يلجأ إليه من دون اللَّه.

وبهذا يتعالى بالحق عن الباطل وبالصدق عن الزيف والإفك، ويوجه الفكر إلى الحق والنفس إلى الهدى ويتوجه بقلبه وعقله إلى الخير والبر ويندفع نحو الحكمة فيسجل في تاريخ أمته سير البطولة وقصة العبقرية وسمو الإنسانية المتفانية لنصرة الحق وإقامة العدل ونشر السلام. والاستشهاد النبيل لتحقيق المثل العليا ولتمكني الدين والإيمان الذي حماه من الطاغوت، ثم حلق به في آفاق السمو والكمال. ولا يكفيه أنه حطم القيد عن نفسه وكسر الأغلال التي كانت تمسك به عبدًا ذلولا للعبد، بل أنه يمضي جبار القوة ماضي العزيمة عالي الهمة يحطم القيود الظالمة والأغلال الغليظة عن الأسارى الآخرين سجناء الأوهام والخرافة والضلالة.

نريد أن نبني الإنسان الحر الذي لا يعبد إلا إلهًا واحدًا لا يذل إلا له ولا يخاف إلا منه ولا يلوذ إلا به ولا يتول إلا عليه ويؤمن بأن اللَّه رقيب عليه فلا يتصرف إلا بوازع من ضميره وباعث من قلبه وهاتف من عقله الذي وعى أن اللَّه لطيف خبير، وأنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

نريد أن نبني الإنسان الحر وننقذه من ذل العبودية لأمثاله من البشر حتى يحتفظ بعزة نفسه الإنسانية، ولا يجد وخزة لكرامته البشرية إلا أنه يحمد الخير ويشكر النعمة للمنعم الكريم. وهذا ما يعلو بالنفس ويحفظ الكرامة ويهدي الفكر والعقل والقلب إلى حمى الحقيقة العليا متمثلة في قول اللَّه تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ. إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 18، 19].

وملاك الحق في ذلك أمران.

1- أن تعبد اللَّه وحده لا شريك له.

2- ألا تعبده إلا بما شرعه وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم ويروى مسلم في حديث قدسي أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال – يقول اللَّه تعالى: ” من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه “.

وذلك أن اللَّه يحب أن يكون عبده ملكًا خالصًا لا يشاركه فيه أحد غير اللَّه، فلا يستعبده سلطان بالخوف من هذا الغير، أو الرجاء فيه أو التوكل عليه ولا يفتنه الحب لأوليائه عن حب الله فينصرف إليهم وينأى عن اللَّه. ولا يصرفه عن طاعة اللَّه جاه أو مال أو سلطان أو زوج أو ولد. ولا يصده عن شريعة الله أحبار أو كهان أو علماء أو أشياخ أو بطانة تزيف له الباطل فتظهره له في سورة الحق، والضلال في ثوب الهدى، والحرام في شكل الحلال – كمثل هؤلاء الذين يقولون عن الغناء الرخيص إنه طرب، وعن الرقص إنه فن، وعن عري النساء إنه مدنية، وعن الإلحاد إنه تقدمية وعن الشريعة الإسلامية. وا أسفاه إنها رجعية ولا يتعبد الله إلا بما شرعه الله في كتابه وبينه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في سنته الطاهرة أو ما جاءت به سيرته العاطرة، فلا وظيفة ولا ياقوته تلك التي يقرؤها أتباع الطرق في حضرتهم ولا يقرأون كتاب الله ولا دلائل الخيرات التي شغلت الناس عن تلاوة القرآن الكريم والتي ترفع النبي صلى الله عليه وسلم من درجة النبوة إلى درجة الربوبية وهو ما لم يحدث من المشركين الأولين فنقول عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: “وإن من جودك النيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم “. وهكذا يضيفون صفة من صفات الله واسمًا من أسمائه الحسنى على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو اسم الجواد، ويزعمون للناس أن من جاد عليهم بالدنيا وخيراتها، وبركاتها ونعمائها الرسول صلى الله عليه وسلم وليس الله. ألا ساء ما يفترون.

ولا كذلك صلاة الفاتح وما فيها من كفر وضلال وشرك وبهتان، ولا دعاء نصف شعبان الذي يكذبون به صريح القرآن، وعلى الرغم من أننا لا نعلم مصدر هذا الدعاء أو على الأصح هذا البلاء، ولا نعلم من صاحبه أو مؤلفه فإن الدهماء من المسلمين حينما يرددونه إنما ينعقون بما لا يسمعون إلا نداء ودعاء صم بكم عمى فهم لا يرجعون.

