صلاة النافلة في البيوت

عن زيد بن ثابت – رضي الله عنه – أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اتخذ حجرة – قال : حسبت أنه قال : – من حصير في رمضان ، فصلي فيها ليالي فصلى بصلاته ناس من أصحابه ، فما علم بهم جعل يقعد ، فخرج إليهم فقال : قد عرفت الذي رأيت من صنيعكم ، فصلوا أيها الناس في بيوتكم ، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة (متفق عليه) .

هذا الحديث فيه مسائل هامة ذكرنا منها في العدد الماضي فائدة صلاة القيام في الجماعة، وهذا حديثنا – بحول الله تعالى وقوته – حول صلاة النافلة في البيوت وبعض الفوائد الأخرى.

فنقول – مستعينين بالله تعالى – : إن صلاة النافلة في البيوت قد ورد فيها أحاديث عن عدد من الصحابة الكرم – رضوان الله عليهم – بلغوا أكثر من خمسة عشر صاحبيًا وفي أكثر من عشرين كتابًا من كتب السنة ومدوناتها المشهورة ، نذكر منها غير الحديث المذكور .

عن زيد بن ثابت – رضي الله عنه – أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : ( صلاة أحدكم في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة ) .(رواه أبو داود) .

وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – أن النبي الله -صلى الله عليه وسلم-  قال : (اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورًا) . ( متفق عليه ) .

 – وعن جابر –  رضي الله عنه – قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبًا من صلاته فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرًا ) . (رواه مسلم ) .

 – وعن عبد الله بن سعد – رضي الله عنه – قال : سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيما أفضل : الصلاة في بيتي أو الصلاة في المسجد ؟ قال : ( ألا ترى إلى بيتي ما أقربه من المسجد فلأن أصلي في بيتي أحب إلى من أن أصلي في المسجد إلا أن تكون صلاة مكتوبة ) (رواه أحمد ) .

 – وعن أبي سعيد قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ( إذا قضى أحدكم صلاته في المسجد ثم رجع إلى بيته فليصل في بيته ركعتين ، وليجعل لبيته نصيبًا من صلاته فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرًا ) . ( رواه مسلم) .

 –  وعن الحسن بن علي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : (صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورًا ) ( أخرجه في الضياء ) .

 – وعن صهيب – مرفوعًا – : (صلاة الرجل تطوعًا حيث لا يراه الناس تعدل صلاته على أعين الناس خمسًا وعشرين ) (الجامع الصغير) .

 – وعن عمر – مرفوعًا – : (صلاة الرجل في بيته تطوعًا نور فمن شاء نوَّر بيته ) (رواه أحمد) .

-* من فقه الحديث : الانتقال لصلاة النفل في البيت أفضل ولو كان بالمسجد الحرام ، وهذا في غير المعتكف ، والمبكر لصلاة الجمعة ، والخائف من فوات الوقت ، أو الخائف من دخول الكسل عليه ، أو من يجلس لتعليم أو تعلُّم ، أو مريد السفر ، والقادم من السفر ، وذلك في غير الصلوات التي تسن فيه الجماعة كالاستسقاء والعيدين والكسوفين ، وكركعتي الطواف وتحية المسجد .

قال ابن حجر : ظاهره أن يشمل جميع النوافل ، لأن الصلاة المكتوبة أفضل في المسجد ، والمراد بالمكتوبة هنا الصلوات الخمس لا ما وجب بعارض كالمنذورة ، والمراد بالمرء جنس الرجال فلا يَرِد استثناء النساء لثبوت قوله -صلى الله عليه وسلم- : (لا تمنعوهن المساجد وبيوتهن خير لهن ) (أخرجه مسلم) .

قال النووي : إنما حث على النافلة في البيت لكونه أخفى ، وأبعد من الرياء وليتبرك البيت بذلك ، فتتنزل فيه الرحمة ، وتنفر منه الشياطين ، وتتنزل فيه الملأئكة ، وهو أصون من المحبطات .

قال في المغني : ويستحب فعل السنن في البيت لحديث ابن عمر : أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي ركعتي الفجر والمغرب والعشاء في بيته وقال أبو داود : ما رأيت أحمد ركعهما – يعني : ركعتي الفجر – في المسجد قط إنما كان يخرج فيقعد في المسجد حتى تقام الصلاة ، وقال الأثرم : سمعت عبد الله سئل عن الركعتين بعد الظهر أين يصليان ؟ قال : في المسجد ، ثم قال : أما الركعتان قبل الفجر ففي بيته وبعد المغرب في بيته ، ثم قال: ليس ههنا شيء آكد من الركعتين بعد المغرب .

وذكر حديث ابن إسحاق : (صلوا هاتين الركعتين في بيوتكم ) قيل لأحمد : فإن كان منزل الرجل بعيدًا ؟ قال : لا أدري ! وذلك لما روى سعد بن إسحاق عن أبيه عن جده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتاهم في مسجد بني عبد الأشهل فصلى المغرب فرآهم يتطوعون بعدها، فقال : (هذه صلاة البيوت) (رواه أبو داود) وعن رافع بن خديج قال : أتانا النبي -صلى الله عليه وسلم- في بني عبد الأشهل فصلي بنا المغرب في مسجدنا ثم قال : (اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم) (رواه ابن ماجه) .

قال في فقه السنة ( بعد أن ساق بعض الأحاديث السابقة) : وفي هذه الأحاديث دليل على استحباب صلاة التطوع في البيت وأن صلاته فيه أفضل من صلاته في المسجد .

وقال القرطبي – عن تفسير الآية 87  من سورة يونس – : إلا أن النافلة في المنازل أفضل منها في المساجد حتى الركوع قبل الجمعة وبعدها وقبل الصلوات المفروضات وبعد .

إذا النوافل يحصل فيها الرياء ، والفرائض لا يحصل فيها ذلك ، وكلما خلص العمل من الرياء كان أوزن وأزلف عند الله سبحانه وتعالى .

روى مسلم عن عبد الله بن شقيق قال : سألت عائشة عن صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن تطوعه . قالت : كان يصلي في بيته قبل الظهر أربعًا ، ثم يخرج فيصلى بالناس ، ثم يدخل فيصلي ركعتين وكان يصلى بالناس المغرب ثم يدخل فيصلي ركعتين ، ثم يصلي بالناس العشاء ويدخل بيتي فيصلي ركعتين .

وعن ابن عمر قال : صليت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل الظهر سجدتين وبعدها سجدتين وبعد المغرب سجدتين فأما المغرب والعشاء والجمعة فصليت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيته .

قال صاحب إعلاء السنن : دل على الترغيب في صلاة النفل في البيت . وقد قيدناه بالنفل لقوله -صلى الله عليه وسلم- : (إلا المكتوبة) . والأمر للاستحباب ؛ لأن الإجازة وردت في التطوع في المسجد أيضًا كما يدل عليه الحديث . أي حديث أنس – رضي الله عنه – قال : دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسجد وحبل ممدود بين ساريتين فقال : ما هذا ؟ قالوا : زينب تصلي فإذا  أكسلت أو فترت أمسكت به . فقال : (حلوه ليُصَلِّ أحدكم نشاطه فإذا أكسل أو فتر رقد ) ويستثنى من هذا العموم تحية المسجد للأحاديث الواردة فيها .

قال العلامة صديق حسن خان في السراج الوهاج : قلت : الصواب أن المراد النافلة وجميع أحاديث الباب تقتضيه ، ولا يجوز حمله على الفريضة ، وإنما حث على النافلة في البيت لكونه أخفى ، وأبعد من الرياء ، وأصون من محبطات الأعمال ، وليتبرك البيت بذلك ، وتتنزل فيه الرحمة والملآئكة، وينفر منه الشيطان كما في الحديث الآخر هو معنى قوله : (فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرًا) .

وفي شرح السنة : قال القاسم بن محمد : إن صلاة النافلة تفضل في السر على العلانية كفضل الفريضة في الجماعة . ورأى أبو أمامة رجلاً في المسجد ، وهو ساجد يبكي في سجوده ، ويدعو ربه ، فقال أبو أمامة : أنت أنت لو كان ذلك في بيتك .

قال الخطابي : فيه دليل على أن الصلاة لا تجوز في المقابر ، ويحتمل : لا تجعلوا بيوتكم أوطانًا للنوم لا تصلون فيها ، فإن النوم أخو الموت .

