هذا الركام باسم الإسلام

بقلم: محمد عبد الله السمان

إن مدارس الحي الزينبي بالقاهرة كل عام – ومنذ بداية الاحتفال بمولد السيدة زينب، رضي اللَّه عنها، وحتى بعد الانتهاء منه – تصبح محتلة للطرق الصوفية احتلالاً مشروعًا، لا يستمد مشروعيته – بالطبع – من الإسلام. بل من الجهات المسئولة في وزارة التربية والتعليم بناءً على توصيات الاتحاد الاشتراكي، وعندما ينتهي الاحتفال – وعلى وجه أصح – بعده ببضعة أيام، فبعض مشايخ الطرق ينتظر إلى أن يؤدي صلاة الجمعة في المسجد الزينبي، لأن ذلك – في رأيه – من متممات النسك، عندما ينتهي الاحتفال تبدو مشكلة ذات أهمية، حيث تصبح كل مدرسة في حاجة إلى فرقة من فرق التطهير في وزارة الصحة، ثم إلى إصلاح ما أفسدته أيدي أتباع الطرق الصوفية بالمدرسة وتتساءل إدارة المدرسة: من أين لها النفقات المطلوب؟ ويجيب المسئولون: من المجهود الذاتي.

ومنذ أيام – وبعد الانتهاء من الموالد – قصدت السيدة زوجي مدرستها وهيئة التدريس، فهالها أن تجد غرفتها محتلة ومكتبها مطوحًا به في أحد الأركان، فهاجت، فالغرفة هي الوحيدة التي تجتمع فيها هيئة التدريس لإنجاز الأعمال، وصعد الشيخ ليطيب خاطرها، ويأمر بالجلاء السريع من الغرفة وإعادة المكتب إلى مكانه، وبعد أن ساد شيء من الهدوء، واستقر الشيخ على أحد المقاعد، وجه الكلام إلى السيدة زوجي متسائلاً: كيف يليق بسيدة مسلمة مؤمنة تحب آل البيت أن تعيش تحت سقف واحد مع إنسان كافر لأنه يكره آل البيت.

وإن لم ينس صاحب السماحة العارف بالله صاحب الفضيلة الشيخ عماد، وهذه العبارات وأكثر منها مدونة على بطاقته إلى صورته “الكريمة” لم ينس أن يوجه نصيحته إلى السيدة زوجي، وقد رآها أن تحمل بعض الأدوية من الصيدلية، إلا أن هذه الأدوية التي يصفها الأطباء المختصون لمرضاهم هي سبب الأمراض، ولو أنها ألقت بكلام الطبيب ومعه الأدوية في سلة المهملات، ودأبت على زيارة ضريح السيدة زينب رضي اللَّه عنها لبرئت تمامًا.

ولست أدري: أين المسئولين من هذه النصيحة الغالية؟ إنها توفر للدولة – وهي في حاجة إلى التقشف – ملايين الجنيهات التي تنفقها على كليات الطب والصيدلة، وألوف الجنيهات من العملة الصعبة التي تستورد بها مئات الأنواع من الأدوية الأجنبية، وقد تصبح هناك مشكلتان: مشكلة الضريح الزينبي حيث لا يكتفي لتدفق ألوف المرضى، وإيجاد الحل لهذه المشكل سهل ميسر، إذ من الممكن أن يقام ضريح للسيدة زينب في كل مدينة، بل كل قرية، وأهل الخير من السذج كثيرون، إذ في استطاعتهم أن يقوموا بتشييد آلاف الأضرحة على نفقاتهم الخاصة دون أن يكلفوا الدولة شيئًا.

وبهذه المناسبة حدث في إحدى قرى محافظة القليوبية أن شيد أحد التجار ضريحًا لأحد المجاذيب وهو لا يزال على قيد الحياة، والمسألة ليست نكتة، فقد طلب المجذوب من التاجر أن يعاهد الله على بناء ضريح له بعد أن ينتقل، فالأولياء لا يموتون، ولكن ينتقلون، فما كان من التاجر لكي يطمئن “ولي الله” إلا أن شيد له الضريح، وأغلق في انتظار انتقال الشيخ، والعجيب أن سكان القرية وما جاورها أخذوا في التردد على الضريح للزيارة، والتماس البركة، ولا يزالون يحملون النذور إليه، بل بدأ البعض يؤلف ويبتكر من خياله قصصًا من كرامات الشيخ.

