الحمد لله الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على من أوجب الله على المسلمين محبته وتعظيمه وتوقيره، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
وبعـــد
عن أنسٍ رضي الله عنه قال قال رسول الله (لا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حَتَّى أكونَ أحبَّ إليه مِن وَالدِهِ وَوَلَدِهِ والناسِ أَجْمَعينَ)
هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان، باب (حب الرسول من الإيمان) برقم كما أخرجه من حديث أبي هريرة في نفس الباب برقم وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان تحت باب عنوانه (وجوب محبة رسول الله أكثر من الأهل والولد والوالد والناس أجمعين، وإطلاق عدم الإيمان على من لم يحبه هذه المحبة) برقم كما أخرجه الإمام النسائي في كتاب الإيمان باب علامة الإيمان برقم من حديث أنس، وبرقم من حديث أبي هريرة، وأخرجه الإمام ابن ماجه في المقدمة باب في الإيمان برقم، وأخرجه الإمام أحمد في المسند بالأرقام،،، في مسند أنس بن مالك رضي الله عنه
شرح الحديث
أورد الإمام البخاري هذا الحديث في باب حب الرسول من الإيمان قال الحافظ في الفتح اللام فيه أي في الرسول للعهد، والمراد سيدنا محمد بقرينة قوله (حتى أكون أحب)، وإن كانت محبة جميع الرسل من الإيمان، لكن الأحبية مختصة برسولنا محمد اهـ بتصرف
قوله (لا يؤمن أحدكم) في حديث أبي هريرة رضي الله عنه (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم) يحلف النبي وإن لم يستحلفه أحد، وذلك ليؤكد هذا الأمر المهم، فقد ثبت من حديث عبد الله بن هشام أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال يومًا لرسول الله لأنت يا رسول الله أَحَبُّ إليَّ من كل شيء إلا نفسي، فقال له النبي (لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك) فقال له عمر فإنك الآن والله أحبَّ إليَّ من نفسي يا رسول الله، فقال له النبي (الآن يا عمر) فهذه الأحبية المختصة برسول الله لابد أن تملأ على الإنسان قلبه
وقوله (لا يؤمن) أي إيمانًا كاملاً
وقوله (أحدكم) في رواية الإسماعيلي (لا يؤمن الرجل) وهو أشمل من (أحدكم)، وأشمل منهما رواية الأصيلي (لا يؤمن أحدٌ) لأنه يشمل الناس جميعًا والله أعلم
وقوله (حتى أكون أحبَّ) منصوب على أنه خبر (أكون)
وقوله (من والده وولده) قال الحافظ في الفتح قدم الوالد للأكثرية؛ لأن كل أحد له والد من غير عكس وفي رواية النسائي تقديم الولد على الوالد، وذلك لمزيد الشفقة، وجاء في رواية ابن خزيمة في صحيحه (من أهله وماله) بدلاً من (والده وولده)، وكذا لمسلم من طريق ابن علية، وكذا للإسماعيلي قال الحافظ وذكر الولد والوالد أدخل في المعنى لأنهما أعز على العاقل من الأهل والمال بل ربما يكونان أعز من النفس، ولهذا لم يذكر النفس أيضًا في حديث أبي هريرة وهل تدخل الأم في لفظ الوالد فيعم، أو يقال اكتفى بذكر أحدهما كما يكتفى عن أحد الضدين بالآخر، ويكون ما ذكر على سبيل التمثيل والمراد الأعِزَّة، كأنه قال أحب إليه من أعزته وذكر الناس بعد الوالد والولد من عطف العام على الخاص، وهو كثير، وقدم الوالد على الولد في رواية لتقدمه بالزمان والإجلال، وقدم الولد في أخرى لمزيد الشفقة، وهل تدخل النفس في عموم قوله (والناس أجمعين) ؟ الظاهر دخوله، وقد وقع التنصيص بذكر النفس في حديث عبد الله بن هشام في قضية عمر ابن الخطاب رضي الله عنه كما تقدم
وقد قال الإمام النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث قال الإمام أبو سليمان الخطابي لم يرد به حب الطبع بل أراد به حب الاختيار، لأن حب الإنسان نفسه طبع، ولا سبيل إلى قلبه، فمعناه لا تصدق في حبي حتى تُفْنِى في طاعتي نفسك، وتؤثر رضاي على هواك وإن كان فيه هلاكك هذا كلام الخطابي
قال النووي وقال ابن بطال والقاضي عياض وغيرهما رحمة الله عليهم المحبة ثلاثة أقسام محبة إجلال وإعظام؛ كمحبة الوالد، ومحبة شفقة ورحمة؛ كمحبة الولد، ومحبة مشاكلة واستحسان؛ كمحبة سائر الناس، فجمع أصناف المحبة في محبته قال ابن بطال رحمه الله ومعنى الحديث أن من استكمل الإيمان علم أن حق النبي آكد عليه من حق أبيه وابنه والناس أجمعين؛ لأن به استُنْقِذْنا من النار، وهُدينا من الضلال
قال القاضي عياض رحمه الله ومن محبته نصرة سنته والذب عن شريعته، وتمني حضور حياته فيبذل ماله ونفسه دونه، قال وإذا تبين ما ذكرناه تبين أن حقيقة الإيمان لا تتم إلا بذلك، ولا يصح الإيمان إلا بتحقيق إعلاء قدر النبي ومنزلته على قدر كل منْ والد وولد ومحسن ومتفضل، ومن لم يعتقد هذا واعتقد سواه فليس بمؤمن اهـ هذا كلام القاضي عياض رحمه الله والله أعلم
ونسب الحافظ في الفتح للنووي قوله فيه تلميح إلى قضية النفس الأمارة والنفس المطمئنة، فإن من رجح جانب المطمئنة كان حبه للنبي راجحًا، ومن رجح جانب الأمارة كان حكمه بالعكس قال الحافظ وفي كلام القاضي عياض أن ذلك شرط في صحة الإيمان لأنه حمل المحبة على معنى التعظيم والإجلال
وتعقبه صاحب المفهم بأن ذلك ليس مرادًا هنا، لأن اعتقاد الأعظمية ليس مسلتزمًا للمحبة، إذ قد يجد الإنسان إعظام شيء مع خلوه من محبته قال فعلى هذا من لم يجد من نفسه ذلك الميل لم يكمل إيمانه، وإلى هذا يومئ قول عمر الذي رواه المصنف البخاري في (الأيمان والنذور) من حديث عبد الله بن هشام، وفي آخره قال عمر (فإنك الآن أحب إليَّ من نفسي فقال (الآن يا عمر)
قال الحافظ فهذه المحبة ليست باعتقاد الأعظمية، فإنها كانت حاصلة لعمر قبل ذلك قطعًا قال ومن علامة الحب المذكور أن يعرض على المرء أن لو خير بين فَقْدِ غرضٍ من أغراضه أو فقد رؤية النبي لو كانت ممكنة، فإن كان فَقْدُها لو كانت ممكنة أشد عليه من فقد شيء من أغراضه فقد اتصف بالأحبية المذكورة، ومن لا فلا وليس ذلك محصورًا في الوجود والفقد، بل يأتي مثله في نصرة سنته والذب عن شريعته وقمع مخالفيها، ويدخل فيه باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال الحافظ وفي الحديث إيماء إلى فضيلة التفكر، فإن الأحبية المذكورة تعرف به؛ وذلك أن محبوب الإنسان إما نفسه وإما غيرها أما نفسه فهو أن يريد بقاءها دائمًا سالمة من الآفات، فهذا هو حقيقة المطلوب، وأما غير نفسه فإن الإنسان يحقق المحبة لمن يسدي إليه نفعًا ما من أي وجه من الوجوه حالاً أو مآلاً، فإذا تأمل النفع الحاصل له من الرسول الذي أخرجه من الظلمات إلى النور، ظلمات الكفر إلى نور الإيمان إما مباشرة وإما بالسبب علم أن رسول الله سبب بقاء نفسه البقاء الأبدي في النعيم السرمدي، وعلم أن نفعه بذلك أعظم من جميع وجوه الانتفاعات، فاستحق لذلك أن يكون حظه من محبته أوفر من غيره؛ لأن النفع الذي يثير المحبة حاصل منه أكثر من غيره، ولكن الناس يتفاوتون في ذلك بحسب استحضار هذا الأمر والغفلة عنه، ولا شك أن حظ الصحابة رضوان الله عليهم من هذا المعنى أتم لأن هذا ثمرة المعرفة وهم بها أعلم والله الموفق
وقال القرطبي رحمه الله كل من آمن بالنبي إيمانًا صحيحًا لا يخلو عن وجدان شيء من تلك المحبة الراجحة، غير أنهم متفاوتون؛ فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الأوفى، ومنهم من أخذ منها بالحظ الأدنى؛ كمن كان مستغرقًا في الشهوات محجوبًا في الغفلات في أكثر الأوقات، لكن الكثير منهم إذا ذكر النبي اشتاق إلى رؤيته، بحيث يؤثرها على أهله وولده وماله ووالده، ويبذل نفسه في الأمور الخطيرة، ويجد مخبر ذلك من نفسه وجدانًا لا تردد فيه وقد شوهد من هذا الجنس من يؤثر زيارة قبره ورؤية مواضع آثاره على جميع ما ذكره، لما وقر في قلوبهم من محبته، غير أن ذلك سريع الزوال بتوالي الغفلات، والله المستعان
بين المحبة والغلو
المحبة المطلوبة هي أن يكون حبُّ رسول الله مقدمًا على كل حب أحد من والد وولد وزوج، وعلى كل شيء من مال أو أي غرضٍ من أغراض الدنيا، وأما الغلو فهو مجاوزة الحد، كما نهى عنه الرسول فيما صح من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال رسول الله (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبدٌ، فقولوا عبد الله ورسوله)
نقل الحافظ في الفتح عن ابن الجوزي لا يلزم من النهي عن الشيء وقوعه، لأنا لا نعلم أحدًا ادعى في نبينا ما ادعته النصارى في عيسى عليه السلام، وإنما سبب النهي ما وقع في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه لما استأذن في السجود له، فامتنع ونهاه، فكأنه خشي أن يبالغ غيره بما هو فوق ذلك، فبادر إلى النهي تأكيدًا للأمر، وقال ابن التين معنى قوله (لا تطروني) لا تمدحوني كمدح النصارى، حتى غلا بعضهم في عيسى فجعله إلهًا مع الله، وبعضهم ادعى أنه هو الله، وبعضهم ادعى أنه ابن الله ثم أردف النهي بقوله (أنا عبد الله)
فالإطراء المنهي عنه هو عبارة عن المدح الزائد عن حده في شخص الرسول، كمن مدحه بأن علم اللوح والقلم من علمه، والمقصود باللوح اللوح المحفوظ، والقلم الذي أمره الله عز وجل أول ما خلقه أن يكتب كل شيء، فيجعل بعضهم علم الله عز وجل من علم رسوله محمدٍ، أو يدعي أن رسول الله يملك للناس نفعًا أو ضرًا، والله عز وجل يقول له (قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) الأعراف فهذا قول الله عز وجل في كتابه صريحًا، ولو كان من قول الرسول لقيل إنه على سبيل التواضع، ولو كان يعلم من الغيب ما لم يطلعه الله تعالى عليه لانتقض قول الله تعالى (قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ) النمل، وقوله تعالى (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) الجن، فعلم الغيب خاص بالله عز وجل، ومالك النفع والضر هو الله عز وجل، فلا يُعطي أحدٌ من خلق الله بعض ما لله تبارك وتعالى، فإن المخلوق لا يستوي مع الخالق، فالله تعالى مالك الملك، ومدبر الأمر، بيده ملكوت كل شيء والخلق جميعًا، بما فيهم الأنبياء والمرسلون، وعلى رأسهم أولو العزم، وعلى رأس أولي العزم رسولنا، الجميع في قبضة الله وتحت قهره وسلطانه، وتأمل قول الله تعالى في حقه (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) الحاقة
فرسولنا لا شك أنه خير الخلق، وسيد ولد آدم يوم القيامة، وهو الشافع المشفع، ولم ينتفع الخلق بأحد ما انتفعوا به صلوات الله وسلامه عليه في الدنيا والآخرة، ولكن ليس معنى ذلك أن يعبد من دون الله تعالى فيتوجه إليه بالدعاء ويستغاث به، وتشكى إليه الهموم، ويطلب منه كشف الغموم، لأنه علَّمَ ابن عمه؛ ابن عباس رضي الله عنهما وعلَّم الأمة كلها بقوله صلوات الله وسلامه عليه (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ) الحديث فعلمنا التوكل على الله سبحانه لا عليه هو والاستعانة بالله تعالى لا به، ودعاء الله تعالى فُي سؤاله وليس دعاءه ولا سؤاله هو، وأخبرنا الله عز وجل أن أحدًا من خلقه بما فيهم سيدهم لا يشفع إلا بإذن الله تعالى، وأن الشافع لا يشفع إلا لمن ارتضى الله تعالى الشفاعة فيه، قال تعالى (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ) وقال تعالى (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى)
الاتباع ثمرة المحبة
قال تعالى (قل إن كنتم تحبون الله )
آل عمران
هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية؛ فإنه كاذب في داعوه، حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأحواله وأفعاله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله أنه قال (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) وليس الاتباع كما يظن كثير من الناس أنه مجرد اتباع في أمر مستحب أو واجب، بل هو أشمل من ذلك وأعم كما عرفه أهل العلم، فالاتباع هو الاقتداء والتأسي بالنبي في الاعتقادات والأقوال والأفعال والتروك، فالاتباع هو ثمرة المحبة ودليلها جعلنا الله وإياكم من المتبعين للنبي
فاللهم احشرنا في زمرة نبيك محمد، وارزقنا شفاعته، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين