الشفاعة (3)

قال تعالى : { أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلاَ يَعْقِلُونَ * قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [ الزمر : 43، 44 ] ، وقال تعالى : { مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } [ يونس : 3 ] .

فالشفاعة لمن له ملك السماوات والأرض ، وله الشفاعة وحده ، قدرها ليرحم عباده ، فيأذن لمن يشاء أن يشفع فيمن يشاء ، فصارت الشفاعة في الحقيقة إنما هي له ، والذي يشفع عنده إنما يشفع بإذنه وأمره سبحانه ، ولا يشفع إلا لمن أذن بالشفاعة له ، فهذه هي الشفاعة الحقة ، وهي ضد الشفاعة الشركية التي أبطلها رب العالمين ، وتعلق بها المشركون : { وَاتَّقُواْ يَوْمـًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئـًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ } [ البقرة : 123 ] ، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ } [ البقرة : 254 ] .

فالشفاعة بإذنه ليست شفاعة من دونه : { مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ } [ السجدة : 4].

فشفاعة الشريك ، أو المالك ، أو الظهير أبطلها اللَّه سبحانه ، والشفاعة المثبتة شفاعة العبد المأمور المطيع لسيده ، فلا يتقدم بين يدي سيده بشفاعة حتى يأذن له سيده ومولاه ويرضى منه الشفاعة ، ولذا كانت ألفاظ حديث الشفاعة موضحة بقول النبي – صلي الله عليه وسلم -: (( فأسجد عند العرش ، فيدعني ما شاء اللَّه أن يدعني ، فيلهمني ربي بمحامد لم يلهمها لأحد من قبلي ، ثم يقول : ارفع محمد ، وقل يسمع ، واشفع تشفع ، وسل تعط ، فأرفع رأسي ، فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه ، ثم أشفع )) .

فتدبر ذلك ، واعلم أنه لا يشفع نبي ، أو رسول ، ولا مَلك ، أو مؤمن ، أو شهيد ، إلاَّ بعد أن يقال له : اشفع ، وعلى ذلك تحمل جميع النصوص الواردة في الشفاعة ، لكن المشركين يظنون شفاعة الآخرة كشفاعاتهم في الدنيا ، يشفع عنده وهو كاره للشفاعة ، فيرضخ لشفاعته، ولو كارهـًا ؛ لأنه ذو ملك أو سلطان أو صاحب منزلة يخشاها ، وكذلك شفاعة المؤمنين التي وردت في الحديث الطويل من قول النبي  – صلي الله عليه وسلم –  لأصحابه : (( فما أنتم بأشد لي مناشدة في الحق ، قد تبين لكم مَن المؤمن يومئذ للجبار ، وإذا رأوا أنهم قد نجوا في إخوانهم يقولون : ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويعملون معنا ، فيقول اللَّه تعالى : اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه ، ويحرم اللَّه صورهم على النار ، فيأتونهم وبعضهم قد غاب في النار إلى قدمه وإلى أنصاف ساقيه ، فيخرجون من عرفوا ، ثم يعودون ، فيقول : اذهبوا ، فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار فأخرجوه ، فيخرجون من عرفوا ، ثم يعودون فيقول : اذهبوا ، فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه ، فيخرجون من عرفوا ، فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون ، فيقول الجبار : بقيت شفاعتي ، فيقبض قبضة من النار فيخرج أقوامـًا قد امتحشوا ، فيلقون في نهر بأفواه الجنة يقال له : ماء الحياة ، فينبتون في حافته كما تنبت الحبة في حميل السيل )) .

وفي ذلك يقول اللَّه سبحانه : { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَ لِمَنِ ارْتَضَى } ، ويقول : { يَوْمَئِذٍ لاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } ، فاللَّه سبحانه علقها برضاه عن المشفوع له وإذنه للشافع ، فما لم يوجد مجموع الأمرين لم توجد الشفاعة ، وذلك لأن الأمر كله للَّه ، وأن الرسل والملائكة والمؤمنين عبيد للَّه لا يسبقونه بالقول ولا بالفعل إلا من بعد إذنه ، فهم مملوكون وهو ربهم ، وفي ذلك اليوم لا تملك نفس لنفس شيئـًا والأمر يومئذ للَّه .

أما الشفاعة التي يظنها المشركون في شركائهم ، حيث جهلوا حق الرب سبحانه وقاسوه على الخلق قياسـًا فاسدًا عبدوا به الأصنام ، فظنوا شفاعة شركائهم عند اللَّه من جنس شفاعة المخلوقين عند بعضهم ، فإن هؤلاء الخلق هم القائمون بمصالحهم وهم أعوانهم وأنصارهم ، ولولاهم لما ملكوا الناس ولا حكموا فيهم ، فحاجتهم إليهم تجعلهم يقبلون شفاعتهم ولو على كره منهم ، وإن لم يأذنوا فيها ولم يرضوا عن الشافع فلا يجدون بدًّا من قبول شفاعتهم وإلا تركوا طاعتهم وقدموا غيرهم ، لكن اللَّه غني عن الشريك والظهير والمعين ، ولو أهلكهم جميعـًا ما نقص ملكه ولا عزه ولا سلطانه مثقال ذرة .

وشفاعة الخلق قد تكون شفاعة عند من يكره المشفوع له ، لكن له عند الشافع مصالح لا تقضى إلا أن يرضى ، فهو يرضيه ، وقد يكون عند المشفوع عنده من المعارض ما يجعله يقبل الشفاعة ويكون المعارض قويـًّا قوة ترد بها الشفاعة ، أو ضعيفـًا فتقبل معه الشفاعة ، وليس شأن اللَّه كذلك ، فليس له عند خلقه رغبة ولا رهبة ، بل كل الخلق تحت قبضته وفي ملكه وتصرفه ، فلو شاء جعل الخلق كلهم طائعين ، ولو شاء لم يخلق معصية ، وكذلك فإنه سبحانه إن لم يخلق شفاعة الشافع ولم يأذن له ويحبها منه ويرضى فلا تقع أبدًا ، وشفاعة الشافع وإن كانت علوًّا لمنزلته إلا أنه امتثال لأمره وطاعة له ، وكل طاعة من العبد لربه رفعة . فشرف للعبد في عبوديته لربه .

لماذا كانت الشفاعة العظمى لنبي هذه الأمة ؟

ينبغي لكل عبد مستقيم أن يؤمن بأن اللَّه هو الحكم العدل ، وأنه لا يظلم أحدًا مثقال ذرة ، وليس عنده من فضل لأحد من خلقه إلا بالتقوى والعمل الصالح ، وأما التفضيل للذات بغير تقوى أو عمل صالح ، فذلك هو الذي انحرفت به بنو إسرائيل فقالوا : { نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] ، ففي سورة (( المائدة )) : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } [ المائدة : 18 ] .

ولذا فإن اللَّه ، عز وجل ، لم يفضل أمة لذاتها ، إنما فضل الأمة لعملها ، ولو فاقها غيرها في العمل لكان خيرًا منها ، قال تعالى : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } [ آل عمران : 110 ] .

قال ابن كثير : فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم في هذا الثناء عليهم والمدح ، كما قال قتادة : بلغنا أن عمر بن الخطاب ، رضي اللَّه عنه ، في حجة حجها رأى من الناس سرعة ، فقرأ هذه الآية : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } الآية . ثم قال : من سره أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط اللَّه فيها . رواه ابن جرير .

ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم اللَّه بقوله تعالى : { كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ } الآية [ المائدة : 79 ] .

ولهذا لما مدح تعالى هذه الأمة على هذه الصفات ، شرع في ذم أهل الكتاب وتأنيبهم .

وفي (( التفسير الكبير )) : قال بعضهم : لو شاء اللَّه تعالى لقال : (( أنتم )) ، وكان هذا التشريف حاصلاً لكلنا ، ولكن قوله : { كُنتم } مخصوص بقوم معينين من أصحاب الرسول  – صلي الله عليه وسلم –  ، وهم السابقون الأولون ومن صنع مثل ما صنعوا .

( وقال أيضـًا ) : ثم ذكر عقيب هذا الحكم هذه الطاعات ، أعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان ، فوجب كون تلك الخيرية معللة بهذه العبادات .

وكذلك هذه الأمة قامت بمهمة الرسل بعد رسولها  – صلي الله عليه وسلم –  ، فكانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويدعون إلى الإيمان باللَّه تعالى ، وقد كانت قبلهم الأمم كلما قضى رسول بعث اللَّه نبيـًّا ورسولاً ، كما أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة ، رضي اللَّه عنه ، قال رسول اللَّه  – صلي الله عليه وسلم –  : (( كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي ، وأنه لا نبي بعدي )) . فقاموا بعمل الأنبياء ، حتى قالت الأمم – كما جاء في حديث الشفاعة الطويل عند أحمد -: (( كادت هذه الأمة أن يكونوا أنبياء كلهم )).

ولذا قال تعالى : { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا } [ النساء : 140 ] ، فكل من اتصف بالكفر أو النفاق فهو في جهنم .

فهذه الأمة مفضلة لا بذاتها ، بل بأعمالها وصفاتها ، ولزومها أمر ربها ، واقتفائها أثر نبيها ، ودعوتها للناس ، وبذل حياتهم في ذلك ، فقام علمائهم مقام أنبياء الأمم السابقة ، لذا وقع التفضيل لهم ، فكذلك الشفاعة العظمى والمقام المحمود للنبي  – صلي الله عليه وسلم –  إنما استحقه تفضلاً من اللَّه ، ومنة لأعمال عملها ، رفعه اللَّه تعالى هذه المكانة لهذه الأعمال .

أولاً : كل نبي كان يُبعث إلى قومه خاصة ، وبعث النبي  – صلي الله عليه وسلم –  للناس كافة ، بل بعث للإنس والجن عامة ، فكذلك له الشفاعة العامة كما كانت له الرسالة العامة .

ثانيـًا : أتباع هذا النبي والداخلين الجنة منهم هم أكثر الأمم ؛ لحديث النبي  – صلي الله عليه وسلم –  الذي أخرجه الشيخان من رواية ابن عباس ، رضي اللَّه عنهما ، قال : قال رسول اللَّه  – صلي الله عليه وسلم –  : (( عرضت عليَّ الأمم ، فرأيت النبي ومعه الرهيط ، والنبي ومعه الرجل والرجلان ، والنبي وليس معه أحد ، إذ رفع لي سواد عظيم ، فظننت أنهم أمتي ، فقيل لي : هذا موسى وقومه ، ولكن انظر إلى الأفق  فنظرت فإذا سواد عظيم ، فقيل لي : انظر إلى الأفق الآخر ، فإذا سواد عظيم ، فقيل لي : هذه أمتك )) .

ولما كان الدال على الخير كفاعله، ومن سن سنة حسنة في الإسلام فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة كان – صلي الله عليه وسلم – له هذه الأجور المضاعفة، وكانت له المكانة العالية (( المقام المحمود )).

ثالثـًا : أن النبي  – صلي الله عليه وسلم –  ادخر دعوته المستجابة لتكون يوم القيامة شفاعة، وذلك لما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة وأنس ، رضي اللَّه عنهما ، أن النبي  – صلي الله عليه وسلم –  قال : (( لكل نبي دعوة مستجابة واختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ، وهي نائلة إن شاء اللَّه من مات لا يشرك باللَّه شيئـًا )) .

قال ابن حجر : المراد بالإجابة في الدعوة المذكورة ؛ القطع بها ، وما عدا ذلك من دعواتهم فهو على رجاء الإجابة . وقيل : أفضل الدعوات ، وقيل : دعوة عامة مستجابة لأمته ، وتدبر أن دعوات النبي كانت على رجاء الإجابة لا على القطع بها ، فلقد دعا على أقوام بالإهلاك فقال له رب العزة سبحانه : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } [ آل عمران : 128 ] ، وجاء في الحديث الصحيح : (( سألت ربي ثلاثـًا فأعطاني اثنين ومنعني واحدة )) .

فكانت سائر الدعوات على رجاء الإجابة ، أما الدعوة المستجابة فادخرها النبي  – صلي الله عليه وسلم –  شفاعة للأمة يوم القيامة .

