الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه.
وبعد:
فإن من سنة الله في عباده: أنه – سبحانه – قد جعلهم متفاوتين في شؤون الدنيا والدين، فهدى قومًا وأضل آخرين؛ قال – تعالى -: [ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ] [ الأعراف: 30]، وأنعم على قوم بنعمة الفهم والإدراك والعلم، وضيق على آخرين، قال – تعالى -: [ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ] [الرعد: 17]، قال ابن كثير – رحمه الله -: “[ فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ]؛ أي: أخذ كل واحدٍ بحسبه، فهذا كبير وسع كثيرًا من الماء، وهذا صغير فوسع بقدره، وهو إشارة إلى القلوب وتفاوتها، فمنها: ما يسع علمًا كثيرًا، ومنها: ما لا يتَّسع لكثير من العلوم؛ بل يضيق عنها“. ابن كثير، 2/439.
وتفاضُل العباد في الأرزاق أمرٌ واضح جليٌّ؛ [ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ] [النحل: 71]، والحكمة من وراء هذا التفاوت في قوله – تعالى -: [ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ] [الزخرف: 32].
وهكذا فإننا نرى أن هذه السُّنةَ الكونية قد جعلتْ عبادَ الله أزواجًا؛ فمنهم العالم وفيهم الجاهل، ومنهم الطائع وفيهم العاصي، وفيهم الأغنياء ومنهم الفقراء، ومنهم السُّني وفيهم المبتدع، ومنهم رجال ومنهم نساء، وهذه أمثلة، وأما الحصر فإنه يعجز العادِّين.
والفقر قد يكون في المال، وقد يكون في العلم، وقد يكون في الطاعة، وقد جرتْ عادة الناس أنهم إذا رأَوا فقيرًا محتاجًا إلى المال، سارع بعضهم إلى مساعدته، وهذا من محاسن المجتمع المسلم، ولكننا نرى فقراء العلم، وهم الجهال، فلا يبالي بهم أحد إلا قليلاً، ونرى فقراء الطاعة، وهم العصاة، فلا نتصدَّق عليهم بالنصيحة، وقد نتعالى عليهم، ونهجرهم هجرًا غير جميل، قبل أن نبيِّن لهم ما يتَّقون!
فقراء العلم، وفقراء الطاعة، وفقراء المال:
وبنظرة فاحصة إلى المجتمع، سنجد أننا نواجه ثلاثة أنواع من الفقر: الجهل، والمعصية، وقلة المال، وقد تجتمع الثلاثة في شخصٍ واحد، فيكون جاهلاً عاصيًا فقيرًا إلى المال، وهذا يحتاج منا إلى أن نطعمه، ونعلِّمه، وندْعوه إلى التوبة.
فهل نحن نفعل ذلك؟ واقعنا يشهد أنَّا لا نفعله!
والفقير عندما يستر فقره، فإنه يتعفَّف؛ حتى لا يُعرف، وهذا خلق محمود.
وأما الجاهل، فإنه عندما يستر جهله، فإنه يتعالم – أي: يدَّعي العلم – وهذا خلق مذموم.
والعاصي، إما أن يستر معصيته، فيكون خيرًا ممن يجاهر بها، وإما أن تُقلَب عنده الحقائق، فيرى معصيتَه طاعةً من الطاعات، ويرى فسادَه صلاحًا! [ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ] [البقرة: 11، 12].
وهكذا فإنهم يسمُّون الإلحاد تقدُّمًا، والمروقَ من الدين تحرُّرًا، ويشيعون الفاحشة في المجتمع المسلم، ويقولون: هذا فن، وترويح عن القلوب!
ويتعاملون بالرِّبا، ويقولون: هذه ضرورة، وتيسير على الناس!
وقد يستخفُّ العاصي بمعصيته، ويجاهر بها؛ بل وقد يفخر بمعصيته أو بمعصية غيره!
ونحن نرى أن من واجبنا أن نتصدَّى لهذه الأمراض الثلاثة: الجهل، والمعصية، والفقر.
وأكبر المعاصي الشرك بالله الواحد القهار.
والمشركون هم أبعدُ الناس عن الحق؛ ولذلك فإنهم أكثر الناس تطرفًا؛ وهذا هو المقياس الصحيح للتطرف، فأكثر الناس تطرفًا أبعدُهم عن الحق، ثم الذين يلونهم، وهكذا.
وإعانة العصاة على التوبة إلى الله واجبٌ على كل مسلم يقدر على ذلك ويستطيعه، ولكننا كثيرًا ما نفعل العكس! فالنقاب – مثلاً – قال بعض العلماء: بأنه مستحب، وأوجبوه إذا خشيت الفتنة من المرأة أو عليها، ورجَّح كثير منهم وجوبَه مطلقًا، وأما التبرج فقد أجمع العلماء على تحريمه، وهو أمر واضح لا يجهله أحد، ومع ذلك فإن وسائل الإعلام عندنا تحارب النقاب بكل ما تستطيع، ولا تحارب التبرج؛ بل ولا تتحدث عنه، بل وتؤيِّده، وتدعو إليه، وتحث عليه! ويحدث ذلك في دولة العلم والإيمان، وبلد الأزهر!
إن المعصية مرض خطير، والعصاة بحاجة دائمة إلى النصيحة والتذكير برفقٍ، ولينٍ، وحكمة.
وهذه النصيحة الغائبة لها طرقٌ عديدة، يستخدم المسلم أحدها أو بعضها، فقد تكون كلمة طيبة ينتفع بها العاصي إذا سمعها أو بعد حين، وتكون لقائلها سترًا من النار؛ لقوله – صلى الله عليه وسلم -: [فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة].
وقد تكون النصيحة كتابًا تهديه للعاصي فينتفع به أو ببعضه، وقد تكون النصيحة شريطًا نافعًا يحوي علمًا صحيحًا، وأنفع وسيلة لاستخدام الشريط السيارات ووسائل المواصلات والمحلات.
وهذه الوسيلة تساعد المجتمع على التخلص من كثيرٍ من الأصوات المنكرة التي تنبعث من الأشرطة الهابطة، فتصم آذانَنا، وتفسد أخلاقنا.
وهكذا يمكنك – أيها المسلم الكريم – أن تجعل من الكتاب النافع هديةً تصل بها الأرحام، وتقدِّمها للأصحاب والجيران، يدفعك إلى ذلك دفعًا أنك تحبُّ لأخيك ما تحب لنفسك، وتكره له ما تكره لنفسك، فأنت تحب للناس الهداية كما أنعم الله بها عليك، وتحب لهم كل خير أمدَّك الله به أو تسأل الله منه.
اللهم اهد ضالَّ المسلمين، وتُب على العصاة والمذنبين.
اللهم اهدهم كما هديتنا، وعلِّمهم كما علمتنا، وخذ بأيديهم كما فعلت بنا، وأصلح شأنهم وشأننا، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، يا خير مسؤول، وأكرم مأمول.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه.