المعنى السياسي في الالتزام بالتقويم الهجري

بقلم الأستاذ إبراهيم إبراهيم هلال

سياسة الإسلام، أن تكون كلمة أبنائه هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، وأن تكون أمته قوامة على الأمم. وهو لا يصدر في ذلك عن أمر تعصبي، وإنما عن مبدأ طبيعي، يعترف به العدو والصديق وهو (البقاء للأصلح)، وبالتالي (السيادة والقوامة والعزة للأقوم والأصلح)، و (لله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون) (المنافقون: آية 8). ولذلك فإن الإسلام قد اشتمل على كل ما ينفع البشرية في حاضرها ومستقبلها، وجاء لكل مشكلة بحل، سواء أكانت مشكلة فردية، أو اجتماعية، إقليمية، أو عالمية، في داخل النطاق الإسلامي، أو فيما بينه وبين الأقوام الآخرين.

وقد اعترف له بذلك الفلاسفة والمفكرون من يوم أن أتى وأثبت جدارته بقيام دولته العالمية المجيدة التي اعترف بفضلها وعدلها، العدو والصديق – إلى تلك الأيام التي نحياها. اعترفوا جميعًا (بأنه لم يطرق العالم ناموس مثل ناموس الإسلام الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم). (فأما الزبدُ فيذهب جفاءً وأمّا ما ينفع الناس فيمكثُ في الأرض). يمكث ويقوى ويعتز بعزة الله ووحي السماء.

ومن هنا فقط نقول: إن السيادة والعزة، يجب أن تكون لنا، لا لغيرنا؛ لأن رائد القوم أعقلهم، فلابد وأن تكون الأمة الإسلامية، وهي أعقل الأمم، وأعدلها، وأخيرها رائدتهم وسيدتهم.

فنحن لا ننزع هذا المنزع عن تعصبٍ، ولا لمجرد حب السيطرة والتحكم، وإنما من أجل خير البشرية جمعاء مسلمها، وغير مسلمها. فالإسلام شريعة الله في الأرض لعباده أجمعين، ونعمته لهم جميعًا، وفضله إليهم يسوقه، فلابد وأن يكون عميمًا، لمن اعتنقه، ولمن لم يعتنقه. ومن اعتنقه محاسب ومسئول عمن لم يعتنقه: هل أوصلت إليه الدعوة؟ هل قدمت إليه الهداية؟ هل أضأت في وجهه النور؟

ثم هو مسئول أيضًا من وجه آخر: هل أقمتَ فيه العدل؟ هل حررته من ربقة التأله والظلم والعبودية؟ (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحب المقسطين) سورة الممتحنة آية 8. ويقول صلى الله عليه وسلم: (من ظلم معاهدًا، أو كلّفه فوق ما يطيقه فأنا حجيجه يوم القيامة).

وهكذا لا يبغي الإسلام لأهله عزة ولا سيادة، إلا من أجل سيادة القيم والمبادئ ورحمة الخلق أجمعين (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء: 107، ولهذا لا يستحق القوامة على خلق الله إلا أرحمهم وأصلحهم (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) الأنبياء: 105.

ومن أجل الوصول إلى ذلك المستوى، وضع الإسلام لأبنائه أسسًا يلتزمون بها ولحكامه تقاليد هي في حكم المبادئ والأسس – يسيرون عليها.

ومن تلك التقاليد ذلك الشكل العام الذي تتخذه الدولة في رسمياتها وتاريخها وذلك التقويم الذي تسير عليه في هذا السبيل. وقد اختار لنا القرآن تلك السنة العربية تاريخا وتقويمًا، فبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم تاريخ الإسلام بهجرته صلى الله عليه وسلم، وبدأه بالتحديد من أول السنة العربية أي من المحرم، عمر بن الخطاب (رضي الله عنه).

وهو اختيار له قيمته الدينية إلى جانب قيمته السياسية التي تراعي القيم الذاتية والإنسانية للأمة، إلى جانب المقدسات الدينية والعقائدية. فقد خلا هذا التقويم العربي، مما تصطبغ به التقاويم الأخرى من مظاهر وثنية ونزعات إلى الشرك كما سيأتي.

وحديث القرآن إلينا في هذا المجال، حديث واسع، ويؤكد بعضه بعضًا بأن التقويم القمري هو التقويم الذي يجب أن يتبع. فقد أقام تشريعنا فيما يتصل بالمواقيت على تلك الشهور، سواء في العبادات كصوم رمضان وحج البيت، أو بالسياسة كالأشهر الحرم، أو الاجتماع كالعيدين، أو الاقتصاد كوجوب الزكاة إلى آخر ما هناك من تشريع يقوم على التوقيت أو يتصل به، (يسألونك عن الأهلة قُلْ هي مواقيت للناس والحج) البقرة: 189.

فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدد تفسير هذه الآية أنه قال: (جعلها الله مواقيت لصوم المسلمين، وإفطارهم، وعدة نسائهم ومحل دينهم).

وفي رواية أخرى: (يعلمون بها حل دينهم وعدة نسائهم، ووقت حجهم). وهنا نستطيع أن نرى مدى تقدير الله سبحانه لهذه الأمة ولتاريخها، فقد عمل على إحياء هذا التاريخ والعمل به بمثل هذه الآية المتقدمة، وبآية أخرى وهي قوله تعالى: (إنما النسيء زيادة في الكفر يُضَلُ به الذين كفروا يحلونه عامًا ويحرمونه عامًا) التوبة: 37، وكان هذا النسيء تأخير الأشهر الحرم عن مكانها. إذا صادفتهم وقت القتال. وقد ترتب على هذا أن وضعت الشهور في غير مواضعها: حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستطع أن يحج إلا في العام العاشر للهجرة، حيث كان الزمان قد استدار كهيئته، وأصبح المحرم، هو المحرم، والحجة هو الحجة وذلك بتعيين الرسول صلى الله عليه وسلم للشهور في أماكنها وإرجاعها إلى مواضعها. وجعل السنة اثني عشر شهرًا، لا أكثر، كما قالت الآية الكريمة (إنّ عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله) التوبة؛ لأنهم كانوا يريدونها أيضًا بهذا النسيء ثلاثة عشر، أو أربعة عشر.

فبهذا التوجيه الكريم من الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لتعديل السنة وتقويمها كما كانت إبقاءً على ذلك التاريخ العربي القائم على الهلال وإشارة إلى أنه التاريخ الذي يجب أن يتبع وخاصة أن الشهر العربي هو الشهر الهلالي الذي يبدأ بالهلال وينتهي به بدءا وختامًا ظاهرين لكل إنسان، محددين من السماء تحديدًا إلهيًا بأن هذا شهر كامل، وجزء من اثني عشرة جزءا من العام، فهو من إبداع الله وخلقه، لا ابتداع الناس وتقديرهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جعل الله الأهلة، فإذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن أغمى عليكم فأكملوا العدة ثلاثين).

إن في ذلك التقويم، من جانب القرآن والحديث إشارة إلى وجوب تمسك المسلمين بكل ما أتى به الإسلام وأقره، كما أن في إبقائه على تاريخ عربي لقوم عرب كانوا يؤرخون به من قديم، إشارة إلى وضع هذا التقويم وهذا التاريخ موضع التقدير والرعاية. وكأن القرآن الكريم بذلك أراد أن يجعله مظهرًا، وإطارًا لوحدة إسلامية صاعدة، لها مميزاتها وصبغتها الذاتية. كما أن لها امتدادها البعيد القديم مع الزمن بهذا التاريخ وإن كان قد غشيه من أغاليط العرب في الجاهلية ما غشيه. فهو تاريخ الأنبياء من أولهم إلى آخرهم، وهو التقويم الذي كانت عليه الأمة الإسلامية في قديمها مع مختلف أنبيائها قبل محمد صلى الله عليه وسلم فقد أخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم بأن اليوم العاشر من المحرم هو اليوم الذي استوت فيه سفينة نوح على الجودي، وهو اليوم الذي نجى الله فيه موسى من الغرق، كما أغرق فيه فرعون وقومه.

فالشهر الهلالي، والتقويم الهجري، هو التقويم الديني المعتبر، والذي درجت عليه الأمة الإسلامية في سابق عهودها ومع مختلف أنبيائها. وهو المقياس الزمني الملاحظ في التشريع الذي ندين به.

فهو التقويم الظاهر البادي للعيان المحدود البدء والنهاية. المعلوم لكل أحد إذا اختلط الأمر في التواريخ واضطرب، وهو الخالي من كل مظهر وثني، أو منزع إلى الشرك، إذ نزعت هذه التقاويم إلى ذلك، فأسماء الشهور الميلادية، ما هي إذا أسماء لآلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله أو لبعض ملوكهم الأقدمين. فمثلاً شهر مارس سُمّى باسم إله الحرب عندهم: (مارش).

أما شهورنا العربية فقد سميت بأسماء أوقاتها التي صادفتها أول العمل بها. فرمضان، مصدر رمض يومنا إذا اشتد حره، فسمى به هذا الشهر؛ لأن الصوم عبادة قديمة، فأول ما صامه آباؤنا الأوائل في عهد الأنبياء السابقين صادف أن كان ذلك في شدة الحر. ويقدم لنا صاحب القاموس تعليلاً آخر وهو أنه (مأخوذ من رمضَ الصائم، إذا اشتد حر جوفه، أو لأنه يحرق الذنوب). ورمضان إن صح من أسماء الله تعالى فغير مشتق، أو راجع إلى معنى الغافر، أي يمحو الذنوب ويمحقها.

هذه هي المعاني التي من أجلها سميت شهورنا بأسمائها، وهي معانٍ إن لم تكن ذات مغزى ديني توحيدي، فقد برئت كل البراءة، من مسميات الشرك والوثنية في الشهور الأخرى، وهي إلى جانب ذلك قد اعتبرت في القرآن، أيامًا للناس وتاريخًا لحياتهم منذ أن عرفت البشرية الأنبياء كما تقدم. وقد ذكر الإمام أحمد بن حنبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوارة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلتْ من رمضان). (وروى ابن مردويه أن الزبور أنزل لثنتي عشرة خلت من رمضان).

وأمام هذا كله، لابد لنا من الالتزام بالتقويم الهجري، تكميلاً لوحدتنا الإسلامية، وإتمامًا لصبغتنا، ومحافظة على وحدتنا، وسيماء على حضارتنا ومدنيتنا، فلكل قوم سيماء، ولكل حضارة صبغة وذاتية بها تتأصل وتثبت، وصبغتنا وذاتيتنا هي في التزام الحكومات الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، بهذا التقويم الهجري ليس غيره كما تفعل بعض الشقيقات العربيات. ففي الالتزام به إلى جانب ما تقدم، رباط يربط البلاد الإسلامية بعضها إلى بعض، كما أن فيه إعداد للشخصية الإسلامية، وبث الثقة فيها بكل مقومات حضارتها وتقاليدها، ومن هنا نتمسك بهذه المبادئ كمظهر محمود للتمسك بالدين وقيمه والتعصب له ضد أي تقليد أجنبي طارئ أو وارد من خارج البيئة الإسلامية، وحمل النفس على مناقشته، وقياسه بمقياس الدين، فإما أن يفوز ويعتبر متمشيًا مع الدين كما هو شأن الإسلام في تمشيه مع حاجات الناس في كل عصر ومصر، وإما أن يخفق، ويرفض حسب مبدأ الدين العام (لا ضرر ولا ضرار).

وهكذا نصل إلى أن الدين يجب أن يكون هو المقياس والميزان (للموضات) والأزياء، والتقاليد لا أن تكون هي مقياسًا له تخضعه بدلاً من أن تخضع له. نصل جميعًا، أفرادًا وحكومات – عن اقتناع وإيمان – إلى أن الإسلام هو الأساس، وأنه أولاً وقبل كل شيء، أساس لجميع القيم، وأنه يسع كل مدنية، وكل تحضر وتطور في حدود الإيمان، وفي إطار التقوى والخلق إنه هو الذي يقف من كل ذلك موقف المناقش، فيحكم عليها بالقبول والموافقة وبالرفض والامتهان، بكل قوة واعتزاز.

وهذا هو الرأي العام الإسلامي الذي نريد تكوينه ونسعى إليه، والذي لابد من وجوده لكي تنهض الأمة وتسير على قدميها؛ لأن الرأي العام في كل دولة، هو دليل حياتها، ومقياس نهضتها ونور لها يحميها من التخبط والاضطراب.

وفي هذا إحياء للدين في البيئات الإسلامية كلها، وجلب للتعاطف، والتناصر ووحدة الشعور بين هذه البيئات فنحقق بذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى).

ألا إن لنا في الالتزام بالتقويم الهجري دون غيره وحدة وعزة وقوة، فلنعمل لتلك العزة وتلك القوة. والله هو الهادي إلى سواء السبيل.