فاكهة المجالس .. الغيبة والنميمة

الغِيبة و النميمة

المقدمة

الحمدُ لله الذي خضعت لعزته الرقاب وأشرقت لنور وجهه الظلمات وصلح على شرعه أمر الدنيا والآخرة، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:فإن الغيبة والنميمة من آفات اللسان الخطيرة، والتي تجعل المسلم يخسر دينه ودنياه، .لقد أصبحت الغيبة والنميمة، هما الفاكهة المحَرَّمة، التي يناولها كثيرٌ من الناس في مجالسهم، إلا من عصمه اللهُ تعالى. من أجل ذلك أحببت أن أُذَكِرَ نفسي وإخواني الكرام بحقيقة هذه الآفات وأثرها على الفرد والمجتمع.وقد تناولت الحديث في هذه الرسالة عن معني الغيبة، وحكمها، وأقوال سلفنا الصالح في ذم الغيبة، وأسباب الغيبة، ولحوم العلماء مسمومة، وأمور تجوز فيها الغيبة، ووجوب رد غيبة المسلم، وكفارة الغبية والتوبة منها، ونصيحة لصاحب الغيبة، ثم تحدثت عن معنى النميمة، وحقيقتها، وأسبابها، وحكْمها، وأقوال سلفنا الصالح في ذم النميمة، ثم ختمت الرسالة بالحديث عن كيفية التعامل مع النمام .

أسألُ الله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العُلى أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به المسلمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه .وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .وصلى اللهُ وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .

صلاح نـجيب الدق

بسم الله الرحمن الرحيم

معنى الغِيبة : ذِكْرُ مساوئ الإنسان في غَيْبَتِهِ وهي فيه. (التعريفات للجرجاني صـ163)

الفرق بين الغِيبة والبهتان والشتم :

الغِيبة : ذِكْرُ مساوئ الإنسان في غَيْبَته .

البهتان : ذِكْرُ مساوئ للإنسان وهي ليست فيه .

الشتم : ذِكْرُ المساوئ في مواجهة المَقُول فيه . (موسوعة نضرة النعيم جـ11 صـ5163)

حكْم الغِيبة:

الغِيبةُ كبيرةٌ من الكبائر، وهي حرامٌ، وكذلك السكوت عليها، والرضا بها، مع القدرة على دفعها.(الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيتمي جـ2صـ25)

قَالَ الإمام ابْنُ الْمُنْذِرِ(رحمه الله) : قَدْ حَرَّمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْغِيبَةَ مُوَدِّعًا بِذَلِكَ أُمَّتَهُ وَقَرَنَ تَحْرِيمَهَا إلَى تَحْرِيمِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ، ثُمَّ زَادَ تَحْرِيمُ ذَلِكَ تَأْكِيدًا بِإِعْلَامِهِ بِأَنَّ تَحْرِيمَ ذَلِكَ كَحُرْمَةِ الْبَلَدِ الْحَرَامِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ. (الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيتمي جـ2صـ26)

قال الإمامُ الْقُرْطُبِيُّ(رحمه الله):لَا خِلَافَ أَنَّ الْغِيبَةَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَأَنَّ مَنِ اغْتَابَ أَحَدًا عَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.(تفسير القرطبي جـ16صـ321)

أدلةُ تحريم الغِيبة مِن القرآن والسُّنَّة:

أولاً: القرآن الكريم:

يقول الله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ .)( الحجرات : 12 )

ثانياً: السُّنة:

(1) روى مسلمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ. قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ .( مسلم حديث 5289)

(2) روى أبو داودَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- :لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ فَقُلْتُ مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ قَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ . ( حديث صحيح ) ( صحيح أبي داود للألباني حديث 4778 )

(3) روى مسلمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ . ( مسلم حديث: 2564 )

(4) روى أبو داودَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا، تَعْنِي قَصِيرَةً، فَقَالَ: لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ . (خالطته مخالطة يتغير بها طعمه أو ريحه لشدة قبحها ).(حديث صحيح ) ( صحيح أبي داود للألباني حديث 4080 )

(5) روى أبو داودَ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ .

( حسن صحيح ) ( صحيح أبي داود للألباني حديث 4083 )

(6) روى أبو داودَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-قَالَ: إِنَّ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا الِاسْتِطَالَةَ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ .( حديث صحيح ) ( صحيح أبي داود للألباني حديث 4081 )

(7) روى أبو داودَ عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ أَكَلَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ أَكْلَةً فَإِنَّ اللَّهَ يُطْعِمُهُ مِثْلَهَا مِنْ جَهَنَّمَ، وَمَنْ كُسِيَ ثَوْبًا بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَكْسُوهُ مِثْلَهُ مِنْ جَهَنَّمَ، وَمَنْ قَامَ بِرَجُلٍ مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُومُ بِهِ مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.( حديث صحيح ) ( صحيح أبي داود للألباني حديث 4084 )

(8) روى أحمدٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-فَارْتَفَعَتْ رِيحُ جِيفَةٍ مُنْتِنَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ” أَتَدْرُونَ مَا هَذِهِ الرِّيحُ؟ هَذِهِ رِيحُ الَّذِينَ يَغْتَابُونَ الْمُؤْمِنِينَ. (حديث حسن)(مسند أحمد جـ23صـ97 حديث: 14784)

أقوال سلفنا الصالح في ذم الغيبة :

(1) قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «عَلَيْكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ شِفَاءٌ، وَإِيَّاكُمْ وَذِكْرَ النَّاسِ فَإِنَّهُ دَاءٌ.» ( ذم الغيبة والنميمة لابن أبي الدنيا صـ23 رقم:66)

(2) روى البخاريُّ(في الأدب المفرد) عن عبد بن مسعود قال: ” مَنِ اغْتِيبَ عِنْدَهُ مُؤْمِنٌ فَنَصَرهُ، جَزَاهُ اللَّهُ بِهَا خَيْرًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنِ اغْتِيبَ عِنْدَهُ مُؤْمِنٌ فَلَمْ يَنْصُرْهُ، جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنِ اغتب عِنْدَهُ مُؤْمِنٌ فَلَمْ يَنْصُرْهُ، جَزَاهُ اللَّهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ شَرًّا، وَمَا الْتَقَمَ أَحَدٌ لُقْمَةً شَرًّا مِنَ اغْتِيَابِ مُؤْمِنٍ؛ إِنْ قَالَ فِيهِ مَا يَعْلَمُ، فَقَدِ اغْتَابَهُ، وَإِنْ قَالَ فِيهِ بِمَا لَا يَعْلَمُ، فَقَدْ بَهَتَهُ”.(إسناده صحيح)(صحيح الأدب المفرد للألباني حديث: 567)

(3) قال أبو هريرة(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ): يُبصر أحدكم القذى في عين أخيه ولا يُبصر الجِذْع في عين نفسه. ( إحياء علوم الدين للغزالي جـ3 صـ224 )

 (4) قَالَ عبد الله بنِ عَبَّاسٍ: قَالَ لِي أَبِي: ” أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي أَرَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَدْعُوكَ وَيُقَرِّبُكَ وَيَسْتَشِيرُكَ مَعَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَاحْفَظْ عَنِّي ثَلَاثَ خِصَالٍ: اتَّقِ اللهَ لَا يُجَرِّبَنَّ عَلَيْكَ كِذْبَةً، وَلَا تُفْشِيَنَّ لَهُ سِرًّا، وَلَا تَغْتَابَنَّ عِنْدَهُ أَحَدًا “.

(حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني جـ1صـ318)

(5) وقَالَ عبد الله بن عَبَّاسٍ: ” إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَذْكُرَ عُيُوبَ صَاحِبِكَ فَاذْكُرْ عُيُوبَ نَفْسِكَ .”(الزهد لأحمد بن حنبل صـ 278رقم:1044)

(6) روى البخاريُّ(في الأدب المفرد) عَنْ قَيْسٍ قَالَ: كَانَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ يَسِيرُ مَعَ نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَمَرَّ عَلَى بَغْلٍ مَيِّتٍ قَدِ انْتَفَخَ، فَقَالَ: «وَاللَّهِ، لَأَنْ يَأْكُلَ أَحَدُكُمْ هَذَا حَتَّى يَمْلَأَ بَطْنَهُ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ مُسْلِمٍ.» (إسناده صحيح)(صحيح الأدب المفرد للألباني حديث: 569)

(7) قال رجل للحسن البصري- رحمه الله-:« : إن فلاناً قد اغتابك فبعث إليه رطباً على طبق وقال: قد بلغني أنك أهديت إليَّ من حسناتك فأردت أن أكافئك عليها فاعذرني فإني لا أقدر أن أكافئك على التمام.( إحياء علوم الدين للغزالي جـ3 صـ241 )

(8) قَالَ الْحَسَنُ البصريُّ- رحمه الله-:« وَاَللَّهِ لَلْغِيبَةُ أَسْرَعُ فَسَادًا فِي دِينِ الْمَرْءِ مِنْ الْأَكَلَةِ(اسم مرض) فِي الْجَسَدِ. » ( إحياء علوم الدين للغزالي جـ3 صـ224)

(9)وقال الحسن البصريّ- رحمه الله-:« ابْنُ آدَمَ إنَّك لَنْ تَبْلُغَ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى لَا تَعِيبَ النَّاسَ بِعَيْبٍ هُوَ فِيك، وَحَتَّى تَبْدَأَ بِصَلَاحِ ذَلِكَ الْعَيْبِ فَتُصْلِحَهُ مِنْ نَفْسِك، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ كَانَ شَغْلُك فِي خَاصَّةِ نَفْسِك. وَأَحَبُّ الْعِبَادِ إلَى اللَّهِ مَنْ كَانَ هَكَذَا.»

( إحياء علوم الدين للغزالي جـ3 صـ224 )

(10) قال مجاهد بن جبر في قوله تعالى:(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) قَالَ: الَّذِي يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ، وَاللُّمَزَةُ: الطَّعَّانُ. (الزهد لوكيع بن الجراح جـ3 صـ753 رقم:439)

 أسباب الغيبة:

أسباب الغيبة كثيرة، ولكن يمكن أن نوجزها في الآتي:

(1) أن يُشفي الغيظ وذلك إذا جرى سبب غضب به عليه، فإنه إذا هاج غضبه يشتفى بذِكْرِ مساوئه فيسبق اللسان إليه بالطبع إن لم يكن ثم دين وازع.

(2) موافقة الأقران ومجاملة الرفقاء ومساعدتهم على الكلام، فإنهم إذا كانوا يتفكهون بذكر الأعراض فيرى أنه لو أنكر عليهم أو قطع المجلس استثقلوه ونفروا عنه فيساعدهم ويرى ذلك من حسْن المعاشرة ويظن أنه مجاملة في الصحبة، وقد يغضب رفقاؤه فيحتاج إلى أن يغضب لغضبهم إظهاراً للمساهمة في السراء والضراء فيخوض معهم في ذكر العيوب والمساوي.

(3) أن يستشعر من إنسان أن سيقصده ويطول لسانه عليه أو يقبح حاله عند محتشم، أو يشهد عليه بشهادة فيبادره قبل أن يقبح هو حاله ويطعن فيه ليسقط أثر شهادته.

(5) أن يتهمه الناس بشيء، فيريد أن يتبرأ منه فيذكر الذي فعله، وكان عليه أن يبرئ نفسه ولا يذكر الذي فعل، أو يذكر غيره بأنه كان مشاركاً له في الفعل ليمهد بذلك عذر نفسه في فعله.

الخامس: إرادة التصنع والمباهاة، وهو أن يرفع نفسه بتنقيص غيره فيقول فلان جاهل وفهمه ركيك وكلامه ضعيف: وغرضه أن يثبت في ضمن ذلك فضل نفسه ويريهم أنه أعلم منه، أو يحذر أن يعظم مثل تعظيمه فيقدح فيه لذلك.

(6) الحسد وهو أنه ربما يحسد من يثني الناس عليه ويحبونه ويكرمونه، فيريد زوال تلك النعمة عنه فلا يجد سبيلاً إليه إلا بالقدح فيه، فيريد أن يسقط ماء وجهه عند الناس حتى يكفوا عن كرامته والثناء عليه لأنه يثقل عليه أن يسمع كلام الناس وثناءهم عليه وإكرامهم له، وهذا هو عين الحسد.

(7) اللعب والهزل وقضاء الوقت بالضحك، فيذكر عيوب غيره بما يضحك الناس على سبيل المحاكاة ومنشؤه التكبر والعجب.

(8) السخرية والاستهزاء استحقاراً له فإن ذلك قد يجري في الحضور ويجري أيضاً في الغيبة ومنشؤه التكبر واستصغار المستهزأ به.(إحياء علوم الدين للغزالي جـ3 صـ231:229)

لحوم العلماء مسمومة:

اعلم، أخي المسلم الكريم:أن اغتياب أهل الفضل والصلاح أشد من اغتياب غيرهم.إن أكثر أنواع الغِيبة خطورة، هو ذِكْرُ عيوب علماء أهل السُّنَّة والجماعة، لأن في ذلك تنفير للناس من دعوتهم، ورفضهم لنصيحتهم، وعدم قبول فتاواهم في الأمور الشرعيَّة، وهذا صدٌ عن سبيل الله تعالى.

 قال الإمام أبو القاسم بن عساكر (رحمه الله):

 اعْلَمْ يَا أَخِي، وَفَّقَكَ اللَّهُ وَإِيَّانَا، وَهَدَاكَ سَبِيلَ الْخَيْرِ وَهَدَانَا، أَنَّ لُحُومَ الْعُلَمَاءِ مَسْمُومَةٌ. وَعَادَةَ اللَّهِ فِي هَتْكِ مُنْتَقِصِهِمْ مَعْلُومَةٌ، وَمَنْ أَطْلَقَ لِسَانَهُ فِي الْعُلَمَاءِ بِالثَّلْبِ(الانتقاص) بَلَاهُ اللَّهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِمَوْتِ الْقَلْبِ (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور: 63) (الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيتمي جـ1صـ235)

أمور تجوز فيها الغيبة :

قال الإمام النووي(رحمه الله):الغِيبَةُ تُبَاحُ لِغَرَضٍ صَحيحٍ شَرْعِيٍّ، لا يُمْكِنُ الوُصُولُ إِلَيْهِ إِلاَّ بِهَا، وَهُوَ سِتَّةُ أسْبَابٍ:

الأَوَّلُ: التَّظَلُّمُ، فَيَجُوزُ لِلمَظْلُومِ أَنْ يَتَظَلَّمَ إِلَى السُّلْطَانِ والقَاضِي وغَيرِهِما مِمَّنْ لَهُ وِلاَيَةٌ، أَوْ قُدْرَةٌ عَلَى إنْصَافِهِ مِنْ ظَالِمِهِ، فيقول: ظَلَمَنِي فُلاَنٌ بكذا.

الثَّاني: الاسْتِعانَةُ عَلَى تَغْيِيرِ المُنْكَرِ، وَرَدِّ العَاصِي إِلَى الصَّوابِ، فيقولُ لِمَنْ يَرْجُو قُدْرَتهُ عَلَى إزالَةِ المُنْكَرِ: فُلانٌ يَعْمَلُ كَذا، فازْجُرْهُ عَنْهُ ونحو ذَلِكَ ويكونُ مَقْصُودُهُ التَّوَصُّلُ إِلَى إزالَةِ المُنْكَرِ، فَإنْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ كَانَ حَرَامًا.

الثَّالِثُ: الاسْتِفْتَاءُ، فيقُولُ لِلمُفْتِي: ظَلَمَنِي أَبي أَوْ أخي، أَوْ زوجي، أَوْ فُلانٌ بكَذَا فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ؟ وَمَا طَريقي في الخلاصِ مِنْهُ، وتَحْصيلِ حَقِّي، وَدَفْعِ الظُّلْمِ؟ وَنَحْو ذَلِكَ، فهذا جَائِزٌ لِلْحَاجَةِ، ولكِنَّ الأحْوطَ والأفضَلَ أَنْ يقول: مَا تقولُ في رَجُلٍ أَوْ شَخْصٍ، أَوْ زَوْجٍ، كَانَ مِنْ أمْرِهِ كذا؟ فَإنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ الغَرَضُ مِنْ غَيرِ تَعْيينٍ، وَمَعَ ذَلِكَ، فالتَّعْيينُ جَائِزٌ .

الرَّابعُ: تَحْذِيرُ المُسْلِمينَ مِنَ الشَّرِّ وَنَصِيحَتُهُمْ، وذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ:

مِنْهَا: جَرْحُ المَجْرُوحينَ مِنَ الرُّواةِ والشُّهُودِ وذلكَ جَائِزٌ بإجْمَاعِ المُسْلِمينَ، بَلْ وَاجِبٌ للْحَاجَةِ.

ومنها: المُشَاوَرَةُ في مُصاهَرَةِ إنْسانٍ أو مُشاركتِهِ، أَوْ إيداعِهِ، أَوْ مُعامَلَتِهِ، أَوْ غيرِ ذَلِكَ، أَوْ مُجَاوَرَتِهِ، ويجبُ عَلَى المُشَاوَرِ أَنْ لا يُخْفِيَ حَالَهُ، بَلْ يَذْكُرُ المَسَاوِئَ الَّتي فِيهِ بِنِيَّةِ النَّصيحَةِ.

ومنها: إِذَا رأى مُتَفَقِّهًا يَتَرَدَّدُ إِلَى مُبْتَدِعٍ، أَوْ فَاسِقٍ يَأَخُذُ عَنْهُ العِلْمَ، وخَافَ أَنْ يَتَضَرَّرَ المُتَفَقِّهُ بِذَلِكَ، فَعَلَيْهِ نَصِيحَتُهُ بِبَيانِ حَالِهِ، بِشَرْطِ أَنْ يَقْصِدَ النَّصِيحَةَ، وَهَذا مِمَّا يُغلَطُ فِيهِ. وَقَدْ يَحمِلُ المُتَكَلِّمَ بِذلِكَ الحَسَدُ، وَيُلَبِّسُ الشَّيطانُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، ويُخَيْلُ إِلَيْهِ أنَّهُ نَصِيحَةٌ فَليُتَفَطَّنْ لِذلِكَ.

وَمِنها: أَنْ يكونَ لَهُ وِلايَةٌ لا يقومُ بِهَا عَلَى وَجْهِها: إمَّا بِأنْ لا يكونَ صَالِحًا لَهَا، وإما بِأنْ يكونَ فَاسِقًا، أَوْ مُغَفَّلًا، وَنَحوَ ذَلِكَ فَيَجِبُ ذِكْرُ ذَلِكَ لِمَنْ لَهُ عَلَيْهِ ولايةٌ عامَّةٌ لِيُزيلَهُ، وَيُوَلِّيَ مَنْ يُصْلحُ، أَوْ يَعْلَمَ ذَلِكَ مِنْهُ لِيُعَامِلَهُ بِمُقْتَضَى حالِهِ، وَلاَ يَغْتَرَّ بِهِ، وأنْ يَسْعَى في أَنْ يَحُثَّهُ عَلَى الاسْتِقَامَةِ أَوْ يَسْتَبْدِلَ بِهِ.

الخامِسُ: أَنْ يَكُونَ مُجَاهِرًا بِفِسْقِهِ أَوْ بِدْعَتِهِ كالمُجَاهِرِ بِشُرْبِ الخَمْرِ، ومُصَادَرَةِ النَّاسِ، وأَخْذِ المَكْسِ (الضرائب التي تُؤخَذُ ظلماً)، وجِبَايَةِ الأمْوَالِ ظُلْمًا، وَتَوَلِّي الأمُورِ الباطِلَةِ، فَيَجُوزُ ذِكْرُهُ بِمَا يُجَاهِرُ بِهِ، وَيَحْرُمُ ذِكْرُهُ بِغَيْرِهِ مِنَ العُيُوبِ، إِلاَّ أَنْ يكونَ لِجَوازِهِ سَبَبٌ آخَرُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ.

السَّادِسُ: التعرِيفُ، فإذا كَانَ الإنْسانُ مَعْرُوفًا بِلَقَبٍ، كالأعْمَشِ، والأعرَجِ، والأَصَمِّ، والأعْمى، والأحْوَلِ، وغَيْرِهِمْ جاز تَعْرِيفُهُمْ بذلِكَ، وَيَحْرُمُ إطْلاقُهُ عَلَى جِهَةِ التَّنْقِيصِ، ولو أمكَنَ تَعْريفُهُ بِغَيرِ ذَلِكَ كَانَ أوْلَى. فهذه ستَّةُ أسبابٍ ذَكَرَهَا العُلَمَاءُ وأكثَرُها مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَدَلائِلُهَا مِنَ الأحادِيثِ الصَّحيحَةِ مشهورَةٌ. (رياض الصالحين للنووي صـ 451:450)

قَالَ الْحَسَنُ البصريُّ(رحمه الله): ثلاثة ليست لَهُمْ حُرْمَةٌ: صَاحِبُ الْهَوَى( العالم المبتدع)، وَالْفَاسِقُ الْمُعْلِنُ، وَالْإِمَامُ الْجَائِرُ. (تفسير القرطبي جـ16صـ322) (إحياء علوم الدين للغزالي جـ3 صـ239)

وجوب رد غيبة المسلم :

(1) روى الشيخانِ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ، قَالَ: سَمِعْتُ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: غَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ رَجُلٌ: أَيْنَ مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُنِ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَّا: ذَلِكَ مُنَافِقٌ، لاَ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ” أَلاَ تَقُولُوهُ(أي تظنونه): يَقُولُ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ ” قَالَ: بَلَى، قَالَ: «فَإِنَّهُ لاَ يُوَافَى عَبْدٌ يَوْمَ القِيَامَةِ بِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ.»(البخاري حديث: 6938/مسلم حديث: 33)

(2) روى الشيخانِ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ(في قصة توبته) قَالَ :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَهُوَ جَالِسٌ فِي القَوْمِ بِتَبُوكَ:«مَا فَعَلَ كَعْبٌ ؟» فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَبَسَهُ بُرْدَاهُ، وَنَظَرُهُ فِي عِطْفِهِ، (أي منعه من الخروج إعجابه بنفسه وثيابه) فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. (البخاري حديث: 4418/مسلم حديث: 2769)

(3) روى الترمذيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ القِيَامَةِ.( حديث صحيح ) ( صحيح الترمذي للألباني حديث 1575)

قال الإمام النوويُّ(رحمه الله): ينبغي لمن سمع غِيبةَ مسلم أن يردّها ويزجرَ قائلَها، فإن لم ينزجرْ بالكلام زجرَه بيده، فإن لم يستطع باليدِ ولا باللسان، فارقَ ذلكَ المجلس، فإن سمعَ غِيبَةَ شَيْخه أو غيره ممّن له عليه حقّ، أو كانَ من أهل الفضل والصَّلاح، كان الاعتناءُ بما ذكرناه أكثر.(الأذكار للنووي صـ426)

كفارة الغبية والتوبة منها:

قال الإمام النوويُّ(رحمه الله):كلُّ مَن ارتكب معصيةً لزمه المبادرةُ إلى التوبة منها، والتوبةُ من حقوق الله تعالى يُشترطُ فيها ثلاثة أشياء: أن يُقلعَ عن المعصية في الحال، وأن يندمَ على فعلها، وأن يَعزِمَ ألاّ يعود إليها.والتوبةُ من حقوق الآدميين يُشترطُ فيها هذه الثلاثة، ورابع: وهو ردّ الظُّلامة إلى صاحبها أو طلب عفوه عنها والإِبراء منها، فيجبُ على المغتاب التوبة بهذه الأمور الأربعة، لأن الغيبة حقّ آدمي، ولا بدّ من استحلاله مَن اغتابَه. (الأذكار للنووي صـ429)

روى الشيخانِِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ. (البخاري حديث 2449 / مسلم حديث2581)

سُئِلَ عطاء بن أبي رباح عن التوبة من الغيبة؟ فقال:أن تمشي إلى صاحبك فتقول له؛ كذبت فيما قلت، وظلمتك وأسأت فإن شئت أخذت بحقك، وإن شئت عفوت. (ذم الغيبة والنميمة لابن أبي الدنيا صـ46 رقم:157)

فإذا ترتب على هذا الاستحلال مفسدةٌ، فيكفيه الاستغفار والدعاء للشخص الذي اغتابه .

قال الحسن البصري: يكفيه الاستغفار دون الاستحلال. ( إحياء علوم الدين للغزالي جـ3 صـ:240)

 وقال مجاهد كفارة أكلك لحم أخيك: أن تثني عليه وتدعو له بخير. (إحياء علوم الدين للغزالي جـ3 صـ:240)

نصيحة لصاحب الغيبة :

قال الإمام النوويُّ(رحمه الله):يُستحبُ لصاحب الغِيبة أن يُبرئ الذي اغتابه منها، ولا يجبُ عليه ذلك لأنه تبرّعٌ وإسقاطُ حقّ، فكان إلى خِيرته، ولكن يُستحب له استحباباً متأكداً الإِبراء ليُخَلِّصَ أخاه المسلم من وبال هذه المعصية، ويفوزَ هو بعظيم ثواب الله تعالى في العفو ومحبة الله سبحانه وتعالى. قال الله تعالى: (وَالكاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهِ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ) (آل عمران: 134) وطريقهُ في تطبيب نفسه بالعفو أن يذكِّرَ نفسَه أنَّ هَذَا الأمْرَ قد وقعَ، ولا سبيلَ إلى رفعه، فلا ينبغي أن أُفوِّتَ ثوابَه وخلاصَ أخي المسلم، وقد قال الله تعالى: (وَلمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِن ذلكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ) (الشورى: 43) وقال تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف: 199) (الأذكار للنووي صـ430)

روى مسلمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ.(مسلم حديث: 2699)

قال الإمام الشافعي (رحمه الله): من اسْتُرضي فلم يرضَ فهو شيطان (الأذكار للنووي صـ430)

قال الشاعر:قِيلَ لِي: قَدْ أَسَاءَ إلَيْكَ فُلَانُ * وَمُقَامُ الْفَتَى عَلَى الذُّلِّ عَارُ.

 قُلْتُ: قَدْ جَاءَنَا وَأَحْدَثَ عُذْرَا * دِيَةُ الذَّنْبِ عِنْدَنَا الِاعْتِذَارُ. (الأذكار للنووي صـ430)

النميمة

معنى النميمة :

النَّمِيمَةُ:هي نَقْلُ كَلَامِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ عَلَى وَجْهِ الْإِفْسَادِ بَيْنَهُمْ.

والنَّمَامُ:هُوَ من ينْقلُ الحَدِيثَ بَين النَّاس على جِهَة الْإِفْسَاد بَينهم. (الكبائر للذهبي صـ179)

حقيقة النميمة:

حَقِيقَةُ النَّمِيمَةِ إِفْشَاءُ السِّرِّ وَهَتْكُ السِّتْرِ عَمَّا يُكْرَهُ كَشْفُهُ بَلْ كان ما رآه الإنسان من أحوال الناس مما يكره فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْكُتَ عَنْهُ إِلَّا مَا فِي حِكَايَتِهِ فَائِدَةٌ لِمُسْلِمٍ أَوْ دَفْعٌ لِمَعْصِيَةٍ كَمَا إِذَا رَأَى مَنْ يَتَنَاوَلُ مَالَ غَيْرِهِ فَعَلَيْهِ أن يشهد به مراعاة لحق المشهود له فأما إذا رآه يخفي مالاً لنفسه فذكره فهو نميمة وإفشاء للسر فإن كان ما ينم به نقصاً وعيباً في المحكي عنه كان قد جمع بين الغيبة والنميمة. (إحياء علوم الدين للغزالي جـ3 صـ:244:243)

أسباب النميمة:

 (1) إرَادَةُ السُّوءِ لِلْمَحْكِيِّ عَنْهُ.

 (2) إِظْهَارُ الْحُبِّ لِلْمَحْكِيِّ لَهُ.(وهذا في ظاهر الأمر، وإلّا فإنَّ مَن يجب إنساناً على الحقيقة، فإنّه لا يبلِّغه ما يسوءه)

(3) التَّفَرُّجُ بِالْحَدِيثِ وَالْخَوْضُ فِي الْفُضُولِ وَالْبَاطِلِ. (إحياء علوم الدين للغزالي جـ3 صـ:244)

حكْم النميمة:

نقلُ الحديث من شخصٍ إلى شخصٍ آخرٍ بقصد الإفساد بينهما، حرامٌ .

قال الإمام الذهبي(رحمه الله):النَّمِيمَةُ حرَامٌ بِإِجْمَاع الْمُسلمين، وَقد تظاهرت على تَحْرِيمهَا الدَّلَائِل الشَّرْعِيَّة من الْكتاب وَالسُّنَّة. (الكبائر للذهبي صـ179)

أولاً: القرآن الكريم:

قال الله تعالى : (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ) ( القلم : 10 : 11 )

قال الإمام ابن كثير(رحمه الله) قوله تعالى:(هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) يَعْنِي: الَّذِي يَمْشِي بَيْنَ النَّاسِ، وَيُحَرِّشُ بَيْنَهُمْ وَيَنْقُلُ الْحَدِيثَ لِفَسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ. (تفسير ابن كثير جـ14صـ89)

ثانياً: السُّنة:

(1) روى الشيخانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَبْرَيْنِ، فَقَالَ: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنَ البَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ» ثُمَّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً، فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ، فَغَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: «لَعَلَّهُ يُخَفِّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا» ( البخاري حديث 218 / مسلم حديث 292 )

 (2) روى الشيخانِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بن اليمان أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا يَنُمُّ الْحَدِيثَ فَقَالَ حُذَيْفَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ. ( البخاري حديث 6056 / مسلم حديث 105 )

(3) روى الشيخانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: تَجِدُ مِنْ شَرِّ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ ذَا الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ . (البخاري حديث 6058 / مسلم حديث 2526 )

أقوال سلفنا الصالح في ذم النميمة :

(1) دخل رَجُلٌ على عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فذكر له عن رَجُلٍ شيئاً. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، : إنْ شِئْتَ نَظَرَنَا فِي أَمْرِك، فَإِنْ كَذَبْت فَأَنْتَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْآيَةِ: (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ) (الحجرات: 6) وَإِنْ صَدَقْت فَمِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْآيَةِ (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) (القلم: 11) وَإِنْ شِئْت عَفَوْنَا عَنْك. فَقَالَ الْعَفْوُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا أَعُودُ إلَيْهِ أَبَدًا. (إحياء علوم الدين للغزالي جـ3 صـ244)

(2) عَاتَبَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ مَنْ نَمَّ عَلَيْهِ بِحَضْرَةِ الزُّهْرِيِّ، فَأَنْكَرَ الرَّجُلُ فَقَالَ لَهُ: مَنْ أَخْبَرَنِي صَادِقٌ. فَقَالَ الزُّهْرِيُّ: النَّمَّامُ لَا يَكُونُ صَادِقًا فَقَالَ سُلَيْمَانُ صَدَقْت، اذْهَبْ أَيُّهَا الرَّجُلُ بِسَلَامٍ. (الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيتمي جـ2صـ47)

(3) قال الحسن البصري : مَنْ نَمَّ إِلَيْكَ نَمَّ عَلَيْكَ.

قال الإمام الغزالي(رحمه الله) ـ تعليقاً على قول الحسن ـ : هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ النَّمَّامَ يَنْبَغِي أَنْ يُبْغَضَ وَلَا يُوثَقَ بِقَوْلِهِ وَلَا بِصَدَاقَتِهِ، وَكَيْفَ لَا وَهُوَ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْعُذْرِ وَالْخِيَانَةِ وَالْإِفْسَادِ بَيْنَ النَّاسِ، وَهُوَ مِمَّنْ يَسْعَى فِي قَطْعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ. وَقَالَ تَعَالَى: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (الشُّورَى: 42) وَالنَّمَّامُ مِنْهُمْ. (إحياء علوم الدين للغزالي جـ3 صـ244)

(4) جَاءَ رَجُلٌ إلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – فَنَمَّ لَهُ عَنْ شَخْصٍ فَقَالَ اذْهَبْ بِنَا إلَيْهِ فَذَهَبَ مَعَهُ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ يَنْتَصِرُ لِنَفْسِهِ، فَلَمَّا وَصَلَ إلَيْهِ قَالَ: يَا أَخِي إنْ كَانَ مَا قُلْتَ فِيَّ حَقًّا يَغْفِرُ اللَّهُ لِي، وَإِنْ كَانَ مَا قُلْت فِيَّ بَاطِلًا يَغْفِرُ اللَّهُ لَك. (الكبائر للذهبي صـ183:182)

(5) زَارَ رَجُلٌ حكيماً من الحكماء، فَنَمَّ هذا الرَّجُلُ للحكيم عَنْ صَدِيقِهِ. فَقَالَ لَهُ الحكيمُ: يَا أَخِي أبطأت في الزيارة، وَجِئْتَنِي بِثَلَاثِ جِنَايَاتٍ: بَغَّضْتَّ إلَيَّ أَخِي، وَشَغَلْت قَلْبِي الفَارِغَ بِسَبَبِهِ، وَاتَّهَمْت نَفْسَك الْأَمِينَةَ. (إحياء علوم الدين للغزالي جـ3 صـ244)

(6) قِيلَ لِمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ أَيُّ خِصَالِ الْمُؤْمِنِ أَوْضَعُ لَهُ(أي تقلل من شأنه)؟ فَقَالَ: كَثْرَةُ الْكَلَامِ، وَإِفْشَاءُ السر، وقبول قول كل أحد. (إحياء علوم الدين للغزالي جـ3 صـ:245)

 (7) قال رجل لعبد الله ابن عامر وكان أميراً بلغني أن فلاناً أعلم الأمير أني ذكرته بسوء قال قد كان ذلك قال فأخبرني بما قال لك حتى أظهر كذبه عندك قال ما أحب أن أشتم نفسي بلساني وحسبي أني لم أصدقه فيما قال، ولا أقطع عنك الوصال. (إحياء علوم الدين للغزالي جـ3 صـ:245)

(8) قال رَجُلٌ لعمرو بن عُبيد: إن الأسْوَاري ما يزال يَذْكرك في قصصه بشر. فقال له عمرو: يا هذا ما رعيت حق مجالسة الرجل، حيث نقلت إلينا حديثه، ولا أديت حقي حين أعلمتني عن أخي ما أكره، ولكن أعلمه أن الموت يعمنا، والقبر يضمنا، والقيامة تجمعنا، واللهُ تعالى يحكم بيننا، وهو خير الحاكمين. (إحياء علوم الدين للغزالي جـ3 صـ:246)

(9) كَتَبَ رَجُلٌ ورقةً إِلَى الصاحب بن عَبَّاد (رَحمَه الله) يحثه فِيهَا على أَخذ مَال الْيَتِيم، وَكَانَ لَهُ مَال كثير فَكتب على ظهر الورقة:النميمةُ قبيحةٌ، وَإِن كَانَت صَحِيحَة، وَالْمَيِّت رَحمَه اللهُ، واليتيم جبره اللهُ، وَالْمَال ثَمَّرَه اللهُ(أي باركَ فيه) والساعي لَعنه اللهُ. (الكبائر للذهبي صـ182)

(10) قال الإمام الذهبي(رحمه الله): يُقَالُ: عَمَلُ النَّمَّامِ أَضَرُّ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّ عَمَلَ الشَّيْطَانِ بِالْوَسْوَسَةِ، وَعَمَلَ النَّمَّامِ بِالْمُوَاجَهَةِ. (الكبائر للذهبي صـ183)

(11) قال الإمام الذهبي(رحمه الله): قيل فِي قَول الله تَعَالَى (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) (المسد:4) يَعْنِي امْرَأَة أبي لَهب إِنَّهَا كَانَت تنقل الحَدِيثَ بالنميمة. سمى النميمة حطباً لِأَنَّهَا سَبَب الْعَدَاوَة، كَمَا أَن الْحَطب سَبَب لاشتعال النَّار. (الكبائر للذهبي صـ183)

كيف نتعامل مع النمام ؟

(1) لا نصدق النَّمام لأنه مَردود الخبر .

قال الله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات:6)

(2) ننهاه عن النميمة، وننصحه بالحكمة والموعظة الحسنة.

قال سبحانه:(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل:125)

روى مسلمٌ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ، -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ.» (مسلم حديث:55)

(3) نبغض عَمَلَ الشخص النَّمام في الله تعالى.

(4) أن لا نظن السوء والشر في الشخص المنقول عنه النميمة.

قال سبحانه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)(الحجرات : 12)

(5) أن لا تحملنا هذه النميمة على التجسس على الناس .قال جَلَّ شأنه:(وَلَا تَجَسَّسُوا)(الحجرات : 12)

(6) أن لا نرضى لأنفسنا ما ننهى عنه النمام , فيجب علينا أن نلتزم الصمت، ولا نخبر أحداَ بهذه النميمة.(إحياء علوم الدين للغزالي جـ3 صـ:244)

روى الشيخانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ .( البخاري حديث 6018 / مسلم حديث 47 )

أسألُ الله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العُلى أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به المسلمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه .وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .وصلى اللهُ وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .