الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
عن أم سلمة قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع خصومه بباب حجرته، فخرج إليهم فقال: «إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضى له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها».
هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في ستة مواضع من صحيحه:
في كتاب المظالم، باب “إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه” برقم (2458)، وفي كتاب الشهادات باب “من أقام البينة بعد اليمين” برقم (2680)، وفي كتاب الحيل برقم (6967)، وفي كتاب الأحكام باب موعظة الإمام للخصوم برقم (7169)، وفي باب “من قُضي له بحق أخيه فلا يأخذه” برقم (7181)، وفي باب “القضاء في كثير المال وقليله” برقم (7185)، وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الأقضية باب “بيان أن حكم الحاكم لا يغير الباطن” برقم (4475).
وأخرجه الإمام أبو داود في كتاب القضاء باب “في قضاء القاضي إذا أخطأ” برقم (3583)، وأخرجه الإمام الترمذي في كتاب الأحكام باب “ما جاء في التشديد على من يُقضي له بشيء ليس له أن يأخذه” برقم (1339)، وأخرجه الإمام النسائي في الصغرى في كتاب آداب القضاة باب “الحكم بالظاهر” برقم (5403)، وباب “ما يقطع القضاء” برقم (5424)، أخرجه الإمام ابن ماجه في كتاب الأحكام، باب “قضية الحاكم لا تُحل حرامًا ولا تحرم حلالاً” برقم (2317)، وبرقم (2318) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرجه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه برقم (8375)، ومن حديث أم سلمة رضي الله عنها بأرقام (25546)، (26371)، (26497)، (26505)، (26596)، ط. دار الحديث.
رواية الحديث
قال الذهبي رحمه الله: السيدة المحجبة الطاهرة، هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة، المخزومية، بنت عم خالد بن الوليد، سيف الله، وبنت عم أبي جهل بن هشام.
من المهاجرات الأول، كانت قبل النبي صلى الله عليه وسلم عند أخيه من الرضاعة أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي، الرجل الصالح، دخل بها النبي صلى الله عليه وسلم في سنة أربع من الهجرة، وكانت من أجمل النساء وأشرفهن نسبًا، وكانت آخر من مات من أمهات المؤمنين، عُمِّرتْ حتى بلغها مقتل الحسين الشهيد رضي الله عنه، فحزنت لذلك حزنًا شديدًا، وغشي عليها، لم تلبث بعده إلا يسيرًا، وانتقلت إلى الله.
ولها أولاد صحابيون؛ عمر، وسلمة، وزينب، ثم قال الذهبي: وبعضهم أرخ وفاتها في سنة تسع وخمسين فوهم، والظاهر أن وفاتها في سنة إحدى وستين. رضي الله عنها.
شرح الحديث
قوله: “سمع خصومة”، وفي رواية: “سمع جَلَبةَ خصامٍ” والجَلَبَةُ: اختلاط الأصوات، وفي رواية لمسلم: “جلبة خصم”، والخَصْمُ: اسم مصدرٍ يستوي فيه الواحد والجمع والمثنى مذكرًا ومؤنثًا، ويجوز جمعه كما في هذه الرواية، وتثنيته كما في قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ}. قال الحافظ في الفتح: فأما الخصوم فوقع التصريح بأنهما كانا اثنين كما جاء في رواية أبي داود: “أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رجلان يختصمان”. وأما الخصومة فقد جاء في رواية عبد الله بن رافع أنها كانت في “مواريث لهما”.
قوله: “بباب حجرته”، وفي رواية لمسلم: “عند بابه” وفي أخرى: “بباب أم سلمة”.
قوله: “إنما أنا بشر”: أي كواحد من البشر في عدم علم الغيب، وإنما أتى به ردًا على من زعم أن من كان رسولاً فإنه يعلم كل غيب حتى لا يخفى عليه المظلوم.
قوله: “وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض”، وفي رواية الثوري في (ترك الحيل): “وإنكم تختصمون إليَّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض”. ومثله في رواية لمسلم، وألحن بمعنى أبلغ لأنه من لَحِنَ بمعنى فطن وعلى وزنه، والمراد أنه إن كان أفطن كان قادرًا على أن يكون أبلغ في حجته من الآخر.
قوله: “فأحسب أنه صادق”. وفي رواية معمر: “فأظنه صادقًا”. أي وربما كان في نفس الأمر كاذبًا.
