الجزاء (2)

للسيدة الفاضلة نعمة صدقي

حرم الدكتور محمد رضا رحمه اللَّه

ثم قال تعالى: {إِلاَ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} أي أصبح المجرم الفاجر مؤمنًا تقيًا يسارع في الخيرات، فبدل الله تعالى سيئاته حسنات، ومن أعجب العجب أن بعض الناس يظن أن الله تعالى سيبدل السيئات حسنات لمن اقترف الكبائر ثم تاب وآمن وعمل عملاً صالحًا، أي إن من زادت سيئاته زادت حسناته، ومن أصر على اقتراف الآثام علت درجاته، فهل من المعقول أن يكون المصر على السيئات حتى تراكمت وتكدست أكثر حسنات ممن تاب من قريب وأصلح.

إن هذا الاعتقاد يحض على اقتراف الآثام، ويغري بالإصرار على التمادي في الحرام، لتزيد السيئات فتنقلب بعد التوبة إلى حسنات، فيا له من ضلال يدفع إلى الإضلال، ويا له من غباء ينسب إلى الرحمن الرحيم ما يليق به سبحانه وتعالى ما يصفون.

وفي قوله: {إِلاَ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا}، تأكيد أن من اجترأ وأصر على الكبائر لم يكن مؤمنًا حال ارتكابه للخطيئة حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن. ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)). وقول اللَّه سبحانه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى}.

تأمل أيها القارئ شروط الله تعالى لمغفرة الذنوب، إنها شروط أربعة يشترطها الله تعالى لتحقيق المغفرة، فهو غفار لمن تاب وآمن وعمل عملاً صالحًا ثم اهتدى بعد ذلك، أي ظل يسعى للهدى ويتحرى ما يرضى اللَّه بعد ما تاب وآمن وعمل عملاً صالحًا.

وقال تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

إن هذا الإنسان الذي تراوح بين الحسنات والسيئات، اعترف بذنبه، أي شعر بالندم على ما فرط في جنب الله، فالاعتراف اعتذار وإقرار بالذنب، والمؤمن التقي الذي اعترف نادمًا على ما اقترف، عسى الله أن يتوب عليه فيكفر عن سيئاته كما وعد سبحانه المتقين في قوله: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا}، وفي قوله: {ومن يؤمن باللَّه ويعمل صالحًا يكفر عنه سيئاته}، نفهم من هذه الآيات الكريمة أن التقي الذي يعمل الصالحات ولكنه يقترف بعض السيئات سعاة ضعف أو غضب، ثم يندم ويعترف بذنبه، ويتوب من قريب إلى ربه، يكفر الله تعالى عنه سيئاته ويعظم له أجرًا.

قال الشيخ رشيد رضا: كل ذنب يرتكب لعارض يعرض على النفس من استشاطة غضب أو غلبة جبن أو ثورة شهوة، وصاحبه متمكن من الدين يخاف الله، فهو من السيئات التي يكفرها الله تعالى، إذا كان لولا ذلك العارض القاهر للنفس لم يكن ليجترحه تهاونًا الدين، وكان بعد اجتراحه إياه حال كونه مغلوبًا على أمره يندم ويتألم ويتوب إلى اللَّه عز وجل ويعزم على عدم العودة على اقتراف مثله، فهو بعدم إصراره وباستقرار هيبة الله وخوفه في نفسه، يكون أهلاً لأن يتوب الله عليه ويكفر عنه سيئاته، وكل ذنب يرتكبه الإنسان مع التهاون بالأمر وعدم المبالاة ينظر اللَّه إليه ورؤيته إياه حيث نهاه، فهو مهما كان صغيرًا، أي في صورته أو ضرره، يعد كبيرة، أي من حيث هو استهانة بالدين وداع إلى الإصرار والانهماك والاستهتار، قال ابن عباس: لا صغير مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار – وهذا حديث رواه ابن عباس مرفوعًا وسنده ضعيف – أي مع التوبة والندم يغفر الله تعالى أي ذنب، وأكبر الكبائر في كل ذنب الإصرار، وهو عدم المبالاة بالنهي والأمر واحترام التكليف.

وما أجمل ما قال علي رضي اللَّه عنه: لا تنظر إلا صغر الخطيئة، بل انظر إلى من عصيت؛ قال: إذا استعظمت الذنب فقد عظمت حق الله، وإذا استصغرته فقد صغرت حق الله، وما من ذنب استعظمته إلا صغر عند الله؛ وما من ذنب استصغرته إلا عظم عند الله.

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن يرى ذنبه كالجبل فوقه يخاف أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنبه كالذباب وقع على وجهه فأطاره)).

وقال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ. وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ. أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ. أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.

قل أيها الرسول لعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم؛ أي تمادوا في الضلال وأسرفوا في الشهوات وعمل السيئات، قل لهم لا تقنطوا من رحمة الله عز وجل ولا تيئسوا من مغفرته لهذه السيئات مهما كانت كثيرة، فإن الله يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب وأصلح كما أكد سبحانه وتعالى في وعده: {فمن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا} ووعده: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

ومن أعجب العجب وأعظم الجهل أن يتمادى بعض الفجرة في فجورهم مطمئنين معتمدين على مغفرة الله لقوله تعالى: {لا تقطنوا من رحمة اللَّه إن الله يغفر الذنوب جميعًا}، ويتغافلون عن شرطة لهذه المغفرة في قوله: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ}، هذا تحذير من الله تعالى لمن أسرف وأذنب وأصر، وتنبيه له بأن لا مغفرة إلا لمن تاب إلى ربه وأسلم له، أي تاب إليه وأطاع أمره، من قبل أن يأتيه العذاب فيندم حيث لا ينفع الندم، إذ لا مغفرة ولا نجاة لمن أصر على ما فعل وهو يعلم حتى أتاه العذاب أو حضره الموت، بل لا بد له أن يسارع إلى مغفرة من ربه ويبادر إلى الإصلاح وعمل الصالحات لينجو من العقاب.

ثم قال تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} أي اتبعوا ما أنزل إليكم من أوامر تنجيكم وتعليكم في الدنيا والآخرة، وأسرعوا إلى ما يدعوكم إليه من قبل أن يأتيكم العذاب على غرة، فانتبهوا أيها الغافلون من غفلتكم قبل ما تندمون: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} أي لا ترجئ التوبة حتى تفوت الفرصة فتقول في حسرة: ليتني لم أفرط في جنب الله ولم أقصر في حقه ولم أسخر من أوامره ووعيده بالعذاب: {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.

فما أوقح هذه النفس المغرورة بربها التي تدعى أن اللَّه أهملها فظلمها، إذ لم ينعم عليها بالهدى، فلو أن الله هداها لكانت من المتقين، أي تريد هذه النفس الأمارة بالسوء أن يرغمها اللَّه على الهدى كأنها مجردة من العقل والإرادة، {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} هذه حسرة ما فوقها حسرة، وندم ليس بعده ندم، إنه اعترف بظلمه وجرمه عندما رأى العذاب بعينه، وتمنى لو عاد إلى الحياة الدنيا ثانيًا ليكون من المحسنين، ولكن لات حين مناص.

إنه لم يتنهز فرصة الحياة ليعمل الصالحات الباقيات، فلم يقدم لغد، ولم يكثرت بوعيد ولا وعد، بل أعرض مستخفًا عما يرضى ربه، واتبع هواه ولم يتق غضبه، قال تعالى: {قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ}، وقال: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ}.

وما أجمل ما قال فضيلة الشيخ محمد الغزالي في قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} أمثال هذه البشارات الرحبة، يظنها القاصرون ذريعة إلى التقصير في العمل والاستهانة بالخطأ، وهذا وهم مغرق في الضلال، فما قصد بهذه النصوص إلا تشجيع المجاهد لهواه على المضي في طريقة، لا تقفه عثرة ولا تنكسر عزيمته في الخير لكثرة ما اقترف من الشر، ولا يقطن من رحمة الله مهما صنع مادام يريد استئناف حياة أنقى وأفضل.

إن صور النفوس أشد تنوعًا من صور الوجوه، والإرادة والوعي ههنا أساس التنوع والاختلاف. فامرؤ يقارف الجريمة مريدًا واعيًا يبصر آثارها كاملة. ويقدر على مجانبتها تمامًا ويرتب وسائلها ويهيئ ظروفها ويستعد لماجآتها، غير امرئ تنسلط عليه إحدى العواطف الحادة كالغضب أو الحب أو القرابة فيتورط في جنابة مندفعًا إليها اندفاع المنقوص الإدارة والوعي معًا، وكلاهما غير التي أعوزته أسباب القوت فسرق، أو أسباب النشأة الصالحة والتربية الضرورة فأفسد.