فإن هذا الدعاء يقول – في ليلة النصف من شهر شعبان المكرم التي يفرق فيها كل أمر حكيم ويبرم ويجعل الليلة التي يفرق فيها أمر حكيم هي ليلة النصف من شعبان، مع أن سورة الدخان تؤكد أن ليلة القدر هي التي يفرق فيها كل أمر حكيم، حيث يقول رب العالمين في صدر تلك السورة: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ. فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}.

أما الشريعة الإسلامية والتي يسمونها بالرجعية، فهي تلك المجموعة السماوية من النظم والقوانين التي بعثت من شتات البدو، دولة ومن جوف الصحاري حضارة من والعرب المتفرقين في الصحراء قادة وسادة وساسة ملأوا الأرض عدلاً وسلامًا، وهي التي جعلت من إمارته وسطوته، وبين نصراني ادعى ملكية درع كان لأمير المؤمنين عند النصراني وشخصا إلى شريح فقال: هذه الدرع درعي وما أمير المؤمنين عندي بكاذب، وقال أمير المؤمنين: هذه الدرع لي، فسأله شريح عن البينة فلم يأت أمير المؤمنين بالبينة، فحكم شريح رضي اللَّه عنه بالدرع للنصراني تحقيقًا للمبدأ العام: “البينة على من ادعى واليمين على من أنكر”. فدهش النصراني وقال: ما هذا بحكم البشر وصاح: أشهد ألا إله إلا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه “.

تلك هي الرجعية أو بالأحرى تلك هي الشريعة الإسلامية التي خلقت من هذا العربي الذي لم يلتحق بكلية ولم يتخرج في جامعة قاضيًا يضع مبدأ للعدل تأخذ به محاكم العالم اليوم، وهو أن القاضي لا يحكم بعلمه، وإنما يحكم بالبينة أمامه. فهو أي شريح يعلم تمامًا صدق أمير المؤمنين، ولكن أن يظلم أمير المؤمنين في واحدة خير من أن يؤخذ الناس بالظن ظلمًا في ملايين القضايا.

تلك هي الرجعية، أو بالأحرى تلك هي الشريعة الإسلامية التي ترسى لسان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، أقدم أسس العدل مشفوعًا بالرحمة في قوله صلى الله عليه وسلم كما روى الترمذي: “أدرأوا الحدود بالشبهات، فإن الإمام إن يخطئ في العفو خير من يخطئ في العقوبة “.

وهي التي فتحت للعلمانية طريقًا إلى قلوب المؤمنين والمؤمنات حتى تقف إحداهن فترد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وهو يخطب الناس في يوم الجمعة في مهور النساء، فيقول: “أصابت امرأة وأخطأ عمر”.

وهي التي دفعت ابن محصن الفزاري أن يرد والي البصرة أبا موسى الأشعري حتى شكا إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فقال: اشخصوه إلي، فلما سأله عن السبب قال له في قوة المؤمن وإيمان الواثق وثقة المتيقن ويقين العالم: إن الوالي أبا موسى يدعو لك ولا يدعو لأبي بكر بعد وفاته فيربت عمر على كتفه معترفًا بسبق وفضل سلفه ويقول: إن ليلة من ليالي أبي بكر خير من عمر ومن آل عمر، خرج ليلة الهجرة مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يذكر الطلب فيمشي خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ويذكر الرصد فيمشي أمامه وتارة عن يمينه وتارة عن يساره.

وهي أي شريعة إسلامية التي تضع أسمى مبادئ العدل وأرقى قواعد الأخلاق الإنسانية فينزل القرآن الكريم على الرسول العظيم محمد صلوات الله وسلامه عليه في قضية أبيرق اليهودي مع أحد المسلمين الذي أراد أن يبهته بالسرقة رغم أنه هو السارق – فيحذره الله بقوله: { .. ولا تكن للخائنين خصيمًا} [سورة النساء].

وهي التي تطالب المسلم أي مسلم، أن يشهد الحق ولو على نفسه أو والديه أو الأقربين، فيقول سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء للَّه ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} وهي التي …

وإلى العدد القادم إن شاء اللَّه …..