قوله: “فأقضي له بذلك”. وفي رواية: “فأقضي له عليه على نحو مما أسمع”. وفي أخرى: “على نحو ما أسمع”. وفي رواية عبد الله بن رافع: “إني إنما أقضي بينكم برأيي فيما لم ينزل عليَّ فيه”.
قوله: “فمن قضيت له بحق مسلم”. وفي رواية مالك ومعمر: “فمن قضيت له بشيء من حق أخيه”. وفي رواية الثوري: “فمن قضيت له من أخيه شيئًا”. ووقع عند أبي داود عن محمد بن كثير شيخ البخاري فيه: “فمن قضيت له بقضية أراها يقطع بها قطعة ظلمًا فإنما يقطع له بها قطعة من نارٍ إِسْطامًا يأتي بها في عنقه يوم القيامة”. والإسْطَامُ: القطعة، فكأنه جاء بها تأكيدًا.
قوله: “فإنما هي قطعة من النارِ”: أي الذي قضيت له به بحسب الظاهر إذا كان في الباطن ونفس الأمر لا يستحقه فهو عليه حرام يئول به إلى النار.
قوله: “فليأخذ أو ليتركها”. وفي رواية يونس: “فليحملها أو ليذرها”. وفي رواية مالك: “فلا يأخذه”.
نقل الحافظ في الفتح عن ابن التين قوله: هو خطاب للمقضي له، ومعناه أنه أعلم من نفسه، هل هو محق أو مبطل، فإن كان محقًا فليأخذ، وإن كان مبطلاً فليترك، فإن الحكم لا ينقل الأصل عما كان عليه. وهذا ليس تخييرًا في الأخذ أو الترك ولكنه على سبيل التهديد، كقوله تعالى: {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}.
وقد تضمن هذا الحديث أمورًا عظيمة هي:
أولاً: بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه ليس ملكًا ولا من جنس غير البشر، وقد جاء ذلك صريحًا في كتاب الله تعالى كما في قوله سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} “الكهف: 110”.
وقوله تعالى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} “الأعراف: 188”.
وغير ذلك من الآيات، وإن كان صلوات الله وسلامه عليه متميز بخصائص تميزه عن بقية البشر صلوات الله وسلامه عليه كالرسالة والنبوة والتبشير والإنذار وغير ذلك من الخصائص الثابتة له صلى الله عليه وسلم .
ولقد بين صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وأمثاله ونبه على أنه بشر لا يعلم بواطن الأمور ولا من الغيب إلا ما أطلعه الله تعالى عليه، وأنه يجوز عليه صلى الله عليه وسلم في أمور الأحكام ما يجوز على البشر، وأنه يحكم بين الناس بالظاهر، والله يتولى السرائر، فيحكم بالبينة وباليمين ونحو ذلك من أحكام الظاهر مع إمكان كون الأمر بخلاف ذلك في الباطن، وأنه صلى الله عليه وسلم إنما كلف الحكم بالظاهر وذلك كقوله صلى الله عليه وسلم : “أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله”. وفي حديث المتلاعنيين قال صلى الله عليه وسلم : “لولا الإيمان لكان لي ولها شأن”.
ولو شاء الله تعالى لأطلعه على أمر الخصمين في الباطن وحقيقة الأمر فيحكم بيقين الوحي من غير أن يحتاج إلى بينة أو يمين، لكن لما كانت الأمة مأمورة باتباعه والاقتداء به في أقواله وأفعاله وأحكامه أجرى الله تعالى أحكامه على الظاهر الذي يستوي فيه هو وغيره ليصح الاقتداء به وتطيب نفوس العباد للانقياد للأحكام الظاهرة من غير نظر إلى الباطن، والعلم عند الله تعالى.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وجميع الأنبياء لا يعلمون الغيب، فكيف يصح لغير الأنبياء ادعاء ذلك، وهل يحصل من علم مدّعيه إلا التخرص واتباع الظن، أو التكهن وهو أيضًا ظن ومعلوم أن الظن أكذب الحديث، وأما علم صحيح متيقن متبينٌ فلا سبيل إليه، فليخسأ كل مدَّعٍ للغيب ممن يزعمون ما يسمى بالكشف أو غيرهم مما يوقعون العامة في أوهام ليسطوا على أموالهم فيأكلونها بالباطل ويخربون عقائدهم بإيهامهم أنهم يملكون لهم نفعًا أو ضرًا، فيقعونهم في الشرك بالله تعالى، فإن الله تعالى قد استأثر بعلم الغيب فقال تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : “مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}، وقال سبحانه وتعالى: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ}، إلى غير ذلك من الآيات.
قال الحافظ في الفتح بعد أن شرح الحديث: (تنبيه): زاد عبد الله بن رافع في آخر الحديث: “فبكى الرجلان، وقال كل منهما للآخر حقي لك، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : “أما إذا فعلتما فاقتسما وتوخيا الحق، ثم استهما ثم تحاللا”.
وفي الحديث أن من خاصم في باطل حتى استحق به في الظاهر شيئًا هو محرم عليه في الباطن فهو آثم، وذلك لاقتطاعه من حق أخيه بالكذب والبلاغة في الكلام، وفيه أيضًا أن من ادعى مالا ولم تكن له بينة فحلف المدعى عليه وحكم الحاكم ببراءة الحالف أنه لا يبرأ في الباطن، وفيه أنَّ من احتال لأمر باطل بأي نوع من أنواع الحيل حتى يصير في الظاهر حقًا ويحكم له به أنه لا يحل له تناوله في الباطن ولا يسقط عنه الإثم بالحكم، وفيه أن المجتهد قد يخطئ، فيردُّ بذلك على من زعم أن كل مجتهد مصيب، وفيه أن المجتهد إذا أخطأ فإنه لا يلحقه إثم بل يؤجر، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقضي بالاجتهاد وفيما لم ينزل عليه فيه شيء، وخالف في ذلك قوم، وهذا الحديث من أصرح ما يحتج به عليهم كذا قال الحافظ في الفتح.
وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى: وفي هذا الحديث دلالة لمذهب مالك والشافعي وأحمد وجماهير علماء المسلمين وفقهاء الأمصار من الصحابة والتابعين فمن بعدهم أن حكم الحاكم لا يحيل الباطن ولا يحل حرامًا، فإذا شهد شاهدًا زور لإنسان، بمال فحكم به الحاكم لم يحل للمحكوم له ذلك المال، ولو شهدا عليه بقتل لم يحل للولي قتله مع علمه بكذبهما، وإن شهدا بالزور أنه طلق امرأته لم يحل لمن علم بكذبهما أن يتزوجها بعد حكم القاضي بالطلاق، وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى يحل حكم الحاكم الفروج دون الأموال، فقال يحل نكاح المذكورة، وهذا مخالف لهذا الحديث الصحيح ولإجماع من قبله، ومخالف لقاعدة وافق هو وغيره عليها؛ وهي أن الأبضاع أولى بالاحتياط من الأموال، والله أعلم. اهـ.
وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر أصحاب الألسنة ممن يزورون الباطل ويجيدون الكلام بحيث يُلَبِّسون على القضاة الأمر فيكون أبلغ أو ألحن من خصمه فيحصل على مال حرام أو غير ذلك من الحقوق فإن هذا التحذير أولى به أولئك الذين يعملون بمهنة المحاماة، فإن الواحد منهم يعلم- غالبًا- أن ليس لموكله حق فيزور الكلام وينمقه حتى يكسب القضية، وللأسف تقاس مهارة المحامي بجودته في تغيير الحقائق والتلبيس على القضاة، ويفرض مبلغًا كبيرًا من المال مقابل أن يحصل على براءة الجاني وذلك بالبحث في ثغرات القانون البشري، فليتق الله كل مسلم وليحذر عقاب الله تعالى، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، وإن شهادة الزور وقول الزور من الكبائر بل من الموبقات التي توبق صاحبها وتورده نار جهنم، وحقوق العباد يجب أن تؤدى إليهم، ولا يحل لمسلم أن يقتطع من حق أخيه شيئًا، ولا يغترن من يجيد تنميق الكلام وتزويره بالقول الباطل، فإن البلاغة في القول لا تحل حرامًا ولا تحرم حلالاً، والعجب أن بعض هؤلاء يستمرئ الكذب، والزور حتى يكاد يصدق نفسه، ويوهم غيره أنه صادق وهو من أكذب خلق الله تعالى.
نسأل الله تعالى أن يهدي قلوبنا وأن يجنبنا والمسلمين الزلل ومزالق الألسنة والغش والخداع، وأن يثبت قلوبنا على دينه، وأن يلهمنا رشدنا وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.