قال في المرقاة شرح المشكاة : قال الطيبي : تتميم ومبالغة لإرادة الخفاء ، فإن الصلاة في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تعدل ألف صلاة في غيره من المساجد سوى المسجد الحرام ، وفيه إشعار بأن النوافل شرعت للتقرب إلى وجهه ، فينبغي أن تكون بعيدة عن الرياء ، والفرائض شرعت لإشادة الدين وإظهار شعائر الإسلام ، فهي جديرة بأن تؤدى في المسجد في الجماعة .

قال العيني في العمدة : (لا تتخذوها قبورًا) : لا تتخذوها خالية من الصلاة وتلاوة القرآن كالقبور ، حيث لا يصلى فيها ولا يقرأ فيه القرآن ، ويدل على هذا ما رواه الطبراني من حديث عبد الرحمن بن سابط عن أبيه يرفعه : (نوروا بيوتكم بذكر الله تعالى وأكثروا فيها تلاوة القرآن ولا تتخذوها قبورًا كما اتخذها اليهود والنصارى ، فإن البيت الذي يقرأ فيه القرآن يتسع على أهله ) .

قال صاحب المرقاة : والظاهر أن الكعبة والروضة الشريفة تستثنيان للغرباء ، لعدم حصولهما في موضع آخر ، فتغتنم فيهما قياسًا على ما قاله أئمتنا أن الطواف للغرباء أفضل من صلاة النافلة والله أعلم .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية : من اعتقد أن الصلاة في بيته أفضل من صلاة الجماعة في مساجد المسلمين فهو ضال مبتدع باتفاق  المسلمين ، فإن صلاة الجماعة إما فرض على الأعيان وأما فرض على الكفاية (انتهى) .

فهذا يعني ضرورة الحرص على الجماعة في المسجد خلف الإمام في الجماعة الأولى ، ويدل على تفضيل صلاة النافلة في البيت ، أما عدم بطلانها في غير البيوت فيدل عليه حديث حذيفة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى المغرب فما زال يصلي حتى صلى العشاء الآخرة (إسناده جيد) .

ويدل على ذلك أيضًا حديث زينب لما نصبت الحبل في المسجد ، وكذلك حديث عبد الله بن أنيس ، وكان بعيد الدار ، فسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يأمره بليلة ينزل فيها إلى المسجد فقال له : انزل ليلة ثلاث وعشرين ، ولم يقل له صلاتك في بيتك أفضل .

فينبغي على المسلم أن يحرص على الجماعة في المسجد في الفرائض ، وعلى النافلة في البيت ، سواء كانت الراتبة أو غير الراتبة ، إلا ما تشرع فيها الجماعة كما سبق بيانه .

فوائد أخرى في الحديث : قال ابن حجر : حَجَر النبي -صلى الله عليه وسلم- محله الذي يجلس فيه بحصير يستره عن الناس لما في الخلوة من الأسرار ما لا يوجد في الجلوة ، والقول بأن الاختلاط بالناس أفضل من اعتزالهم فيها ، ولا ضرورة بهم إلى المعتزل في وقت الاعتزال ، وإن اضطروا إليه أمكنهم سؤاله والفوز بمأربهم منه ، أو لتعليمهم إيثار الاعتزال في مثل العشر الأخيرة فذلك مما ينبغي أن لا يطرقه خلاف في أنه أفضل من المخالطة وهذا ظاهر لا غبار عليه .

ويؤخذ من الحديث : جواز اتخاذ الحجرة في المسجد من الحصير أو نحوه ، لكن يشترط كما هو ظاهر ألا يحجر على أكثر مما يسعه وإلا حَرُمَ ؛ لأن أخذه أكثر من ذلك فيه تضييق على المصلين ، وينبغي أن يزيله إذا كان ثم من يحتاج لذلك المحل ولو نادرًا .

أما لو علم بالعادة أن الناس وإن كثروا في المسجد لا يحتاجون لما أخذه فلا تتجه الحرمة حينئذ ( انتهى من الفتح ملخصًا)

وقال صاحب المرقاة بعد أن نقل كلام ابن حجر : وهو تفصيل حسن يدل على حرمة من يضيق على الناس في المسجد الحرام أيام الحج .

وفي الحديث: دلالة على وجوب الجماعة في الفرائض المكتوبات، لأنه -صلى الله عليه وسلم- واظب عليها ولم يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق.

والحديث بعد ذلك عظيم الفوائد جليل المنافع ، نسأل الله الهداية للعلم النافع والعمل الصالح .

والله من وراء القصد