الحمد لله وحده الهادي لكل خير ، والصلاة والسلام على محمد نبيه ورسوله وعبده وبعد :
فالله سبحانه يقول في كتابه الكريم : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) [البقرة : 30] .
أحيانًا يصيب الغرور إنسانًا فيظن أنه من أوتاد الأرض التي لو زالت لاهتزت الأرض ، أو فقدت توازنها ، وأن الكون في حاجة إليه ، ولا شك أنه إن كان من الصالحين فلقد مضى على الأرض من أمثاله ومن خير منه العدد الكبير ، وإن كان من أهل الطغيان والجبروت ، فلقد مضى من نظائره الكثير مما هو أشد قوة وأكثر جمعًا : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) [ الروم : 9] .
وإن أفضل ما يُهدى لذلك المغرور هو ما يطفئ ذلك الغرور ، وفي الآية الكريمة من قول الملائكة : ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ ) [ البقرة :30] ، ما يطفئ ذلك الغرور، فالأرض لم يوجد عليها من البشر أحد بعد ، ومع ذلك فالملائكة يقولون : الأرض مستغنية عن ذلك المخلوق ، ويعللون ذلك بعلتين :
الأولى : أن وجوده مصدر ضرر ، حيث إنه يفسد فيها ، ويسفك الدماء – ومعلوم قطعًا أن المقصود بذلك ليس هو آدم ، إنما المقصود أن من ذريته من يفعل ذلك – أما آدم فلم يفسد في الأرض ، لأنه نبي معصوم ، كان ذا علم وحلم وفضل ، فله فضل النبوة ، وله على سائر الخلق فضل الأبوة ، فما من بشر إلا وهو له ولد ومنه فرع ، والولد الصالح يدعو لأبيه .
الثانية : أن الوظيفة التي من أجلها خلقوا ليست شاغرة ، فيقولون : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) أي : نقوم بتلك الوظيفة التي خلقوا من أجلها : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56)مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ(57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) [ الذاريات : 56 – 58] .
إذًا فليشعر الإنسان أنه مزهود في وجوده قبل خلقه ، ويوضح ذلك جيدًا أن كل ما في الكون مستغن عنه ، حتى الولد والزوجة وغير ذلك من نبات وحيوان ، أما الولد فالله تعالى يقول : ( وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) [ الأنعام : 151] ، وقال : ( وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ) [ الإسراء : 31] ، وكذلك الزوجات والأزواج ، كل يغنيه الله بفضله عن الآخر : (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ) [ النساء : 130] .
أما الأرض ونباتها ، فالله سبحانه يقول : ( أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ(63)ءَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ) [ الواقعة : 63 ، 64] .
أخي المسلم : انظر بتأمل وتدبر في نشأت إسماعيل – عليه السلام – وحياته مع أمه كيف تكفل الله بها مستجيبًا لدعوة الخليل إبراهيم – عليه السلام – 🙁 رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ) [ إبراهيم : 37] ، والله يمتن على أهل مكة البلد التي نشأ فيها إسماعيل – عليه السلام – وهي بلد لا زرع فيها ، ولكنه الله : ( الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَءَامَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ) [قريش : 4] .
والله رزق مريم في ضعفها من النخلة على صلابة جزعها : (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا(24)وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا(25)فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا) [ مريم : 24 – 26] .
ويبقى السؤال: فمن إذًا الحريص على وجود العبد وحياته إذا كان كل من حوله مستغن عنه؟
والجواب : أن الحريص على حياة العبد وسلامته هو العبد نفسه ، فهو الذي يفر من الموت ، بل ويفر مما هو دون الموت ، ويحرص على الحياة وأسبابها ، ويكره الموت وأسبابه ، ويحب الحياة ويجتهد في جمع أسبابها ، يفر من الموت وهو واقع به ولابد 🙁 قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ) [ الجمعة :8] ، ( يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي ءَاذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ ) [ البقرة : 19] .
فإذا كنت أيها العبد أنت المحتاج للحياة وأنت الحريص عليها ، وأنت الذي تفر من الموت ، فإذا وجدت سبب الموت أقبل عليك فإنك تفر منه حرصًا منك على حياة نفسك ، فاعلم أنك مزهود في وجودك في الحياة ، وذلك يدعوك إلى الإحساس في عملك ، فلا يعقل أن تجمع بن الزهد في وجودك والسوء في عملك ، وأنت تعلم أن الذي خلقك قادر عليك ومحيط بك .
وإذا عرفت هذا فاعلم أيضًا أنك مكلف في الحياة ، فليست حياتك هملاً ، إنما خُلقت لمهمة الله أوجدك لها ، فهو سبحانه يقول : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ(57)إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) [ الذاريات : 56 – 58].
ومن هذا التكليف وتلك المهمة ما جاء في حديث أبي هريرة مرفوعًا عندالبخاري ومسلم : (كل سلامي من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس ) ، وعندمسلم عن عائشة : (خلق الله ابن آدم على ستين وثلاثمائة مفصل ، فمن كبر الله ، وهلل الله ، وسبح الله ، وعزل حجرًا عن طريق المسلمين ، أو عزل شوكة ، أو عزل عظمًا ، أو أمر بمعروف ، أو نهى عن منكر عدد تلك الستين والثلاثمائة السلمى أمسى من يومه وقد زحزح نفسه عن النار ) ، وفيرواية بريدة عن أحمد : ( في الإنسان ثلاثمائة وستون مفصلاً فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منه بصدقة ) .
إذا أيقنت هذا أيها العبد المسلم ، فإنك تنشغل بالخيرات وتجتنب السيئات ، فلا تستصغرْ معصية تفعلها ، لأنك منشغل بسداد ما عليك من الصدقات ، ولا تستهن بالحسنة فتتركها ، لأنك تحتاجها في سداد دينك حتى لا تتراكم فتلقى الله بدين عريض ، إذا شعر العبد بذلك وجدته على الطاعات حريصًا ، فرضًا كانت أو نفلاً ، فهو يعمل السنن ويحرص عليها فضلا عن الفرائض ، وهو يحذر المكروهات ويخاف منها فضلاً عن المحرمات .
فتدبر أيها المسلم أن رب العزة ساق في كتابه الكريم قصة آدم وعرض ذلك على الملائكة لتعلم أن الأرض لم تكن مشتاقة لجنس البشر بكامله حتى تشتاق لك أنت فكل شيء زاهد في وجودك وليس من أحد يحرص على حياتك سواك أنت فأحسن تسعد ، واجتنب المعصية تنجُ .
والله هو الهادي للصواب ، وهو من وراء القصد .