الحمد لله رب العالمين حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:
عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر».
هذا الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الصيام «باب استحباب صوم ستة أيام من شوال اتباعًا لرمضان» برقم (2758)، (2759)، (2760)، كما أخرجه الإمام أبو داود برقم (2433)، والإمام الترمذي برقم (759)، والإمام ابن ماجه برقم (1716)، والإمام الدارمي برقم (1754)، والإمام أحمد في المسند بالأرقام (3/308، 324، 344، 5/417، 419).
راوي الحديث:
هو أبو أيوب الأنصاري الخزرجي البخاري البدري، السيد الكبير الذي خصه النبي صلى الله عليه وسلم بالنزول عليه في بني النجار إلى بنيت له حجرة أم المؤمنين سودة، وبني المسجد الشريف.
واسمه: خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة بن عمرو بن عوف بن غنم بن مالك بن النجار من ثعلبة بن الخزرج، حدث عنه جماعة من الصحابة وجماعة من التابعين، منهم: جابر بن سمرة، والبراء بن عازب، والمقدام بن معديكرب، وعبد الله بن يزيد الخطمي، وجبير بن نفير، وسعيد بن المسيب، وموسى بن طلحة، وعروة بن الزبير، وعطاء بن يزيد الليثي وغيرهم.
قال الذهبي: وله عدة أحاديث، ففي «مسند بقي» له مائة وخمسة وخمسون حديثًا اتفق الشيخان على سبعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بخمسة.
وقال أيضًا في سيرة ابن عباس: أنه كان أميرًا على البصرة لعلي، وأن أبا أيوب وفد عليه، فبالغ في إكرامه، وقال: لأجزينك على إنزالك النبي صلى الله عليه وسلم عندك، فوصله بكل ما في المنزل، فبلغ ذلك أربعين ألفًا.
وقد روي عن غير وجه عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه كان محبًا للغزو في سبيل الله، وأنه مرض وهو في جيش، وكان على الجيش يزيد بن معاوية، فقال له يزيد: حاجتك؟ قال: نعم، إذا أنا مِت فاركب بي، ثم تبيغ بي في أرض العدو ما وجدت مساغًا، فإذا لم تجد مساغًا فادفني ثم ارجع، فلما مات ركب به، ثم سار به ثم دفنه، وكان يقول: قال الله تعالى: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً}، ولا أجدني إلا خفيفًا أو ثقيلاً.
وكان رضي الله عنه يقول: ادفنوني تحت أقدامكم، سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: «من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة». مات سنة اثنتين وخمسين وقيل سنة خمسين.
شرح الحديث:
قال الإمام النووي بعد أن ساق الحديث في شرحه على صحيح مسلم: فيه دلالة صريحة لمذهب الشافعي وأحمد وداود وموافقتهم في استحباب صوم هذه الستة، وقال مالك وأبو حنيفة: يكره ذلك، قال مالك في الموطأ: ما رأيت أحدًا من أهل العلم والفقه يصومها، قال: ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف، وإن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء لو رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم ورأوهم يعملون بذلك الناس أو أكثرهم أو كلهم لها، وقولهم: قد يظن وجوبها ينتقض بصوم عرفة وعاشوراء، وغيرهما من الصوم المندوب، قال أصحابنا: والأفضل أن تصام الستة متوالية عقب يوم الفطر، فإن فرقها أو أخرها عن أوائل شوال إلى أواخر حصلت فضيلة المتابعة، لأنه يَصْدُقُ أنه أتبعه ستًا من شوال، يرى الإمام أحمد أنه لا فضل لأول شوال على آخره بل كلها سواء، فرقها أو تتابعت، كانت في أول الشهر أم في آخره.
قال ابن عبد البر في الاستذكار: وحديث ثوبان يعضد حديث عمر بن ثابت هذا- وهو الراوي عن أبي أيوب حديثنا هذا- وثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم حدث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من صام رمضان وستة أيام بعد الفطر كان تمام السنة، من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها». رواه ابن ماجه والدارمي وأحمد والبزار والنسائي في الكبرى.
قال أبو عمر: لم يبلغ مالكًا حديث أبي أيوب- على أنه حديث مدني- والإحاطة بعلم الخاصة لا سبيل إليه، والذي كرهه له مالك أمر قد بينه وأوضحه، وذلك خشية أن يضاف إلى رمضان وأن يستبين ذلك إلى العامة، وكان رحمه الله متحفظًا كثير الاحتياظ للدين.
ثم قال رحمه الله: وأما صيام الستة الأيام من شوال على طلب الفضل وعلى التأويل الذي جاء به وثبان رضي الله عنه، فإن مالكًا لا يكره ذلك إن شاء الله، لأن الصوم جُنَّةٌ وفضله معلوم لمن رد طعامه وشرابه وشهوته لله تعالى، وهو عمر بر وخير، وقد قال الله تعالى: {وَافْعَلُوا الخَيْرَ} [الحج: 77]، ومالك لا يجهل شيئًا هذا، ولم يكره عن ذلك إلا ما خافه على أهل الجهالة والجفاء إذا استمر ذلك، وخشي أن يعدوه من فرائض الصيام مضافًا إلى رمضان، إلى أن قال: وقد يمكن أن يكون جهل الحديث ولو علمه لقال به، والله أعلم.
قال الإمام الترمذي بعد أن ساق حديث أبي أيوب: حديث أبي أيوب حديث حسن صحيح، وقد استحب قوم صيام ستة أيام من شوال بهذا الحديث، وقال ابن المبارك وهو من مثل صيام ثلاثة أيام من كل شهر، قال ابن المبارك: ويروى في بعض الحديث: ويلحق هذا الصيام برمضان، واختار ابن المبارك أن يكون ستة أيام في أول الشهر، وقد روي عن ابن المبارك أنه قال: إن صام ستة أيام من شوال متفرقًا فهو جائز.
قال ابن قدامة في المغني: فإن قيل: فلا دليل في هذا الحديث في فضليتها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم شبه صيامها بصيام الدهر، وهو مكروه، قلنا: إنما كره صوم الدهر لما فيه من الضعف واللتشبيه بالتبتل، ولولا ذلك لكان فضلاً عظيمًا، لاستغراقه الزمان بالطاعة والعبادة، والمراد بالخبر التشبيه به في حصول العبادة به على وجه عَري عن المشقة، كما قال عليه السلام: «من صام ثلاثة أيام من كل شهر كان كمن صام الدهر». ذكر ذلك حثًا على صيامها وبيان فضلها، ولا خلاف في استحبابها، ثم قال: ولأن فضيلتها لكونها تصير مع الشهر ستة وثلاثين يومًا، والحسنة بعشر أمثالها، فيكون ذلك كثلاثمائة وستين يومًا وهي السنة كلها، فإذا وجد ذلك في كل سنة صار كصيام الدهر كله.
وأما صيام الدهر فقد ورد فيه حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما المتفق عليه: «لا صام من صام الأبد» قال في سبل السلام: اختلف في معناه، قال شارح المصابيح: فُسِّرَ هذا من وجهين؛ أحدهما أنه على معنى الدعاء عليه زجرًا له عن صنيعه، والآخر على سبيل الإخبار، والمعنى: أنه بمكابدته سورة الجوع وحر الظمأ لاعتياده الصوم حتى خف عليه، ولم يفتقر إلى الصبر على الجهد الذي يتعلق به الثواب فكأنه لم يصم، ولم تحصل له فضيلة الصوم، ويؤيد أنه للإخبار حديث أبي قتادة عند مسلم بلفظ: «لا صام ولا فطر». ويؤيده أيضًا حديث الترمذي عنه: «لم يصم ولم يفطر». قال ابن العربي: إن كان دعءا فياويح من دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان معناه الخبر فياويح من أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يصم، وإذا كان لم يصم شعرًا فكيف يكتب له ثواب؟
ثم قال صاحب سبل السلام: وقد اختلف العلماء في صيام الأبد- أي الدهر- فقال بتحريمه طائفة وهو اختيار ابن خزيمة مستدلين بهذا الحديث وما في معناه، وذهبت طائفة أخرى إلى جوازه، وهو اختيار ابن المنذر وتأولوا أحاديث النهي عن صيام الدهر بأن المراد من صامه مع صيام الأيام المنهي عنها من العيدين وأيام التشريق، وهو تأويل مردود بنهيه لابن عمرو عن صوم الدهر وتعليله بأن لنفسه عليه حقًا ولأهله حقا ولضيفه حقا. ولقوله صلى الله عليه وسلم: «أما أنا فأصوم وأفطر، فمن رغب عن سنتي فليس مني». فالتحريم هو الأوجه دليلاً.
فائدة لغوية: قال النووي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: «ستًا من شوال» صحيح، ولو قال ستة بالهاء لجاز أيضًا، قال أهل اللغة: يقال صمنا خمسا وستا وخمسة وتسة، وإنما يلتزمون الهاء ف يالمذكَّر إذا ذكرُوه صريحًا بلفظه؛ فيقولون: صمنا ستة أيام، ولا يجوز ست أيام، فإذا حذفوا الأيام جاز الوجهان، ومما جاء حذف الهاء فيه من المذكر إذا لم يذْكر بلفظه قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} أي عشرة أيام.
صيام الستة من شوال لمن عليه قضاء من رمضان:
من كان عليه قضاء أيام من رمضان فليقضها أولاً قبل أن يصوم الستة من شوال، وذلك لمن وجد عنده المقدرة على ذلك؛ لأن لفظ الحديث: «من صام رمضان، ثم أبتعه ستًا من شوال»، فالذي عليه قضاء أيام من رمضان لم يصم رمضان، فعليه أولاً قضاء فرض رمضان ثم بعد ذلك يصوم الست من شوال، ذهب إلى ذلك الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى، وكذلك من خاف ألا يستطيع قضاء رمضان طوال العام إذا صام الستة من شوال تعين عليه القضاء في شوال.
أما إذا كان شوال لا يتسع ليقضي فيه ما عليه من أيام من رمضان مع صيام الستة وهو يرجو تفريق القضاء وبعد ذلك على أيام العام فغنه يجوز له صوم الستة من شوال وتأخير القضاء إلى ما بعد ذلك، لأن وقت الستة من شوال محصور في شوال، وأما وقت القضاء فموسع في أيام العام كلها لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، ولأن عائشة رضي الله عنها أخبرت عن نفسها أنها كان يكون عليها الأيام من رمضان فلا تقضيها إلا في شعبان، وليس من المعقول أنها كانت تترك صوم النوافل مع تأخيرها القضاء إلى شعبان، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان عليَّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان الشُّغْلُ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أو برسول الله صلى الله عليه وسلم». أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، وأخرجه أيضًا عنها أنها قالت: «إن كانت إحدانا لتفطر في زمان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فما تقدم على أن تقضيه مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى يأتي شعبان».
قال النووي رحمه الله: ومذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وجماهير السلف والخلف أن قضاء رمضان في حق من أفطر بعذر كحيض وسفر يجب على التراخي ولا يشترط المبادرة به في أول الإمكان لكن قالوا لا يجوز تأخيره عن شعبان الآتي. وقال داود: تجب المبادرة به في أول يوم العيد من شوال وحديث عائشة يرد عليه. قال الجمهور: ويستحب المبادرة به للاحتياط.
نسأل الله تعالى أن يعيننا على الصيام والقيام، وأن يتقبل صالح الأعمال، وأن يجعلها خالصة له وعلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والحمد لله رب العالمين.