بقلم الأستاذ / مصطفى عبد اللطيف درويش
{فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية}
الإنسان قد يعيش مع الفساد ويألفه وتطول عشرته معه فيظنه حقًا مكتسبًا، ولهذا لما عرض لوط على قومه الزواج بالبنات قالوا: {لقد علمت ما لنا في بناتك من حق}، فقد اعتبروا الفحش مع الرجال حقًا مكتسبًا مألوفًا متوارثًا لا يجوز أن يحرموا منه. بل اعتبروا القلة المؤمنة المترفعة عن هذا الفحش .. اعتبروها جماعة مفسدة متخلفة تحول دون أمزجة الآخرين!!! ويجب أن تنفى من الأرض فقالوا: {أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون}!!
وليس هذا ببعيد عن مجتمعات القرن العشرين.
المرأة التي ترقص شبه عارية صاحبة رسالة!!
والمرأة التي يحتضنها الرجل ويقبلها فيما يسمى ((بالأفلام)) تعرض على الجماهير، صاحبة فن رفيع!!
والمرأة التي تقف عارية تمامًا ليسجل طلبة الفنون كل زوايا جسدها .. ثقافة وفن وحضارة .. ولا يعترض إلا المتخلفون الرجعيون المتأخرون أو كما قال قوم لوط: {أناس يتطهرون}!!
فليس بعجيب أن يصبح ممارسوا الفاحشة مع الرجال: {أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون}.
وهكذا فساد … ودعوة إلى الفساد، ويظن الإنسان أنه صاحب حق فيه .. بل وصاحب رسالة وحضارة ومدنية وتفتح!!
وقد تكون المصيبة أكبر وأفظع عندما يدعو الإنسان إلى الفساد وهو يظن أنه يدعو إلى الهداية والرشاد. وذلك كان شأن فرعون مع قومه: {ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد}.
ولكن … ما سبيل الرشاد الذي هدى فرعون قومه إليه؟
{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ} فقد جعل أهل الأرض أحزابًا مقنعة تتصارع فيما بينها لتتحقق له في النهاية الخضوع والولاء، ولتنشغل في صراعها فيما بينها عن صراعها معه، أما الطائفة الأخرى فقد استضعفها وذبح أبناءها.
وأحب فرعون أن يكون مرهوبًا في الأرض فنادى في قومه: {أنا ربكم الأعلى} و {يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري}، واتجه إلى الإكراه والطغيان لحمل الناس على السير في ركابه، ولهذا قال السحرة بعد إيمانهم: {إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر} وكان فرعون يهدد بالسجن لمن يرفض اعتناق أفكاره ومبادئه، فقال لموسى عليه السلام: {لئن اتخذت إلهًا غيري لأجعلنك من المسجونين}، واعبر فرعون مجرد الحوار معه ضربًا من الجنون فقال: {إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون}، وكان فرعون يحب أن يتنافس الناس مع الاقتراب منه {قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ. قَالَ نَعَمْ وَإَنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} وكان فرعون يحب أن يردد الناس اسمه، فأراد السحرة أن يرضوا فيه هذه النزعة فقالوا: {بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون} وجعل فرعون لنفسه رقابة على العقول والأفكار فلا يسمح لها باعتناق شيء إلا بإذنه {قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر}.
وبدأ الصراع بين الحق والباطل وأنى للربوبية الألوهية الزائفة أن تنتصر في حرب مع الإله الواحد القهار!!
وانتهى فرعون إلى جثة تتلاعب بها الأمواج وتتقاذفها كالكرة في أيدي الصبية حتى تلقى بها إلى الشاطئ {فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية} لترى الرعية العابدة من ادعى أنه ربهم الأعلى .. وشاءت حكمة اللَّه أن ينجو ببدنه حتى لا يقول العابدون ذهب إلى جوف البحر مع الآلهة .. أو ارتفع إلى السماء في مكان لائق!!
ولكن لا هذا ولا ذاك، إنما هي جثة رب مزعوم وإله زائف ألقت بها الأمواج إلى الرعية العابدة لتعلم المصير الذي انتهى إليه وليكون عبرة لكل الأجيال القادمة، ولكن مات فرعون .. والفرعونية لم تمت، ولهذا قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عندما قتل أبو جهل في غزوة بدر: ((مات فرعون هذه الأمة))، لكي يعلم الناس أن لكل أمة فرعونًا .. ولا يطل الفراعنة برؤوسهم إلا وسط أمم لها عقول خفيفة يسهل حملها وتحريكها، ولهذا فإن فرعون {استخف قومه فأطاعوه}؛ لأن الثعالب لا تنتشر إلا في مجتمع الأرانب والذئاب لا تنتشر إلا بين الغنم.
والإنسان إذا أحب أن يرهبه الناس وأن يسارعوا إلى تقديم فروض الولاء والطاعة العمياء له، وأن يطمعوا في الاقتراب منه فتكون علاقة الناس به رهبة ورغبة، وألا تكون الغلبة لهم إلا بعزته وأن يسبح الناس بحمده .. وأن يجعلوا كلامه قرآنًا يتلى ويردد في كل مكان .. فقد جعل نفسه فرعونًا.
ولأنه لا رغبة ولا رهبة إلا إلى اللَّه تعالى فالكل سواء أمام شريعة الله، ولهذا وقف رسولنا صلى الله عليه وسلم يقول: ((أيها الناس، من جلدت له ظهرًا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن شتمت له عرضًا فهذا عرضي فليستقد منه، ومن أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه .. )) لأنها شريعة الله والخضوع لها عبادة وتقوى وأكرم الناس أتقاهم لله، وحتى لا يأتي حاكم للمسلمين فيمنح نفسه تفويضًا مطلقًا بإرسال الناس إلى المقاصل – آلة القتل لتنفيذ حكم الإعدام – وغيابات السجون باسم المبادئ!! فتحكم الناس قواعد ((كل خبزًا وعش)) ((وللجدران أذان)) ((وإن وجدت بلدًا تعبد عجلاً فاجمع من الحشائش وأطعمه))!! وهكذا تنطلق الرهبة والرغبة إلى غير الله وتظهر الفرعونية أو الأصنام الآدمية، ويلف كل ذلك في ثوب أرفع المبادئ.
ووسط هذا الجو العفن يظهر المنكر لأنه لا يجد عنه ناهيًا، ويختفي المعروف لأنه لا يجد له آمرًا، فتكون النتيجة الوبال على الأمم وأصنامها.
ولهذا حرص الإسلام على ألا تكون الرهبة والرغبة إلا إلى اللَّه تعالى، فلا تندهش أن تجد الناس من يخوض في عرض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو حاكم الجزيرة الذي يملك أن يسلط السيوف على رقاب القاذفين، ولكنه ينتظر في صبر حتى تنزل البراءة من عند الله، ويأتي حكم الله في القذف فيسارع إلى التنفيذ!! ويغير خطة معركة بدر بأكملها تنفيذًا لما أشار به الخباب بن المنذر، ولا يخشى القائد أن يتهم بعدم التدبير، ولا يخشى الجندي الذي أشار بخطة مخالفة أن يتهم التجاوب!! فانتهى الأمر إلى الانتصار، ويقف رفيقة في الغار فيقول وهو خليفة للمسلمين: ((إن صرفت فقوموني))، ويقف عمر فيقول: ((من رأى منكم فيّ اعوجوجًا فليقومه)). وذلك حتى لا يكون من بين حكام المسلمين من يغامر بمستقبل الشعوب، وقد جعل من نفسه ذاتًا مصونة لا تمس وترتفع فوق مستوى التقويم والإرشاد، فضلاً عن المناقشة، ولا يكون ذلك إلا في مجتمع تنصرف فيه الرغبة والرهبة إلى غير اللَّه تعالى.
فإذا انصرفت الرغبة والرهبة إلى غير اللَّه فقد أطلت الفرعونية برأسها .. ولا تطل الفرعونية إلا وسط أهل الاستخفاف ((فاستخف قومه فأطاعوه)) .. والنهاية واحدة، وإن اختلفت الأسباب: {فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية}.
اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك واجعل رغبتنا ورهبتنا إليك، وتوفنا مسلمين.