أما المشكلة الثانية، فهي إيجاد عمل لآلاف الأطباء الذين سيسرحون – بالطبع – والحل سهل ميسر يمكن أن ينضموا إلى صفوف الدراويش، فالدراويش اليوم دولة دخل الدولة لها سلطانها ومقوماتها، ولها جيش من البسطاء الأغرار يدافعون عنها بألسنتهم وأقلامهم، وأرزاق رعاياها مضمونة مائة في المائة، وهي أرزاق لا يقابلها جهد ذهني ولا جهد بدني.

ولنبدأ القصة من أولها:

في العام الماضي، وفي الليلة الأخيرة من مولد السيدة زينب – رضي اللَّه عنها – قمت بجولة ابتداء من منتصف الليل حتى مطلع الفجر، وسجلت هذه الجولة في كلمة بجريدة الأخبار، وكانت مدرسة السيدة زينب الجديدة يحتلها شيخ طريقة من السنطة اسمه “الشيخ عمارة” يتبعه عشرات من الناس رجالاً ونساءً وأطفالاً، وفي ظهيرة اليوم التالي جاءتني دعوة الشيخ للمثول بين يديه، فقد احتجز هيئة التدريس والناظر مصرًا على تناول شيء من مائدته، وفوجئت بالمدرسة وقد تحولت إلى معسكر خليط من الرجال والنساء والأطفال قيامًا وقعودًا ونيامًا بلا مراعاة لأية تقاليد. وصافحت الشيخ بلا انحناء، وبدأ الوجوم على العمالة والواقفين إلى جواره في انتظار أية إشارة منه وجاء مكاني إلى جوار فتاة في زي الدراويش لا تتجاوز الرابعة والعشرين من عمرها لكنها رائعة الجمال إلى حد الفتنة، وعرفتني بنفسها، إنها باحثة اجتماعية بمدرسة السنطة الإعدادية للبنات ومرشحة إلى مدرستها الثانوية، وقد جاءت لتكون – مع أخوات لها في الطريق – لتكون في خدمة الشيخ، نسيت .. أنها متزوجة ولها ثلاثة أطفال.

وهمست إليها: “إذا كان من الجائز أن لا نلوم هؤلاء الدراويش الوالغين في الأمية والدجل معًا، فهل يمكن السكون عن مثقفة مثلك؟ وصاحت “حي .. حي”، وقلت لها: دعك من هذا، لا تتهربي .. وأحس الشيخ بما حدث، فوجه إليَّ سؤالاً للإجابة عنه، وليرحم الفتاة مني، قال: ما رأي الأستاذ في مولد السيدة هذا العام؟ وأجبته في صراحة: لقد طفت الليلة بكل مشاهد المولد ومظاهره، وأتحدى أيًّا منكم أن يذكر لي مشهد واحد يرضي اللَّه والإسلام عنه!

وبهت الشيخ ومن معه وأنا أسرد المناظر المؤذية التي شهدتها بنفسي .. وكان إلى جوار الشيخ عالم من مفتشي وزارة الأوقاف السابقين، عرفته بعد أن ذكر لي اسمه، فاعتدل في جلسته متحمسًا للرد، وقبل أن يبدأ الدفاع سأل: من المتكلم؟ وذكر له اسمي، فهدأ قللاً، ودخلنا في مناقشة حول الشريعة والحقيقة، وبينما النقاش في أوجه حدته، إذ بالشيخ العارف بالله يريد الكلام! لكني لم أمهله يتكلم، ورجوته أن يلتزم الصمت مادمت أناقش عالمًا من علماء الدين، فانبرى قائلاً: هذا العالم الذي يجلس إلى جواري أنا الذي علمته العلم، وانتظرت من العالم أن يقول شيء إلا أن يقول: هذا حق، وإن كان الشيخ – شيخ الطريقة – لم يدخل في حياته كتابًا إلا أنني تلقيت العلم الحقيقي على يديه ” يقصد العلم اللدني” وهو مخترعات أرباب الطرق الصوفية، وعندئذ قلت: انتهت المناقشة!

وفي هذا العام أراد الشيخ أن يحاول القصاص مني، فكان منه ما كان مما ذكرته في بداية المقال، وذكرت لأحد كبار رجال التربية عبارة الشيخ للسيدة زوجي: أبلغي الأستاذ أنني غير راضي عنه إلى يوم القيامة .. فضحك المربي الكبير. ثم قال لي: ماذا يغضبك يا أخي؟ هذا من فضل اللَّه عليك، أليس من فضل الله علينا أن لا يرضى الشياطين عنا.

وبعد: فمن الخير لنا أن نقرر هنا:

أولاً: إننا حين نحارب مظاهر القداسة للأضرحة – ولو كان أصحابها من آل البيت – رضوان اللَّه عليهم، ليس معناه أن بيننا وبين آل البيت عداء، فليس هناك مسلم لا يحمل إلا كل حب وتقدير لآل البيت .. لكن المخرفين يحاولون أن يصوروننا بهذه الصورة مستغلين العاطفة الكاذبة.

ثانيًا: أن مسألة المولد التي أصبحت جماع كل وباء خلقي، يجب أن يعاد فيها النظر فقد خلقت لنا هذه الموالد جيشًا جرارًا من العاطلين والمرتزقة، يسهمون في إحياء المولد على مسار العام، وينتقلون من مولد القنائي بقنا إلى مولد العباس المرسي بالإسكندرية، والموالد لا تتوقف على مسار العام إلا في شهر رمضان – دون سائر الشهور – الذي كان عقيمًا، فلم ينجب وليًا من أولياء الله الصالحين؟

إن الألوف المؤلفة التي تتكدس في مولد السيد البدوي أو الحسين أو السيدة، وتفد من مشارق الدولة ومغاربها، معظم هذه الألوف لم تندفع إلى هذا السلوك بدافع من العاطفة الدينية، وإنما بدافع الترفيه عن النفس، والتخفيف من وطأة المعاناة التي نعيش في داخلها وترهق أعصابها.

والعجيب أن المتحدثين بألسنة الطرق الصوفية من أرباع المثقفين، يعترفون بأن الطريقة الصوفية التي لا تلتزم بالكتاب والسنة تعتبر طريقًا من طرق الشيطان، وينسى هذا البعض أن منهج الإسلام الحرص على وحدة المسلمين، وأحق المسلمين بهذه الوحدة أرباب الطرق الصوفية الذين يطلقون على أنفسهم لقب “أهل الله”، وإذا كان مقبولاً- جدلاً – أن تتنوع الطرق الصوفية تبعًا لمؤسسيها الأول، فهل يقبل – ولو جدلاً – أن تتفرع الطريقة الأحمدية إلى أربع عشرة طريقة؟ والشاذلية إلى سبع عشرة طريقة؟ والخلوتية إلى ثلاث عشرة طريقة وهكذا؟

وهذا البعض من المتحدثين بلسان الطريق يستند إلى أقوال منسوبة إلى رجال التصوف، فما قاله الجنيد سيد الطائفة – كما يلقبونه -: من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث لا يقتدي به في هذا الأمر لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة .. فإذا قلت لهذا البعض: أليس الجنيد هذا هو الذي طلب التين، ولم يكد يضع واحدة في فمه حتى ألقاها وأخذ في البكاء، فقد هتف هاتف: أما تستحي، تركته من أجلي ثم تعود إليه؟ أليس الجنيد هو الذي روي عنه: أنه كان يدخل كل يوم حانوته ويسبل الستر ويصلي أربعمائة ركعة، ثم يعود إلى بيته؟ أليس الجنيد هو القائل: ما رأيت أعبد من “السر السقطي، أنت عليه ثمان وتسعون سنة، ما رؤى مضطجًا إلا في علة الموت” حين تقول لذلك البعض هذا، أجابوك كل هذا مدسوس على الجنيد وأمثاله.

وبعد مرة أخرى: فليس مستساغًا أن نشغل أذهان المسلمين بمثل هذا والإسلام في هذه الأيام يعاني الأمرين، من التحديات العنيفة التي تواجهه من الصليبية والشيوعية والصهيونية والأقليات المسلمة تجري فيها عمليات الاستئصال في الفليبين وبلغاريا وتايلاند وغيرها.

لكن حين يدلهم الخطب، وتفيض الكأس بعد امتلائها، وأدعاء التصوف باسم الإسلام يشوهون الوجه المشرف للإسلام. يصبح السكوت هو الأمر غير المستساغ!!

محمد عبد الله السمان