الشفاعة الحقة وإنكار أهل الضلال :

أخرج مسلم في (( صحيحه )) في كتاب الإيمان ، باب : خروج عصاة المؤمنين من النار ، بسنده عن يزيد الفقير قال : كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج ، فخرجنا في عصابة ذوى عدد نريد أن نحج ، ثم نخرج(1) على الناس ، قال : فمررنا على المدينة ، فإذا جابر بن عبد اللَّه يحدث القوم جالسـًا إلى سارية عن رسول اللَّه  – صلي الله عليه وسلم –  قال : فإذا هو قد ذكر الجهنميين قال : فقلت له : يا صاحب رسول اللَّه ، ما هذا الذي تحدثون ، واللَّه يقول : { إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } [ آل عمران : 192 ] ، و{ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا } [ الحج : 22 ] ، فما هذا الذي تقولون ؟ قال : فقال : أتقرأ القرآن ؟ قلت: نعم، قال: فهل سمعت بمقام محمد – صلي الله عليه وسلم – يعني الذي يبعثه اللَّه فيه ؟ قلت : نعم ، قال : فإنه مقام محمد  – صلي الله عليه وسلم –  المحمود الذي يُخرج اللَّه به من يُخرج ، قال : ثم نعت وضع الصراط ومر الناس عليه ، قال : وأخاف ألا أكون أحفظ ذلك ، غير أنه قد زعم أن قومـًا يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها ، قال : يعني فيخرجون كأنهم عيدان السماسم(2) ، قال : فيدخلون نهرًا من أنهار الجنة فيغتسلون فيه ، فيخرجون كأنهم القراطيس ، فرجعنا ، قلنا : ويحكم ، أترون الشيخ يكذب على رسول اللَّه  – صلي الله عليه وسلم –  ، فرجعنا فلا واللَّه ما خرج منا غير رجل واحد .

قال ابن حجر في (( الفتح )): إن الخوارج الطائفة المشهورة المبتدعة كانوا ينكرون الشفاعة، وكان الصحابة ينكرون إنكارهم ويحدثون بما سمعوا من النبي – صلي الله عليه وسلم – في ذلك .

( ثم ذكر ) حديث البيهقي ، قال : ذكروا عند عمران بن حصين الشفاعة ، فقال رجل : إنكم لتحدثون بأحاديث لا نجد لها في القرآن أصلاً ، فغضب وذكر له ما معناه : إن الحديث يفسر القرآن .

ثم ذكر ابن حجر ، عن أنس قال : من كذب بالشفاعة فلا نصيب له فيها .

( ثم ذكر ) عن البيهقي عن ابن عباس : خطب عمر فقال : إنه سيكون في هذه الأمة قوم يكذبون بالرجم ، ويكذبون بالدجال ، ويكذبون بعذاب القبر ، ويكذبون بالشفاعة ، ويكذبون بقوم يخرجون من النار .

( ثم ذكر ) عن أنس قال : يخرج من النار ولا نكذب بها كما يكذب بها أهل حروراء ؛ يعني الخوارج .

قال ابن بطال : أنكرت المعتزلة والخوارج الشفاعة في إخراج من أدخل النار من المذنبين وتمسكوا بقوله تعالى : { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } [ المدثر : 48 ] ، وغير ذلك من الآيات . وأجاب أهل السنة بأنها في الكفار ، وجاءت الأحاديث في إثبات الشفاعة المحمدية متواترة ، ودل عليها قوله تعالى : { عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا } [ الإسراء : 79 ] ، والجمهور على أن المراد به الشفاعة ، وبالغ الواحدي فنقل فيه الإجماع .

أنواع الشفاعة :

الأولى : الشفاعة في إراحة أهل الموقف بالإذن في الفصل والحساب ، ودليلها حديث الشفاعة الطويل المشهور الذي يتنحى فيه عن الشفاعة الأنبياء والمرسلون ، ثم يقول  – صلي الله عليه وسلم –  : (( أنا لها ، أنا لها )) . ثم يشفع فيُشفع .

والثانية : في استفتاح الجنة ، وفيه حديث أبي هريرة الطويل الذي جاء فيه : (( بك أمرنا أن نفتح )) .

والثالثة : شفاعته لقوم استوت حسناتهم وسيئاتهم أن يدخلوا الجنة .

والرابعة : شفاعته لقوم من العصاة من أمته قد استوجبوا النار بذنوبهم فيشفع لهم أن لا يدخلوها .

الخامسة : شفاعته لقوم من أهل الجنة في زيادة مراتبهم ورفع درجاتهم .

السادسة : شفاعته في العصاة من أهل التوحيد الذين يدخلون النار بذنوبهم فيخرجهم اللَّه بشفاعته رحمة منه سبحانه ، ثم يدخلهم الجنة .

السابعة : شفاعته في أبي طالب أن يخفف اللَّه عذابه في النار ، فيكون في ضحضاح النار ، بعد أن كان في غمرات النار .

الثامنة : شفاعته لمن قال : لا إله إلا اللَّه ، ولم يعمل خيرًا قط ، وهذه لمن قالها خالصة من قلبه ، وهي التي يقول له رب العزة سبحانه فيها : (( ليس ذلك إليك )) ، ويخرجهم رب العزة برحمته فيدخلهم الجنة .

وشفاعة النبي  – صلي الله عليه وسلم –  لأبي طالب ثابتة بالأحاديث الصحيحة وهي شفاعة لكافر لم تخرجه من النار ، ولذا قال ابن حجر في (( الفتح )) : الشفاعة في الكفار إنما امتنعت لوجود الخبر الصادق في أنه لا يشفع فيهم أحد وهو عام في حق كل كافر فيجوز أن يخص منه من ثبت الخبر بتخصيصه . قال : وحمله بعض أهل النظر على أن جزاء الكفار من العذاب يقع على كفره وعلى معاصيه ، فيجوز أن اللَّه يضع عن بعض الكفار بعض جزاء معاصيه تطييبـًا لقلب الشافع لا ثوابـًا للكافر ؛ لأن حسناته صارت بموته على الكافر هباءً ، ثم قال : إن المخفف عنه – يعني أبا طالب – لم يجد أثر التخفيف ، فهو يعتقد أن ليس في النار أشد عذابـًا منه ، وذلك أن القليل من عذاب جنهم لا تطيقه الجبال ، فالمعذب لاشتغاله بما هو فيه يصدق عليه أنه لم يحصل له انتفاع بالتخفيف . ( انتهى مختصرًا ) .

وحب النبي  – صلي الله عليه وسلم –  من أجلِّ القربات إلى اللَّه وسبب لرفع درجات العبد في الجنة بشرط أن يكون مقرونـًا بالتوحيد ، فإن المشرك لا ينفعه حب النبي  – صلي الله عليه وسلم –  ، ولذا لم يخرج أبو طالب من النار رغم فرط حبه للنبي  – صلي الله عليه وسلم –  ، بل مات كثير من المشركين في مكة وهم يحبون النبي  – صلي الله عليه وسلم –  ويحبون صدقه وأمانته ، ومع ذلك لم ينفعهم ذلك الحب ، ولا تنالهم الشفاعة ، والحديث الصحيح في ذلك واضح : (( أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال : لا إله إلا اللَّه خالصـًا من قلبه )) .

أخرج البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن النبي  – صلي الله عليه وسلم –  قال : (( إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم إلى بعض ، فيأتون آدم فيقولون : اشفع لذريتك ، فيقول : لست لها ، ولكن عليكم بإبراهيم ، فإنه خليل اللَّه ، فيأتون إبراهيم ، فيقول : لست لها ، ولكن عليكم بموسى ، فإنه كليم اللَّه فيؤتى موسى فيقول : لست لها ، ولكن عليكم بعيسى ، فإنه روح اللَّه وكلمته ، فيؤتى عيسى ، فيقول : لست لها ، ولكن عليكم بمحمد ، فأوتى فأقول : أنا لها ، ثم أنطلق فأستأذن على ربي ، فيؤذن لي فأقوم بين يديه فأحمده بمحامد لا أقدر عليها إلا أن اللَّه يلهمنيها ، ثم أخر لربنا ساجدًا ، فيقول : يا محمد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع لك ، وسل تعطه ، واشفع تشفع ، فأقول : يا رب ، أمتي ، أمتي . فيقول : انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منها ، فأنطلق فأفعل ، ثم أرجع إلى ربي فأحمده بتلك المحامد ، ثم أخر له ساجدًا ، فيقول لي : يا محمد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع لك ، وسل تعطه ، واشفع تشفع ، فأقول : يا رب ، أمتي ، أمتي . فيقال لي : انطلق ، فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها ، فأنطلق فأفعل ، ثم أعود إلى ربي أحمده بتلك المحامد ، ثم أخر له ساجدًا فيقال لي : يا محمد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع لك ، وسل تعطه ، واشفع تشفع ، فأقول : يا رب ، أمتي ، أمتي . فيقال لي : انطلق ، فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار فأنطلق فأفعل )) .

