الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
فإن الله عز وجل قد أوجب على عباده أن يتدبروا كتابه فقال : (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)[النساء :82] .
وإننا – نحن المسلمين – نقرأ القرآن في بيوتنا، وفي صلاتنا وفي غير ذلك، ولكن ليس كل من قرأ تدبر، وليس كل من علم تفقه ! .
وبغير التدبر والفقه لا يمكننا أن نفهم عن الله مراده .
والعقل آلة الفهم، وفي حديث القرآن عن الذين يعقلون، والذين لا يعقلون نجد ميزانًا يختلف عن ميزان البشر ! .
فالعقلاء – بمقياس البشر- هم الذين يملكون نعمة العقل ، وغير العقلاء – بنفس المقياس – هم المجانين الذين حرموا نعمة العقل ، وأما القرآن فإنه يثبت العقل لمن يفهمون عن الله مراده، ويدركون الغاية التي خلقوا من أجلها ، فيدفعهم ذلك إلى الإيمان الصحيح بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره .
وأما الذين لا يعقلون – في ميزان القرآن – فهم ليسوا مجانين ولكن لهم قلوب (عقول) لا يفقهون بها (أي معرضة عن الحق) ولهم آذان ولكنها لا تسمع ! ولهم أعين ولكنها لا تبصر ! فهؤلاء هم الذين نفى الله عنهم العقل في كتابه.
والذين يعقلون هو المؤمنون، وهم الذين يصلحون في الأرض ، ولا يفسدون ، وغيرهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون !! والناظر إلى واقع الناس يرى أن بعضهم يصلح، وبعضهم يفسد، بعضهم يبني، وبعضهم يهدم، بعض الناس يدعو إلى الخير ويسعى إليه، وبعض الناس يدعو إلى الشر ويسارع فيه ! .
البعض يدعو إلى الفضيلة ومكارم الأخلاق ، وآخرون يدعون إلى الرذيلة وإشاعة الفاحشة .
وفي البداية الأولى للإنسان قال الله عز وجل للملائكة (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ولأمر ما أنطق الله ملائكته بهذا السؤال (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ …..) .
ويشاء الله أن تكون أو معصية على الأرض بين بني آدم هي سفك الدماء عندما قتل ابن آدم الأول أخاه، والقصة مبسوطة في سورة المائدة (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءَادَمَ) وفي حديث القرآن عن المفسدين يضرب أمثلة متباينة ، ويذكر نماذج متفاوتة .
فالإفساد في الأرض قد يقع من الحكام، ويصور القرآن ذلك تصويرًا دقيقًا محكمًا في قصة فرعون.
وقد يحدث الإفساد من الأغنياء والتجار وأصحاب الأموال ، ويعبر القرآن عن ذلك في حديثه عن قارون .
وقد يكون الفساد في قرية أو مدينة وقد ذكر القرآن لها أمثلة كثيرة منها قرية لوط، وقرية سبأ.
وقد ينتشر الفساد والإفساد في شعب بأكمله كما هو شأن يأجوج ومأجوج ( قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ) الآيات .
إن هذا السد الذي بناه ذو القرنين بين المصلحين والمفسدين نحتاج إلى أمثاله في حياتنا .
ويذكر القرآن لنا نموذجًا آخر للشعوب المفسدة هم اليهود .
وهم شرار الخلق عند الله ، وأئمة المفسدين ، ولذلك وصفهم القرآن بالإصرار والتكرار ( كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ) .
وهم لا يفسدون فقط وإنما ( وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ).
وفي كتاب الله تنبيه على قضيتين هامتين:
الأولى : إشاعة الفاحشة وهي صورة خطيرة من صور الإفساد وأسلوب خبيث من أساليب المفسدين في الأرض يعبر القرآن عنه في قوله ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ ءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) : [النور :19] .
وقد جاء هذا الوعيد الشديد شاملاً من يفعلون الفاحشة ، ومن يهيؤن لها الأسباب والذين ينشرون أو يتناقلون أخبارها أو يتلذذون بذكرها أو يفرحون بانتشارها أو يرضون بذلك ، فكل هؤلاء يحبون أن تشيع الفاحشة .
من أجل هذا عبر القرآن عنهم بلفظ (يحبون) وليس بلفظ (يفعلون).
وأما القضية الثانية التي نبه عليها القرآن الكريم
ففي قوله تعالى: ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )[الروم:41] .
ونقف خاشعين أمام هذا الإعجاز، فالقرآن يتحدث عن فساد في البر، وفساد في البحر، ويتحدث العلماء عن هذا الفساد فيقولون إنه نزع البركة من الأرزاق والأوقات !! وننظر في واقعنا فنرى البركة قد نزعت فعلاً من أرزاقنا، وأوقاتنا فلم نعد ننتفع بها على الوجه الذي كان عليه الآباء والأجداد والقرون الصالحة ! .
ثم نرجع البصر كرتين فنرى القرآن يرجع ذلك إلى أقوالنا وأفعالنا ( بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) فنحن الذين نهدم دنيانا بأيدينا ، فتنزل العقوبات الربانية على قوم هذا شأنهم ( لِيُذِيقَهُمْ س ) وليس كل الذين عملوا ، وقد تنفع العقوبة فتعيد الناس أو بعضهم إلى الله فيرجعون إليه تائبين ويرجعون عن معاصيه نادمين .
ومع هذا فإن كثيرًا من المسلمين اليوم يعيشون حياة الغفلة إلى حد قد أصبحوا معه حربًا على دينهم وهم لا يشعرون، فهم أداة العدو لهدم الإسلام وهم وسيلته لتخريب عقيدة المسلمين وتدمير أخلاقهم فهل يفيق المسلمون من غفلتهم ويهبوا من رقدتهم دفاعًا عن دينهم وعقيدتهم؟!.
إننا بحاجة إلى إخلاص يكون لنا إمامًا، وإلى غيرة تحرك فينا الهمم وإلى عزيمة تحيي موات قلوبنا وإلى علم يزيدنا من الله قربًا وإلى عمل صالح نلقى به ربنا .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .