الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خاتم النبيين وإمام المرسلين والمبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بئس ما لأحدكم أن يقول: نسيت آية كيت وكيت، بل نُسِّي، واستذكروا القرآن فإنه أشد تفصيًا من صدور الرجال من النَّعَم».
الحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب فضائل القرآن باب استذكار القرآن وتعاهده برقم (5032)، وطرفه في باب نسيان القرآن برقم (5039). وأخرج قريبًا منه عن أبي موسى الأشعري وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم، كما أخرج الحديث الإمام مسلم في صحيحه في كتاب صلاة المسافرين باب الأمر بتعهد القرآن برقم (790)، وكذلك أخرج قريبًا منه في الباب نفسه عن ابن عمر رضي الله عنهما وعن أبي موسى رضي الله عنه، وأخرج الترمذي في أبواب القراءات باب «فاستذكروا القرآن» برقم (2942)، وأخرج النسائي في كتاب الافتتاح باب جامع ما جاء في القرآن برقم (944)، كما أخرجه الدارمي في كتاب الرقاق وفي فضائل الأعمال، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/382، 417، 423، 439، 463).
راوي الحديث:
هو عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب بن شمْخ بن فار بن مخزوم، الإمام الحَبْر، فقيه الأمة أبو عبد الرحمن الهذلي المكي المهاجري البدري حليف بني زهرة، كان من السابقين الأولين، ومن النجباء العالمين، شهد بدرًا، وهاجر الهجرتين، وكان يوم اليرموك على النفل، ومناقبه غزيرة، روى علمًا كثيرًا، وهو من القراء المشهورين من الصحابة والذين زكاهم النبي صلى الله عليه وسلم وزكى قراءتهم، حدث عبد الله عن نفسه فقال: والذي لا إله غيره لقد قرأت من في رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بضعًا وسبعين سورة، ولو أعلم أحدًا أعلم بكتاب الله مني تبلغنيه الإبل لآتيته.
وفي لفظ البخاري (5002) قال رضي الله عنه: والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية إلا أنا أعلم فيمن أنزلت، ولو أعلم أحدًا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركتب إليه. ويكفيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يقرأ القرآن غضًا كما أُنزل فليسمعه من ابن مسعود».
وهو مع عنايته رضي الله عنه بالقرآن فهو مشهور بالإكثار من رواية الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كما اشتهر بالعفة، ولقد كانت ساقا ابن مسعود دقيقتين مجموتين، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ابن مسعود، فصعد شجرة يأتيه منها بشيء، فنظر أصحابه إلى ساق عبد الله فضحكوا من حموشة ساقيه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «ما تضحكون؟ لَرِجلُ عبيد الله أثقل في الميزان يوم القيامة من أحد».
شرح الحديث:
هذا الحديث أورده الإمام البخاري في باب «استذكار القرآن وتعاهده» ضمن ثلاثة أحاديث، أما أولها فهو حديث ابن عمر رضي الله عنهما ولفظه: «إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المُعَقُّلَة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت». وهو من رواية عبد الله بن يوسف شيخ البخاري عن مالك عن نافع عن ابن عمر، وفيه تشبيه حامل القرآن الذي حفظه وألف تلاوته سواء كانت نظرًا من المصحف أم كانت عن ظهر قلب- تشبيه هذا بصاحب الإبل المعقلة أي مع إبله، والمعقلة المشدودة بالعقال وهو الحبل الذي يُشد في ركبة البعير، شبه استذكار القرآن ومداومة تلاوته بربط البعير الذي يخشى منه الهرب، فالحفظ يبقى موجودًا مادام التعاهد موجودًا، كما أن البعير يبقى محفوظًا ما دام مشدودًا بالعقال.
قال الحافظ في الفتح: وخص الإبل بالذكر لأنها أشد الحيوان الإنسي نفورًا، وفي إمساكها بعد كمال نفورها صعوبة.
وقوله في هذا الحديث: «وإن أطلقها ذهبت» أي: انفلتت، وفي رواية عبيد الله بن عمر عن نافع عند مسلم: «إن تعاهدها صاحبها فعقلها أمسكها وإن أطلق عقلها ذهبت». وفي رواية موسى بن عقبة عن نافع عند مسلم أيضًا: «إذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره، وإذا لم يقم به نسيه».
الحديث الثاني هو حديثنا هذا؛ حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
قوله: «بئس ما لأحدهم أن يقول»: بئس فعل يفيد الذم وهو فعل جامد غير متصرف مثل نِعْمَ التي للمدح، وهما فعلان يرفعان الفاعل ظاهرًا مثل: نعم الرجلُ محمدٌ، أو مضمرًا، فإن كان مضمرًا فلابد من ذكر اسم نكرة ينصب مفسرًا للضمير مثل: نعم رجلاً محمدٌ، وقد يكون هذا التفسير «ما» كما في هذا الحديث، وقوله تعالى: «فنعما هي».
قوله: «نَسِيتُ» قال الحافظ: بفتح النون وتخفيف السين اتفاقًا.
قوله: «آية كيت وكيت». قال القرطبي: كيت وكيت يعبر بهما عن الجمل الكثيرة والحديث الطويل، وجاء في المعجم الوسيط: وتكسر التاء كِيْتَ أي كذا وكذا، وهي كناية عن القصة والأحدوثة ولا تستعمل إلا مكررة.
قوله: «بل هو نُسِّي» نقل الحافظ ابن حجر قول القرطبي: رواه بعض رواة مسلم مخففًا، ثم قال: وكذا هو في مسند أبي يعلى، وكذا أخرجه ابن أبي داود في كتاب «الشريعة»، ونقل عن القاضي عياض قوله: كان اللكناني- يعني أبا الوليد الوقشبى- ولا يجيز في هذا غير التخفيف، ثم قال الحافظ: قلت: والتقيل هو الذي وقع في جميع الروايات في البخاري، وكذا في أكثر الروايات في غيره، ثم نقل عن القرطبي قوله: التثقيل معناه أنه عوقب بوقوع النسيان عليه لتفريطه في معاهدته واستذكاره، ومعنى التخفيف أن الرجل ترك غير ملتفت إليه وهو كقوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ}.
قال الحافظ في الفتح: واختلف في متعلق الذم من قوله: «بئس» على أوجه: الأول هو على نسبة الإنسان إلى نفسه وهو لا صنع له فيه، فإذا نسبه إلى نفسه أوهم أنه انفرد بفعله، فكان ينبغي أن يقول أُنسيت أو نُسِّيتُ على البناء للمجهول فيها، أي أن الله هو الذي أنساني كما في قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}، وقوله تعالى: {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}، وبهذا الوجه جزم ابن بطال فقال: أراد أن يجري على لسان العباد نسبة الأفعال إلى خالقها لما في ذلك من الإقرار له بالعبودية والاستسلام لقدرته وذلك أولى من نسبة الأفعال إلى مكتسبها مع أن نسبتها إلى مكتسبها جائز بدليل الكتاب والسنة، وقد أضاف غلام موسى عليه السلام النسيان إلى نفسه مرة وإلى اشليطان مرة، فقال: {إِنِّي نَسِيتُ الحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ}، ولكل إضافة منها معنى صحيح، فالإضافة إلى الله بمعنى أنه خالق الأفعال كلها، وإلى النفس لأن الإنسان هو المكتسب لها، وإلى الشيطان بمعنى الوسوسة.
الوجه الثاني: كالأول، لكن سبب الذم ما فيه من الإشعار بعدم الاعتناء بالقرآن، إذ لا يقع النسيان إلا بترك التعاهد وكثرة الغفلة، فلو تعاهده بالتلاوة والقيام به في الصلاة لدام حفظه وتذكره، فإذا قال الإنسان نسيت الآية الفلانية فكأنه شهد على نفسه بالتفريط فيكون متعلق الذم ترك الاستذكار والتعاهد لأنه الذي يورث النسيان، وقد رجح هذا الوجه القرطبي.
الوجه الثالث: قال الإسماعيلي: يحتمل أن يكون كره له أن يقول نسيت بمعنى تكرت لا بمعنى السهو العارض كما قال تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ}، وهذا اختيار أبي عبيد وطائفة.
الوجه الرابع: قال الإسماعيلي أيضًا: يحتمل أن يكون فاعل نسيت هو النبي صلى الله عليه وسلم، كأنه قال: لا يقل أحد عني إني نسيت آية كذا، فإن الله هو الذي نساني ذلك لحكمة نسخه ورفع تلاوته وليس لي في ذلك صنع بل الله هو الذي ينسيني لما تنسخ تلاوته.
الوجه الخامس: قال الخطابي: يحتمل أن يكون ذلك خاصًا بزمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من ضرورة النسخ نسيان الشيء الذي ينزل ثم ينسخ منه بعد نزوله الشيء فيذهب رسمه وترفع تلاوته ويسقط حفظه عن حملته، فيقول القائل نسيت آية كذا، فنهوا عن ذلك لئلا يتوهم على محكم القرآن الضياع وأعلمهم أن الذي يكون من ذلك إنما هو بإذن الله لما رآه من الحكمة والمصلحة.
الوجه السادس: قال الإسماعيلي: وفيه وجه آخر وهو أن النسيان الذي هو خلاف الذكر إضافته إلى صاحبه مجاز لأنه عارض له لاعن قصد منه، لأنه لو قصد نسيان الشيء لكان ذاكرًا له حال قصده، قال الحافظ وهو كالوجه الأول.
ثم قال رحمه الله تعالى: وأرجح الأوجه هو الوجه الثاني، ويؤيده عطف الأمر باستذكار القرآن عليه.
وقال القاضي عياض: أولى ما يتأول عليه ذم الحال لاذم القول؛ أي بئس الحال حال من حفظه ثم غفل عنه حتى نسيه، وقال النووي الكراهة فيه للتنزيه.
قوله صلى الله عليه وسلم: «واستذكروا القرآن». أي: واظبوا على تلاوته وداوموا على قراءته واطلبوا من أنفسكم المذاكرة به. قال الطيبي: هو عطف من حيث المعنى على قوله: «بئس ما لأحدكم» أي: لا تقصروا في معاهدته واستذكروه.
قوله: «فإنه أشد تفصِّيًا» أي: تفلُّتًا وتَخلُّصًا، تقول: تفصيت كذا، أي: أحطت بتفاصيله.
ووقع في حديث عقبة بن عامر بلفظ: «تفلتًا» وكذا وقعت عند مسلم في حديث أبي موسى ثالث أحاديث الباب، وتفصيًا: منصوب على التمييز، قال الحافظ: وفي هذا الحديث زيادة على حديث ابن عمر، لأن في حديث ابن عمر تشبيه أحد الأمرين بالآخر، وفي الحديث أن القرآن أبلغ في النفور من الإبل، ولذا أفصح به في الحديث الثالث حيث قال: «لهو أشد تفصيا من الإبل في عقلها»؛ لأن من شأن الإبل محاولة التفلت ما أمكنها، فمتى لم يتعاهدها برباطها تفلتت، فكذلك حافظة القرآن إن لم يتعاهده إن لم يتعاهده تفلت، بل هو أشد في ذلك. وقال ابن بطال: هذا الحديث يوافق الآيتين؛ قوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلاً}، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ}، فمن أقبل عليه بالمحافظة والتعاهد يسر له، ومن أعرض عنه ثقل عليه وتفلت منه.
وقوله: «من النَّعَمِ» أي: الأنعام وهو بفتح النون المشددة، والأنعام هي الإبل والبقر والغنم، وأما «النِّعم» بكسر النون فهي جمع نعمة، وليست مرادة هنا، وأشد الأنعام تفلتًا هي الإبل، ولذلك جاء مصرحًا بها في حديث ابن عمر، وفي حديث أبي موسى.
وأما الحديث الثالث فهو حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وهو من رواية ابنه أبي بردة عنه ويرويه عن أبي بردة حفيده بريد بن عبد الله بن أبي بردة، فشيخ بُرَيْدٍ في هذا الحديث هو جده أبو بردة، وفي هذا من اعتناء الصحابة بتعليم أولادهم العلم وغرسه فيهم وتربيتهم عليه، وحثهم على أن يورثوه أبناءهم فيأخذ اللاحق عن السابق من أهل البيت الواحد، فأين نحن من هذا الحرص على ميراث النبوة والعناية به، والأخذ بحظ وافر منه؟
وقوله صلى الله عليه وسلم: «تعاهدوا القرآن» فيه الأمر بتعاهد القرآن ومداومة استذكاره، وقد سبق هذا المعنى في حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
وقد جاء في هذا الحديث: «فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصيًا من الإبل». وهذا قَسَمٌ من النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الأمر، ونلاحظ تأكيد الكلام بالقسم ولام الابتداء واسمية الجملة، كل ذلك من مؤكدات الكلام دليل على الاهتمام بالأمر وعدم التهاون به.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «في عُقُلها» بضم العين والقاف، ويجوز سكون القاف جمع عِقال بكسر العين وهو الحبل، قال القرطبي: والحاصل تشبيه من يتفلت منه القرآن بالناقة التي تفلتت من عقالها وبقيت متعلقة به. قال ابن حجر عقب هذا: كذا قال، والتحرير أن التشبيه وقع بين ثلاثة بثلاثة: فحامل القرآن شبه بصاحب الناقة، والقرآن بالناقة، والحفظ بالربط.
ومن فوائد هذه الأحاديث: كراهة قول القائل: نسيت آية كذا. قال النووي: وهي كراهة تنزيه، وتكرر تلاوته، وفي هذا التحذير من هجر القرآن الكريم فإنه يؤدي إلى الجهل به، فإذا جهله المسلمون ساغ لأعدائهم أن يطعنوهم في كتاب ربهم الذي هو مصدر دينهم وأصل التلقي عن خالقهم، وقد اشتدت هجمة أعداء الله تعالى وأعداء دينه (الإسلام) على المسلمين؛ فمحاولات التشكيك وصلت إلى القرآن الكريم (في مواقع الشبكة العالمية) زاعمين أن القرآن فيه أخطاء لغوية، أو تناقض آياته بعضها بعضًا، والمسلمون لم يؤتوا إلا من قبل جهلهم بدينهم وخاصة جهلهم بالقرآن الكريم، وأما الأعداء فسيبوءون بالخسران المبين، إذ أن قريشًا في عداوتها للإسلام التي لا تعد لها عداوة، وفصاحتها الللغوية التي لا تعد لها فصاحة بشرية على مر التاريخ، وكانت تتمنى لو وجدت مغمرًا أو نقصًا أو تناقضًا تنقض به دين محمد وكتاب محمد لكنها عجزت وأظهرت صغارها أمام الكتاب المعجز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بل هو تنزيل من حكيم حميد، أقول: قريش عجزت عن ذلك ولم تستطعه، فهل يليق بأعجمي فضلاً عن عربي أن يصل إلى ما عجزت عنه قريش في هذا الشأن، إن هذا لشأو بعيد المنال.
ومع ذلك فالواجب على الأمة أن يحفظ أفرادها كتاب الله تعالى صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم، حتى لا يكونوا فريسة للأعداء.
ومنها: ضرب الأمثال لإيضاح المقاصد، ومنها جواز القسم عند الخبر المقطوع بصدقه مبالغة في تثبيته في صدور سامعيه، ومنها جواز القياس ومشروعيته بأن يقاس النظير على نظيره.
نسأل الله أن يجعلنا من أهل القرآن العاملين به في الدنيا، القائمين به، وأن يوفقنا لأن نتلوه حق تلاوته، وأن نكون ممن اصطفاهم الله تعالى فأورثهم كتابه نحيا عليه ونموت عليه ونبعث عليه فيكون شفيعًا لنا يسوقنا إلى الجنة.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.