عنتر أحمد حشاد
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ(7)
(أ) مقدمة في مسائل ينبغي معرفتها:
الأولى: في المكّيّ والمدني:
لم ينزل القرآن الكريم على رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة واحدة، ولا دفعة واحدة، وإنما نزل متفرقًا بحسب الوقائع والحوادث، وبحسب الأسئلة والاستفتاءات في ثلاث وعشرين سنة، كما قال سبحانه: (وقرآنًا فرقناه لتقرأه على الناس على مكثٍ ونزّلناه تنزيلاً) آية 106 من سورة الإسراء.
وهذه الفترة قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حوالي ثلاث عشرة سنة منها في مكة قبل الهجرة، وقضى حوالي عشر سنوات منها في المدينة بعد الهجرة، فكان المكي من القرآن ما نزل قبل الهجرة في مكة، أو في ضواحيها، كمنى، وعرفات، والحديبية، أو في القدس ليلة الإسراء، أو ما نزل في طريق المدينة قبل أن يبلغها النبي صلى الله عليه وسلم، وكان المدني ما نزل بعد الهجرة في المدينة، أو في ضواحيها، كبدر، وأُحد، وسلع، ومنه ما نزل بمكة عام الفتح، أو عام حجة الوداع، وما نزل في سفر من الأسفار بعد الهجرة.
فالفاصل بين المكي والمدني من القرآن الكريم: آياته وسوره- فاصل زماني، لا مكاني، وهذا هو أشهر الآراء وأرجحها.
الثانية – في معنى السورة:
السورة هي الطائفة والجملة من كلام الله العزيز، لها أول ولها آخر، ولها عدد معلوم من الآيات، والكلمات، والحروف، وتعرف السورة باسم خاص بها، أو بعدة أسماء، وأسماء السور مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وإنما سميت سورة لارتفاع منزلتها، وعلو مكانتها، بكونها من كلام الله تعالى، وفضل كلام الله على سائر الكلام، كفضل الله على خلقه، والسورة في اللغة: المنزلة الرفيعة، كما في قول الشاعر
ألم تر أن الله أعطاك سورة … ترى كل مَلكٍ دونها يتذبذب
وأجمعوا على أن عدد سور القرآن مائة وأربع عشرة سورة، ومن عدها مائة وثلاث عشرة جعل سورتي الأنفال والتوبة سورة واحدة.
والحكمة في تسوير القرآن سورًا أن يكون أنشط للقارئ، وأبعث على التحصيل وأن الجنس إذا انطوت تحته أنواع كان أحسن من أن يكون بابًا واحدًا، وفي هذا التسوير أيضًا إشارة إلى أن كل سورة نمط مستقل.
الثالثة – في الاستغاذة:
أمرنا الله بالاستعاذة به من الشيطان الرجيم عند أول كل قراءة، فقال: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) سورة النحل آية 98، والمعنى: فإذا أردت قراءة القرآن كما أمرنا بها في كل موضع تخشى فيه وساوس الشيطان، وتزيينه الشر، فقال: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم) آية 200 من سورة الأعراف.
المعنى: وإن تعرض لك من الشيطان وسوسة فاستجرْ بالله، والجأ إليه أن يدفعها عنك.
يقول القارئ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أو أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، والمعنى: ألتجئ إلى الله تعالى، وأستجير به، وأتحصن مما أخشاه من كيد الشيطان الطريد من رحمته تعالى، ومكره ووسوسته.
وإنما خصت القراءة بطلب الاستعاذة، مع أنه قد أمرنا بها على وجه العموم في جميع الشئون – كما رأينا – لأن القرآن مصدر الهداية. والشيطان مصدر الضلال، فهو يقف للإنسان بالمرصاد عند قراءة القرآن على وجه خاص، فيثير أمامه ألوانًا من الشكوك فيما يقرأ، وفيما يفيد من قراءته، وفيما يقصد بها، ليفوت عليه الانتفاع بهدي الله وآياته، فعلمنا الله أن نتقي ذلك كله بهذه الاستعاذة التي هي في الواقع عنوان صادق، وتعبير حق عن امتلاء قلب المؤمن بمعنى اللجوء إلى الله، وقوة عزيمته في طرد الوساوس والشكوك، واستقبال الهداية بقلب طاهر، وعقل واعٍ، وإيمان ثابت.
والاستعاذة- بإجماع المسلمين – ليست من نصوص القرآن، وإنما هي تنفيذ لأوامره، فتقال عند إرادة القراءة خارج الصلاة، ولا يجهر بها في الصلاة.
الرابعة – في البسملة:
وهي (بسم الله الرحمن الرحيم) وتعرف أيضًا (بالتسمية) والراجح أنها آية من سورة الفاتحة، ومن سورة النمل – جزء من الآية 30 من سورة النمل-، بدليل كتابتها في المصحف، وعدّها آية في هاتين السورتين، فيما عدا هاتين السورتين هي آية أنزلت للفصل بين السور، والتبرك بها في الابتداء باستثناء سورة براءة، ولذا ذكرت في أول كل سورة ولم تعد آية منها.
وعد البسملة آية أو عدم عدّها آية، لاختلاف الأدلة – مسألة اجتهادية – المصيب فيها مأجور، والمخطئ فيها معذور مأجور، والعلم الحق عند الله تبارك وتعالى، وعلى هذا مضى سلف الأمة، لا يتخذون من الخلاف في الرأي أداة للطعن والشتم والتكفير.
وفي ابتداء سور القرآن الكريم بالبسملة تعليم لنا أن نبدأ أعمالنا بتسمية الله تعالى وذكره، مستعينين به وحده، وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل أمرٍ لا يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر). أي مقطوع الفضل والخير والبركة.
وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: (ألا أنبئكم بآية لم تنزل على نبي قبلي إلا أن يكون سليمان بن داود؟ بسم الله الرحمن الرحيم).
الخامسة – في التأمين:
يسن لقارئ الفاتحة في الصلاة وغيرها أن يقول بعد الفراغ منها (آمين) بعد سكتة على نون: (ولا الضالين) ليفصل ما هو قرآن عما ليس بقرآن، و (آمين) معناها: (استجبْ يا الله) وهي ليست من القرآن باتفاق، ولذا أجمعوا على عدم كتابتها في المصاحف.
وقد جاءت الأدلة على استحبابها، ورفع الصوت بها، من الإمام والمأمومين، ففي حديث أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أمّن الإمام فأمّنوا، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: آمين، حتى يسمعها الصف الأول، فيرتج بها المسجد، كما في سنن ابن ماجه.
(ب) تعريف بسورة الفاتحة: مقاصدها، وأسمائها، وفضلها:
سورة الفاتحة مكية نزلت قبل الهجرة، فقد فرضت الصلاة قبل الهجرة ليلة الإسراء، ولم يعرف في الإسلام صلاة بغير سورة الفاتحة، وهي سبع آيات نزلت بتمامها جملة واحدة، وهي أول سورة نزلت من القرآن الكريم كاملة، وأول سورة في الترتيب المصحفي.
وقد أجمل في هذه السورة ما فصل في القرآن الكريم كله، وكأنها إجمال يحلو بعده التفصيل، فمع قلة آياتها اشتملت على مقاصد القرآن. وهي: تعريف الناس برب العالمين، وما يتصف به من صفات جليلة، وحثهم على حمده وعبادته وإثبات يوم الجزاء وقدرة الله على البعث وإحياء الناس بعد الموت، وتفرده بالملك والتصرف في هذا اليوم، ووجوب توحيده بالعبادة دون شريك. والاستعانة به وحده في جميع الشئون إذ لا يوجد شيء، ولا يتم إلا بإرادته ومعونته، ومن خير ما يستعان بالله تعالى فيه طلب الهداية منه إلى الصراط المستقيم. وفي سبيل ذلك يلفت القرآن الكريم أنظار الناس إلى ما في الكون كله: في الآفاق وفي أنفسهم من آيات دالة على قدرة الله وعلمه وحكمته وربوبيته وسائر صفاته الحسنى، ويقص علينا قصص الأولين، مبينًا أصناف الناس من المؤمنين والكافرين، وعاقبتهم، لنعتبر بهم.
وقد اشتملت الفاتحة على هذه المقاصد كلها في إيجاز، فلا غرابة أن تسمى أم الكتاب، وسورة أم الكتاب، وأم القرآن، وسورة أم القرآن، والأساس، وسورة الأساس، وأساس القرآن، والوافية، والكافية، والشافية، والشفاء، وسورة الشفاء، والفاتحة، وسورة الفاتحة، وفاتحة الكتاب.
وأسماؤها قريبة من ثلاثين، فهي تسمى أيضًا: الحمد، وسورة الحمد (لبدئها بإثبات الحمد لله، واختصاصه به، وسور الحمد في القرآن الكريم غير الفاتحة أربع: الأنعام، والكهف، وسبأ، وفاطر، والصلاة، وسورة الصلاة (لأنها أساس الصلاة) والسبع المثاني، (لقوله صلى الله عليه وسلم: “لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب” ولقول الله تعالى في الحديث القدسي: “قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين” الحديث، وسيأتي بتمامه في الحديث عن فضل السورة إن شاء الله، والصلاة في الحديث: الفاتحة)، (لأنها سبع آيات تثنى وتكرر في الصلاة، ولاشتمالها على الثناء على الله تعالى) وسورة الثناء. (ذكر هذه الأسماء كلها مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزابادي في كتابه بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز جـ1، ص128).
وأما فضلها وشرفها فلما جاء في الحديث القدسي: (قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله: أثنى عليّ عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال الله: مجّدَنِي عبدي، وإذا قال: إياك نعبدُ وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. وإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمتَ عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل). أخرجه مسلم عن أبي هريرة.
وقد ذكر الألوسي في تفسيره أنه روى بإسناد صحيح عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب: (تحب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في القرآن مثلها؟ قال: نعم يا رسول الله، فقال له: كيف تقرأ في الصلاة؟ فقرأ بأم القرآن، فقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده ما نزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، وإنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته).
وقال مجاهد: سمعت ابن عباس يقول: إن إبليس له أربعة أنات: حين لعن وحين أهبط من الجنة، وحين بعث محمد صلى الله عليه وسلم، وحين أنزلت فاتحة الكتاب.
بهذا كانت هذه السورة (فاتحة الكتاب) وكانت (أم القرآن) وكانت هي السورة الوحيدة التي طلب من المؤمنين أن يقرءوها في كل صلاة، وفي جميع الركعات، وفي كل الأوقات، ويسرت على لسان كل مؤمن وأصبحت في الإسلام كأنها (مجمع أشعة) تنير بضوئها كل شيء وتبسطه على كل شيء.
وإلى العدد القادم إن شاء الله لنلقي نظرة أخرى في فاتحة الكتاب: مفرداتها ومعناها الإجمالي. والله تعالى هو الموفق والمعين.