زاد أبو سعيد ، رضي اللَّه عنه : (( ثم أرجع إلى ربي في الرابعة فأحمده بتلك المحامد ، ثم أخر له ساجدًا ، فيقال لي : يا محمد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع لك ، وسل تعطه ، واشفع تشفع ، فأقول : يا رب ، ائذن لي فيمن قال : لا إله إلا اللَّه ، قال : فليس ذلك لك ، أو قال : ليس ذلك إليك ، ولكن وعزتي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال : لا إله إلا اللَّه )) .

وفي رواية أخرى : أن كل نبي يذكر خطيئة إلا عيسى ، وأن آدم أحال على نوح . وفي رواية قال : (( ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن – أي وجب عليه الخلود )) . ثم تلا هذه الآية : { عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا } . قال : (( وهذا المقام المحمود الذي وعد نبيكم . زاد في رواية فقال : (( يخرج من النار من قال : لا إله إلا اللَّه ، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة )) .

( ثم قال ) : (( ما يزن برة )) . ( ثم قال ) : (( ما يزن ذرة )) . وفي رواية أبي هريرة : (( أن كل نبي يقول : إن ربي غضب اليوم غضبـًا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله )) . ( ثم يقول ) : (( نفسي نفسي نفسي )) . ( وجاء فيها ) : (( أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب )) . ثم قال : (( والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر )) ، أو (( كما بين مكة وبصرى )) .

وأخرج مسلم عن حذيفة وأبي هريرة ، رضي اللَّه عنهما ، قالا : قال رسول اللَّه  – صلي الله عليه وسلم –  : (( يجمع اللَّه تبارك وتعالى الناس فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة فيأتون آدم فيقولون : يا أبانا ، استفتح لنا الجنة ، فيقول : وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم ؟ لست بصاحب ذلك ، اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل اللَّه ، قال : فيقول إبراهيم : لست بصاحب ذلك ، إنما كنت خليلاً من وراء وراء ، اعمدوا إلى موسى الذي كلمه اللَّه تكلميـًا ، قال : فيأتون موسى ، فيقول : لست بصاحب ذلك ، اذهبوا إلى عيسى كلمة اللَّه وروحه ، فيقول عيسى : لست بصاحب ذلك ، فيأتون محمدًا  – صلي الله عليه وسلم –  فيقوم فيؤذن له وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط يمينـًا وشمالاً فيمر أولكم كالبرق )) . قال : قلت : بأبي وأمي ، أي شيء كمر البرق ، قال : (( ألم تروا إلى البرق وكيف يمر ويرجع في طرفة عين ؟ ثم كمر الريح ، ثم كمر الطير ، وشد الرجال تجري بهم أعمالهم ، ونبيكم قائم على الصراط يقول : رب سلم سلم ، حتى تعجز أعمال العباد ، حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفـًا ، قال : وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة ، بأخذ من أمرت به ، فمخدوش ناج ومكدوس في النار )) .

وأخرج البخاري ومسلم عن أنس، رضي اللَّه عنه، قال: قال رسول اللَّه – صلي الله عليه وسلم -: (( يقول اللَّه تعالى لأهون أهل النار عذابـًا: لو كانت لك الدنيا كلها وما فيها أكنت مفتديًا بها ؟ فيقول: نعم، فيقول: قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم؛ أن لا تُشرك بي ولا أدخلك النار، وأدخلك الجنة، فأبيت إلا الشرك )).

من يستعرض الحديث الطويل الذي روته كتب السنة في الشفاعة يلاحظ أن في الحديث اختصارًا ، ذلك أنه بدأ الحديث بذكر ما أصاب الناس من شدة يوم القيامة ، وأنهم ألهموا أن يطلبوا الشافع الذي يشفع لهم للنظر في الأعمال ، والفصل في القضاء لينصرفوا من الموقف من شدة ما يلقون فيه ، ثم يطلبون من آدم، ثم من نوح ، ثم من إبراهيم ، ثم من موسى ، ثم من عيسى ، عليهم السلام جميعـًا ، فيأبى كل واحد منهم ويستحي من ربه ولا يتعرض للشفاعة ويحيل على غيره ، ثم يذهبون إلى محمد  – صلي الله عليه وسلم – ، الذي يستأذن على ربه ويسجد فيشفع .

بعد ذلك السياق يقال له : (( يا محمد ، ارفع رأسك ، واشفع تشفع ، وقل يسمع لك ، وسل تُعط ، فيقول : أمتي ، أمتي . فيقال له : أخرج من النار من قال : لا إله إلا اللَّه ، وكان في قلبه مثقال حبة بر من خير )) .

فانظر كيف كان أول الحديث طلب الشفاعة للإذن في الفصل والحساب ، ثم يقول النبي  – صلي الله عليه وسلم –  : (( أنا لها ، أنا لها )) . ثم إذا أذن له في الشفاعة يقول : (( أمتي ، أمتي )) . ويقال له : (( أخرج من النار .. )) . وهذا يدل على أمور :

الأول : أن الشفاعة في القضاء قد تمت ، وأن اللَّه قد حاسب الخلائق ووزن عليهم الأعمال .

ثانيـًا : أن أهل الجنة قد دخلوا الجنة ، وأن أهل النار قد دخلوا النار ، وفي ذلك أيضـًا استفتاح الجنة بشفاعة النبي  – صلي الله عليه وسلم –  .

ثالثـًا : إذا كانت شفاعة النبي  – صلي الله عليه وسلم –  تبدأ في عصاة الموحدين بإخراج أصحاب البرة من الخير ، ثم الشعيرة ، ثم الخردلة ، أو الذرة ، فالذي يُفهم من ذلك أن أصحاب الدينار والدرهم ومن فوق البرة قد أخرجوا من النار ، وذلك أنهم يخرجون بشفاعات من المؤمنين والأنبياء والملائكة .

فكأن هذه الشفاعات تقع بين الشفاعة للإذن في الفصل في القضاء وبين الشفاعة لإخراج عصاة الموحدين من هذه الأُمة من النار .

معنى هذا أن النبي  – صلي الله عليه وسلم –  هو أول الشافعين ، وهو آخر الخلق شفاعة ، فله شفاعات متعددة يشفع فيها أولاً للخلائق ، فيأذن رب العزة فيفصل بينهم ، ثم يشفع فتفتح أبواب الجنة ، ثم يشفع فيعفى عن أقوام فيدخلون الجنة بغير سابقة عذاب ، وفيمن استوت حسناتهم وسيئاتهم فيدخلون الجنة ، وفي أقوام سحبوا إلى النار فيعفو عنهم ويدخلهم اللَّه الجنة.

فكانت المنزلة الرفيعة للنبي  – صلي الله عليه وسلم –  أن تقدم للشفاعة ، حيث تأخر غيره من الأنبياء ، وكذلك فيمن يخرجه اللَّه سبحانه بشفاعته من النار ممن لم يقدر خروجه بشفاعة غيره ، فإن كانت شفاعة غيره أخرج اللَّه بها أهل الدينار ونصف الدينار ، فإن شفاعة سيد الشفعاء يخرج اللَّه تعالى بها أهل البرة والشعيرة والخردلة والذرة من الخير .

وفي ذلك نلاحظ أيضـًا :

1- أن الشفاعة إنما هي منازل للشافعين ، فيأذن اللَّه سبحانه للشافعين بحسب منازلهم عنده ، حتى يعلي اللَّه ذكرهم ويرفع مقامهم أمام الخلائق يوم القيامة .

2- أن البقاء في النار لمن دخلوها إنما هو عذاب ، وعذاب النار لا يطاق ، فيبقى أصحاب الدينار في النار ما شاء اللَّه لهم أن يبقوا ، ثم يلهم اللَّه سبحانه المؤمنين فيشفعوا فيهم ، ويذكرهم بأصحابهم ممن كانوا معهم في صالح الأعمال من الصلاة والزكاة والصيام والمساجد والخيرات ، ثم يقبل اللَّه شفاعتهم فيهم ، ويأمرهم : أخرجوا منها من عرفتم ممن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان ، ويبقى من هو دون الدينار يعذب في النار ، ثم يشفع المؤمنون عند ربهم في إخوانهم فيأذن اللَّه تعالى أن يخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال نصف دينار من الخير ، ويبقى من هو دون النصف دينار في النار يعذب حتى يأذن للنبي  – صلي الله عليه وسلم –  فيشفع عند ربه ، فيأذن له في أصحاب البرة ويبقى من دون البرة في النار، ثم يشفع ، وكل شفاعة يدع اللَّه سبحانه الشافع ما شاء أن يدعه ، وهؤلاء في النار يعذبون ، ثم يأذن اللَّه عز وجل فيخرج أصحاب الشعيرة ، ويبقى من دون الشعيرة في النار يعذب .. وهكذا حتى يقال له: (( أخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان)). أو قال : (( من خير )) .

3- نفهم من هذا أن عذاب النار قد قدره اللَّه على أقوام منهم يعذبون بالقدر الذي قدره ربه العزة عليهم ، ثم يخرجهم في الوقت الذي قدره سبحانه ، ولا ينبغي لعبد أن يستهين بعذاب النار ، بل ولا يستهين بشدة الموقف ، حيث إن الناس يطلبون الفصل لينصرفوا من الموقف من شدة ما هم فيه ، مع أن بعد الموقف جنة أو نار .

4- عذاب النار يبلغ إلى من قدره اللَّه سبحانه عليه ، فالشافعون يذهبون فيخرجون من النار من قد امتحشوا فيها ، فيخرجونهم ، ومع ذلك لا يصيب هؤلاء الشافعين من النار ولا لفحها شيئـًا ؛ لأن المقدر لذلك هو اللَّه .

5- الشفاعة ليست تغير أمر قد قدره اللَّه سبحانه ، بل هي وقوع القدر الذي قدره اللَّه سبحانه، فما بعث اللَّه الخلائق إلا لحسابهم ، ومع ذلك لا يأذن في الحساب إلا بشفاعة النبي  – صلي الله عليه وسلم –  ، فكأن الشفاعة إنما هي منزلة للشافع على الخلائق يوم الفصل والحساب .

6- أن الأنبياء وهم أعرف الخلق بربهم يستحون من أمور يذكرونها ويسمونها معاصي ، مع أن اللَّه سبحانه عصم الأنبياء ، ولو يؤاخذ بقية الخلق بمثل ما استحى منه الأنبياء لما كُتب لأحد من الخلق نجاة من النار .

7- أن أهل التوحيد هم الناجون، وأهل الشرك لا نجاة لهم، فلا يخرج من النار مشرك، ولا يخلد فيها موحد.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : كثير من العامة يقولون لمن توسل في دعائه بنبي أو غيره : قد تشفع به من غير أن يكون المتشفع به شفع له ولا دعا له ، بل قد يكون غائبـًا لم يسمع كلامه ولا شفع له ، وهذا ليس في لغة النبي  – صلي الله عليه وسلم –  وأصحابه وعلماء الأمة ، بل ولا في لغة العرب ؛ فإن الاستشفاع طلب الشفاعة .

والشافع : هو الذي يشفع للسائل فيطلب له ما يطلب من المسئول المدعو المشفوع إليه ، وأما الاستشفاع بمن لم يشفع للسائل ولو طلب له حاجة ، بل وقد لا يعلم بسؤاله فليس هذا استشفاعـًا لا في اللغة ولا في كلام من يدري ما يقول . نعم هذا سؤال به ودعاؤه ليس هو استشفاعـًا به .

ويقول شيخ الإسلام : ومعلوم أنه لو كان طلب دعائه وشفاعته واستغفاره عند قبره مشروعـًا لكان الصحابة والتابعون لهم بإحسان أعلم بذلك وأسبق إليه من غيرهم ، ولكان أئمة المسلمين يذكرون ذلك ، وما أحسن ما قال مالك : ( لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح أولها ) . قال: ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك.

واللَّه من رواء القصد .

——————-

(1) أي نخرج على الإمام علي بن أبي طالب ؛ لأن الخوارج استحلوا دماء المسلمين والخروج عليهم بالسيف .

(2) قال ابن حجر : هو ما ينبت فيه السمسم .