خريطة الطريق

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين بشيرًا ونذيرًا محمد بن عبد الله النبي الرسول الخاتم وبعد،

فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث سفيان بن عبد الله الثقفي الطائفي، قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، ” قُلْ لِي في الإِسْلاَمِ قَوْلاً لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ – وَفِى حَدِيثِ أَبِى أُسَامَةَ غَيْرَكَ – قَالَ: ” قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ فَاسْتَقِمْ”.

ففي هذا الحديث رسم النبي -صلى الله عليه وسلم- خريطة الطريق لسفيان بن عبد الله -رضي الله عنه-، ولمن بعده، ممن أراد السلامة في الدنيا والآخرة، وأراد العزة، والقوة والكرامة والسعادة في حياته، وذلك في كلمتين: ” قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ فَاسْتَقِمْ “.

وهاك البيان باختصار، وإن كانت لجديرة بالتأصيل وفَسح الكلام بالبرهان.

-نرى سفيان بن عبد الله -رضي الله عنه-، طلب العلم قبل القول والعمل بعلو، كأنه قال يا رسول الله: ارسم لي خريطة لحياتي عليها أسير رغبة في رضا الرحمن، لا أسأل بعدها غيرك.

وفي ذلك إرشاد لطلبة العلم من وجوه:

1-العلو في طلب العلم لمن أراد أن يكون في ركب الكبار.

2-العلم قبل القول والعمل، فمن قال وعمل، ودعا إلى ذلك قبل العلم أو بغير علم فقد ضل، وأضل كثيرًا.

والعلم قال الله قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-، بفهم الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، فرضي الله عنهم ورضوا عنه؛ وهم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، والذين اتبعوهم بإحسان.

3- إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذونه.

4- السمع والطاعة، والولاء والبراء، والحب والبغض لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وفي الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وليس غير ذلك.

5-المرجعية لله وللرسول -صلى الله عليه وسلم- فهي الميزان الذي توزن به الأقوال والأفعال فما وافق فهو الحق، وما خالف فهو الباطل، وقوله: ” قل آمَنْتُ بِاللَّهِ “، لا يكون الكلام كلامًا إلا بالنطق به، وإظهاره، وإلا فهو حديث نفس لقوله -صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ، أَوْ تَتَكَلَّمْ”.

-آمنت بالله، والذي آمن بالله يلزمه الإيمان برسوله -صلى الله عليه وسلم-، بل وبرسله صلوات الله عليهم.

لقوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285]

-وفيها مسائل هي رأس خريطة الطريق:

1-إثبات صفة العلو لله عز وجل، لقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]

وليس استولى، فالاستواء معلوم والكيف مجهول، وهذه قاعدة في كل صفات الله عز وجل من غير لِم، ولا كيف؟

وهو معنا بعلمه وإحاطته، وهو الذي أحاط بكل شيء علمًا، ولقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]

2-أنزل الوحي على رسوله -صلى الله عليه وسلم- القرآن والسنة، ففي حديث المقدام بن مَعْدي كَرِبَ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “ألا إني أوتيتُ الكتابَ ومثلَه معه“.

وفي قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]

والمراد أنزل الله على محمد -صلى الله عليه وسلم- القران والسنة، إذ الحكمة في الآية هي المثلية في حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي السنة قولًا وفعلًا.

-وفي قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 1 – 4]

الناطق هو رسول الله والمنطوق هو الوحي وهو القرآن والسنة.

-فالقران والسنة سواء من حيث المصدرية والاحتجاج.

-فالله علَّم رسوله -صلى الله عليه وسلم- دينه-عقيدة وعبادة وأحكامًا ومعاملات وآدابًا وأخلاقًا. . . إلخ- والرسول -صلى الله عليه وسلم- علَّم الصحابة ذلك، والصحابة رضوان الله عليهم، علَّموا التابعين ذلك، والتابعون علَّموا أتباعهم، وهكذا، فرضي الله عن الصحابة والذين اتبعوهم بإحسان.

-وفي حديث جبريل -عليه السلام- المشهور  من حديث عمر بن الخطاب حيث أسس قواعد خريطة الطريق:

– الإِسْلاَمُ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ وَتُؤَدِّىَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ.

والإيمان: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكِتَابِهِ وَلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ الآخِرِ.

وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، عند مسلم: وبلقائه، والبعث الآخر.

والإِحْسَانُ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنَّكَ إِنْ لاَ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ.

والقدر خيرٌ كله، والشر المذكور، إنما هو من جهة المكلف لقوله -صلى الله عليه وسلم-: “والشر ليس إليك“.

ولقوله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]

والقدر سر الله في خلقه لا يعلمه ملك ولا نبي، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: “اعملوا فكل ميسر لما خلق له“.

  والأخذ بالأسباب واجب شرعي يتوافق مع القدر، وعليه، فالقدر يحتج به في المصائب، وليس في المعائب.

3-الصحابة رضي الله عنهم هم سادة الأمة وجذع هذا الدين فالطاعن فيهم أو في أحادهم طاعن في الدين.

قال -صلى الله عليه وسلم-: “لاَ تَسُبُّوا أصحابي لاَ تَسُبُّوا أصحابي فوالذي نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ” (1).

وفي الحديث الحسن لغيره: “مَنْ سَبَّ أَصْحَابِي فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ لَهُ صَرْفًا، وَلَا عَدْلًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ“.

ونرى خريطة الإيمان بوجه عام في قوله -صلى الله عليه وسلم-: “الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة، أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان“، وهذا أصل رئيس في خريطة طريق المسلم، يحتاج إلى فسحة لإظهار فقهه، وعلى رأس ذلك التفريق بين الكفر الاعتقادي والعملي والذي ضل فيه من ضل وسلِم فيه من سلِم.

-وعلي ما سبق: فالإيمان ما وقر في القلب وصدقه القول والعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. وإن شئت فقل: اعتقاد بالقلب، وقول باللسان وعمل بالأركان.

وعليه؛ فمن ثبت إسلامه بيقين لا يزول إلا به.

وتتمة الخريطة: في قوله -صلى الله عليه وسلم-: “ثم استقم” والمراد على ما آمنت به، لقوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112]

وقوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18]

ولقوله: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]

ومناسبتها في حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه–صحيح بطرقه-قال: ” خَطّ لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خَطّاً، ثم قال: “هذا سبيل الله”، ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله، ثم قال: “هذه سُبُل”، قال يزيد: “متفرقةٌ، علي كل سبيل منها شيطانٌ يدعو إليه”، ثم قرأ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي

 مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}. . الآية”.

وفي حديث العرباض بن سارية-الحسن-: “تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ. . . “.

فمرآة الاستقامة تتلألأ في مسمى الإحسان: وهو ” أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنَّكَ إِنْ لاَ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ“. يجمع الحب لله، والخوف لله.

وكذا في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125]

وقوله سبحانه: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [القصص: 56]

وعندئذ: “لا يضرك من ضل إذا اهتديت”، إذ توعد ربك فقال: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}، وقال: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ } [المدثر: 31]

ونكمل التسلية بقوله -صلى الله عليه وسلم-: “بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ“.

أسأل الله العفو والعافية، والستر في الدنيا والآخرة.

——-

(1)أخرجه البخاري(3673)، ومسلم(6651). من حديث أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-.