الحمد لله … والصلاة والسلام على رسول الله … وبعد :
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تزداد القلوب المؤمنة شوقًا إلى زيارة بيت الله الحرام ، وتتعلق الأفئدة بهذه الرحلة المباركة .
وقد اختار الله سبحانه وتعالى مكة واصطفاها ، وجعلها خير وأشرف بلاد الأرض وأحبها إلى الله ، كما ثبت بذلك الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو في مكة : ( والله إنك لخير أرض الله ، وأحب أرض الله إلى الله ، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت ) .
وقد كتب علماء التاريخ والسير في أخبار مكة وفضلها شيئًا كثيرًا بين المخطوط والمطبوع ؛ فمن ذلك : كتاب ( أخبار مكة ) لأبي الوليد الأزرقي ( توفي نحو 250 هـ ) ، وكتاب ( أخبار مكة ) للفاكهي ( توفي نحو 275 هـ ) ، وكتاب ( العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين ) و(شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ( كلاهما لتقي الدين الفاسي (توفى 832هـ) ، وكتاب ( إتحاف الورى بأخبار أم القرى ) لعمر بن فهد المكي ( توفي 885) ، و ( غاية المرام بأخبار سلطنة البلد الحرام ) ، لعز الدين المكي ( توفي 922) ، و ( الجامع اللطيف في فضل مكة وأهلها وبناء البيت الشريف ) لابن ظهيرة المخزومي ( توفي 986 هـ) ، و( الإعلام بأعلام بيت الله الحرام ) لقطب الدين النهروالي ( توفي 988 هـ ) ، و ( منائح الكرام في أخبار مكة والبيت وولاة الحرام ) للسنجاري ( توفي 1125هـ ) ، و ( درر الفوائد المنظمة في أخبار الحاج وطريق مكة المعظمة ) لعبد القادر الأنصاري ، وكتاب ( الإيجاز في مناسك الحج وطريق الحجاز ) لرضوان رشوان ، ولقد ألف كتابه هذا سنة ( 1345 هـ ) ، وهي نفس السنة التي تأسست فيها جماعة أنصار السنة المحمدية .
وقد عرضت هذه الكتب وغيرها بين مكثر ومقل لأخبار مكة المكرمة ، فتحدث مؤلفوها عن الحجر الأسود : أصله وفضله ، وعن بناء بيت الله الحرام نشأة وتاريخًا ، وعن كسوة الكعبة على مر العصور وتتابع الدهور ، وعن مقام إبراهيم وما يتعلق به ، وعن زمزم وما لها من الفضل والمنزلة ، وأحكام مائها ، وتحدثوا – كذلك – عن الصفا والمروة ، والسعي بينهما ، وعلاقة ذلك بقصة إسماعيل ، عليه السلام ، وأمه هاجر ، رضي الله عنها .
وكتبوا عن : منى ومزدلفة وعرفات ، وذكروا المسافات بين مكة وهذه الأماكن ، ووصفوا أبواب الحرم وأساطينه ، وعدد هذا وهذا ، كما وصف بعضهم نماذج للرحلات البرية القديمة على ظهور الإبل ، وشرحها على وجه التفصيل والبيان ، ووصف المتأخرون منهم الرحلات البحرية القديمة بالباخرة .
وكان دافعهم جميعًا لتسجيل هذه الأخبار حبهم الشديد لبيت الله الحرام ومكة المكرمة والمشاعر المقدسة .
وقد أردنا أن يقف قراء مجلتنا الحبيبة على جانب من هذه الأخبار ، وأن يتعرفوا على فضائل مكة المكرمة ، وبيت الله الحرام ليعرفوا ما شرف الله به هذه الأمة ، وخصها به من الفضل والكرامة ؛ فنقول مستعينين بالله :
مكة المكرمة : سماها الله سبحانه وتعالى في القرآن : مكة ، وبكة ، وأُم القرى ، والقرية ، والبلد الأمين ، والبلدة .
وقد اختلف العلماء في تسميتها مكة على أقوال منها :
سميت بذلك لقلة مائها .
أو لأنها تمكَّ المخ من العظم ما ينال قاصدها من المشقة ؛ من قولهم : مككت العظم إذا أخرجت ما فيه ، ومكَّ الفصيل ضرع أمه إذا امتص كل ما فيه من اللبن وشربه .
أو لأنها تمكَّ من ظلم فيها ؛ أي تهلكه وتنقصه .
أو لأن الناس كانوا يمكون فيها ويضحكون ؛ من قوله : ( وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ) [ الأنفال : 35] ، أي تصفيقًا وتصفيرًا ، وهذا ضعيف من جهة اللغة والتصريف.
وأما تسميتها (بكة) بالباء ، فقد اختلف العلماء كذلك في بيانها على أقوال :
منها : أن بكة موضع بيت الله الحرام ، ومكة سائر البلد ؛ لقوله تعالى : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ) [ آل عمران : 96] .
ومنها أن : بكة المسجد ، ومكة الحرم كله وتدخل فيه البيوت .
وقال بعضهم : بكة هي مكة ، والميم مبدلة من الباء في لغة العرب .
ومعنى بكة عند قوم : مشتقة من البك ؛ وهو الازدحام ، وذلك لازدحام الناس في الطواف .
وقال بعضهم : البك : دقّ العنق ، وذلك لأنها كانت تدق رقاب الجبابرة إذا ألحدوا فيها بظلم ؛ قال عبد الله بن الزبير ، رضي الله عنه : لم يقصدها جبار قط بسوء إلا وقصه الله عز وجل .
وأمّا عن فضائل مكة وخصائصها ، فقد ذكر العلماء لها جملة من الخصائص والفضائل التي شرفها الله بها ، ولم يجعل شيئًا منها لبلد سواها :
1 – فمن ذلك : أن المسجد الحرام بها ؛ وهو أول مسجد وضع في الأرض ؛ كما في الصحيحين عن أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض ؟ فقال : ( المسجد الحرام ) . قلت : ثم أي ؟ قال : ( المسجد الأقصى ) . قلت : كم بينهما ؟ قال : ( أربعون عامًا ) .
2 – ومن فضائلها : أن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة ، كما ثبت في الحديث الصحيح ؛ وهذا يدل دلالة قاطعة على أن المسجد الحرام أفضل بقاع الأرض على الإطلاق .
3 – ومن فضائلها : أن الله قد اختار أفضل الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين منها ، واختارها لنزول أفضل كتبه ، وهو القرآن الكريم ؛ ففيها بدء نزول الوحي .
4 – ومن خصائص البلد الحرام أن الله جعله مناسك لعباده ، وأوجب على كل قادر من المسلمين الإتيان إليه من قريب ومن كل فج عميق ، فلا يدخلونه إلا خاشعين خاضعين كاشفي رءوسهم متجردين من لباس وزينة أهل الدنيا .
5 – ومن فضائل البلد الأمين : أن الله قد جعله حرمًا آمنًا ، لا يسفك فيه دم ، ولا تعضد به شجرة ، ولا ينفر له صيد ، ولا يقطع نباته الرطب ، ولا تلتقط لقطته للتمليك ، بل للتعريف أبدًا غير مقيد بزمن كلقطة غيره .
6 – ومن فضائلها : أن الحج إليه وسيلة لحط الخطايا ، ومحو السيئات ؛ كما ثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ) .
أي بغير ذنوب ولا سيئات ، وفي الصحيحين أيضًا من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ، والحج المبرور ليس له جزاءً إلا الجنة ) .
7 – ومن فضائل البلد الأمين : أن الله عز وجل قد أقسم به في موضعين من القرآن الكريم ؛ فقال : ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ) [ التين : 1 – 3] ، وقال أيضًا : ( لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ) [ البلد : 1 ، 2] .
8 – ومن خصائص مكة : أنه لا يوجد على وجه الأرض موضع يشرع تقبيله واستلامه غير الحجر الأسود .
9 – ومن فضائل مكة أن الله قد جعلها قبلة لأهل الأرض كلهم ، فليس على وجه الأرض قبلة غيرها ، وكل مصل وقائم وراكع وساجد يجب عليه أن يتوجه إليها في صلاته ، وإلا بطلت صلاته إذا توجه عاقدًا إلى غيرها مع قدرته على التوجه إليها .
10 – ومن خصائصها : أنه يحرم استقبالها واستدبارها عند قضاء الحاجة دون سائر بقاع الأرض تشريفًا لها .
11 – وقد سماها الله عز وجل أم القرى ؛ فالقرى كلها لها تبع كما سميت الفاتحة أم القرآن إظهارًا لمنزلتها وعظيم قدرها .
12 – ومن خصائص البلد الحرام أنه يعاقب فيه على الهم بالسيئات وإن لم يفعلها ، قال تعالى: ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) [ الحج : 25] .
13 – وعلى هذا تكون الحسنة في الحرم مضاعفة ، والسيئة كذلك مضاعفة ؛ وقد ذكر ابن القيم ، رحمه الله ، أن السيئة في حرم الله وبلده أعظم جرمًا من مثلها في أي موضع آخر من الأرض .
14 – ومن أعظم ما يختص به البلد الحرام أن القلوب تهوى إليه ، والأفئدة تميل إليه ؛ فجذبه للقلوب أعظم من جذب المغناطيس للحديد ، فكم أنفق في حب مكة من الأموال والأرواح ، ورضي المسافر لها شوقًا مفارقة الأهل والأحباب والأوطان ، وتحمل في سفره صنوفًا من العذاب والمشقة والهوان ، والسر في ذلك أن جعل بيته الحرام مثابة للناس ؛ أي : يثوبون إليه على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار ، ولا يقضون منه وطرًا ، بل كلما سافروا إليه ازدادوا شوقًا ومحبة إليه .
وسوف نلتقي إن شاء الله في العدد القادم لنكمل الحديث عن الكعبة والمشاعر المقدسة .
فنسأل الله أن يرزقنا حجًا لبيته ، وصلاة في حرمه ، وطوافًا بكعبته ، وأن يجعل ذلك خالصًا لوجهه ، وذخرًا لنا يوم العرض والحساب ، إنه سميع مجيب .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .