الشفاعة (2)

الحمد للَّه وحده الهادي لكل خير، والصلاة والسلام على محمد نبيه ورسوله وعبده الصادق الأمين، وبعد:

بعد أن ذكرنا ما أعان اللَّه ، عز وجل ، به في أمر الشفاعة في عددين سابقين؛ نورد إيضاحـًا لبعض المسائل الهامة ، نذكر فيها أقوال بعض أهل العلم ، لنجلي بها ، ونكشف ما اشتبه على بعض الناس .

الشفاعة ثابتة :

قال القاضي عياض في (( شرح مسلم )) ( ج1 ص565 ) : مذهب أهل السنة جواز الشفاعة عقلاً ، ووجوبها بصريح قوله تعالى : { لاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ } [ طه : 109 ] ، { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَ لِمَنِ ارْتَضَى } [ الأنبياء : 28 ] وأمثالها ، وبخبر الصادق سمعـًا، وقد جاءت الآثار التي بلغت بمجموعها التواتر بصحتها في الآخرة لمذنبي المؤمنين ، وأجمع السلف الصالح ومن بعدهم من أهل السنة عليها ، ومنعت الخوارج(2)  وبعض المعتزلة منها ، وتأولت الأحاديث الواردة فيها ، واعتصموا بمذاهبهم في تخليد المذنبين في النار ، واحتجوا بقوله : { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } [ المدثر : 48 ] ، وبقوله : { مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } [ غافر : 18 ] ، وهذه الآيات في الكفار ، وتأولوا أحاديث الشفاعة في زيادة الدرجات وإجزال الثواب ، وألفاظ الأحاديث التي في الكتاب وغيره تدل على خلاف ما ذهبوا إليه .

وينبغي ألا يستهين عبد بدخول النار ، ثم الخروج منها ؛ لأنه عذاب النار أليم يفوق كل نعيم الدنيا ، ولا يجوز لعبد أن يستهين بنعيم الجنة ودخولها ، ولو لحظة ؛ لأن لا طاقة لمن عرف الجنة ونعيمها أن يتحمل بقاءه خارجها ، وفي ذلك وردت نصوص شرعية كثيرة ؛ منها :

عن أنس ، رضي اللَّه عنه ، قال : قال رسول اللَّه  – صلي الله عليه وسلم – : (( يُؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة ، فيصبغ في النار صبغة ، ثم يُقال : يا ابن آدم ، هل رأيت خيرًا قط ؟ هل مر بك نعيم قط ؟ فيقول : لا واللَّه يا رب ، ويؤتى بأشد الناس بؤسـًا في الدنيا من أهل الجنة ، فيصبغ صبغة في الجنة ، فيقال له : يا ابن آدم ، هل رأيت بؤسـًا قط ؟ هل مر بك شدة قط ؟ فيقول : لا واللَّه يا رب ، ما مر بي بؤس قط ، ولا رأيت شدة قط)) . أخرجه مسلم (2807) .

أخرج البخاري ومسلم عن أنس يرفعه : (( أن اللَّه تعالى يقول لأهون أهل النار عذابـًا : لو أن لك ما في الأرض من شيء كنت تفتدي به ؟ قال : نعم : قال : فقد سألتك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب آدم ؛ أن لا تشرك بي ، فأبيت إلا الشرك ))(3).

تنبيه :

أولاً : في حديث أبي هريرة ، رضي اللَّه عنه ، الذي روى فيه قصة الشفاعة يوم القيامة ، أن المحامد التي يلهمها النبي  – صلي الله عليه وسلم – كانت بعد السجود ، وفي حديث أنس قبل السجود في حالة القيام ، وذلك يدل على أنه عليه الصلاة والسلام أكثر من التحميد والثناء في هذا المقام كله في قيامه وسجوده ، إلى أن أسعف في طِلْبته .

ومن المعلوم أن الآخرة دار جزاء ، فلا يظن أحد أن المحامد التي يقوم بها الشافعون تقربـًا لربهم ليشفعوا أنها من قبيل التكليف الذي يستلزم المشقة ، بل هو من قبيل التنعيم ، ويعين على فهم ذلك قول النبي  – صلي الله عليه وسلم – يصف أهل الجنة ، في الحديث الذي أخرجه مسلم في (( صحيحه )) من حديث جابر بن عبد اللَّه ، رضي اللَّه عنه : (( يأكل أهل الجنة فيها ويشربون ، ولا يتغوطون ، ولا يتمخطون ، ولا يبولون ، ولكن طعامهم ذاك جشاء كرشح المسك ، يلهمون التسبيح والحمد كما تلهمون النَّفس )) . ومعلوم أن العبد يجد السعادة في يسر تنفسه ، والشقاء في منع نفَسه من الخروج والدخول .

ثانيـًا : لا شك في أن الكفار متفاوتون في العذاب ، كما علم من الكتاب والسنة ، فمعلوم على القطع أن عذاب من قتل الأنبياء وفتك بالمسلمين ، وأفسد في الأرض ليس مساويـًا لعذاب من كفر فقط وأحسن معاملة المسلمين – مثلاً – فلم يسفك لهم دمـًا ، أو يهتك لهم عِرضـًا ، بل أحسن معاملتهم .

قال ابن حجر : تفاوت الكفار في العذاب لا شك فيه ، ويدل عليه قوله تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ } [ النساء : 145 ] .

فريق في الجنة وفريق في السعير :

اعلم أخا الإسلام : أن رب العزة سبحانه قضـى قضاءً قد فرغ سبحانه منه ، وذلك القضاء أن رب العزة سبحانه علم أهل الجنة من أهل النار، وكتبهم في كتاب عنده ، فلا يزاد عليهم ولا ينقص ، ونعلم أن أهل الجنة ينقسمون إلى قسمين :

الأول : الذين يدخلون الجنة بغير سابقة عذاب ، وهم أقسام :

 أ- الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب .

 ب- الذين قضى اللَّه عليهم الحساب فرجحت حسناتهم سيئاتهم .

 ج- الذين قضى اللَّه عليهم الحساب فرجحت سيئاتهم فأخذوا إلى النار ، ولكن تداركتهم رحمة ربهم فعفا عنهم ، أو قَبل فيهم شفاعة الشافعين ، فأدخلهم الجنة بغير سابقة عذاب .

الثاني : الذين يدخلون الجنة بعد قصاص في النار منهم ، فلا يُخلد في النار إلاَّ الكافر .

أخرج الترمذي عن عبد اللَّه بن عمرو قال : خرج علينا رسول اللَّه  – صلي الله عليه وسلم – وفي يده كتابان ، فقال : (( أتدرون ما هذان الكتابان ؟ )) فقلنا : لا يا رسول اللَّه ، إلا أن تخبرنا ، فقال للذي في يده اليمنى : (( هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ، ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدًا )) ، ثم قال للذي في شماله : (( هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار ، وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدًا )) . فقال أصحابه : ففيم العمل يا رسول اللَّه إن كان أمر قد فرغ منه ؟ فقال : (( سددوا ، وقاربوا ، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة ، وإن عمل أي عمل ، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل )) . ثم قام رسول اللَّه  – صلي الله عليه وسلم –  فنبذهما ، ثم قال : (( فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير )) .

وفي الحديث دلالة على أن أهل الجنة قد عرفهم رب العزة سبحانه ، فالشفاعة لا تزيد عددهم ولا تنقص منهم ، إنما هو إظهار القدر الذي قدره رب العالمين سبحانه ، حتى إنه يبقى بعد الشفاعات من هؤلاء الذين قضى اللَّه لهم بالجنة بقية في النار فيخرجهم رب العزة سبحانه بيده، وقد امتحشوا ولم يعملوا خيرًا قط .

هذا ، وإن رب العزة يقدر كل شيء ، فلا يقع شيء إلا بقدره ، فمن تلك المقادير التي يقدرها اللَّه سبحانه أن يُذكر المؤمنين في الجنة بإخوانهم الذين دخلوا النار ليشفعوا لهم عند اللَّه سبحانه ، كما جاء في الحديث الطويل عند البخاري برقم (7439) ، ومسلم برقم (183) مطولاً ، جاء فيه : (( حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة للَّه في استقصاء الحق من المؤمنين للَّه يوم القيامة لإخوانهم في النار ، يقولون : يا ربنا ، كانوا يصومون معنا ، ويصلون ويحجون ، فيُقال لهم : أخرجوا من عرفتم … )) إلى آخر الحديث الطويل . فيكون تقدير رب العالمين بأن يُذكر المؤمنين بعد دخول الجنة بإخوانهم فيشفعون لهم ، فكأن اللَّه يبقي في النار من يشاء ، ثم يُذكر بهم أهل الشفاعة ، ثم يأذن لمن يشاء ، وكذلك فهو يقدِّر أن يقول أهل النار من المشركين لبقية عصاة الموحدين (استوينا معكم في النار ) فما نفعكم إيمانكم ، فيغار رب العزة ويقول : (( وعزتي وجلالي لأخرجن منها من قال : لا إله إلا اللَّه )) . ولا يخلد في النار إلا المشركون ، إلا من حبسهم القرآن .

فانظر كيف قدر رب العزة على لسان أهل النار قولاً بعد كل تلك الشفاعات ليخرج سبحانه بقية من كتب لهم الجنة ، مع أنه يرد شفاعة النبي  – صلي الله عليه وسلم – فيهم ، لا يردها بقوله : لا يدخلون الجنة ، أو لا يخرجون من النار ، إنما يقول : (( هذه ليست لك )) ؛ لأنها للَّه وحده : { قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } .

ويقدر اللَّه عز وجل أن يبقى في النار مع المشركين أقوام شهدوا أن لا إله إلا اللَّه ولم يفعلوا خيرًا قط ، ويقدر اللَّه سبحانه أن يُعيرهم المشركون ويقولون لهم : ما نفعتكم لا إله إلا اللَّه ، فينادي رب العزة سبحانه ويقول : (( وعزتي وجلالي لأخرجن من النار من قال : لا إله إلا اللَّه خالصة من قلبه )) ، فيقبض رب العزة سبحانه من النار قبضة ، فيخرج أقوامـًا لم يفعلوا حسنة قط ، فيدخلهم الجنة ، وهؤلاء هم الذين سأل النبي  – صلي الله عليه وسلم – أن يشفع فيهم ، فقال له اللَّه سبحانه : (( هذه ليست لك )) . يعني أنها للَّه سبحانه ، وليست لأحد من الخلق .

بهذا نفهم قوله سبحانه : { قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } [ ص : 44 ] .

وبهذا يظهر ما سكت عنه حديث الشفاعة الطويل ووضحته أحاديث أخرى ، وكأن سبب ذلك أن راوي الحديث أنس بن مالك ، رضي اللَّه عنه ، طُلب منه أن يُحدث في ذلك الوقت عن الشفاعة التي أنكرها أهل البدع ، فاختصر الحديث هكذا .

إيضاح : يقول القاضي عياض في (( شرح مسلم )) ( ج1 ص566 ) : مجرد الإيمان ، الذي هو التصديق لا يتجزأ ، وإنما يكون هذا المتجزئ لشيء زائد عليه من عمل صالح ، أو ذكر خفي ، أو عمل من أعمال القلوب من شفقة على مسكين وخوف من اللَّه ، ونية صادقة في عمل فاته ، ويدل عليه قوله : (( وكان في قلبه من الخير ما يزن كذا وكذا )) . وكذلك في الحديث الطويل يقول اللَّه تعالى : (( شفعت الملائكة ، وشفع النبيون ، وشفع المؤمنون ، ولم يبق إلا أرحم الراحمين ، فيقبض قبضة من النار ، فيخرج منها قومـًا لم يعملوا خيرًا قط )) . وقوله في حديث أنس وغيره : (( لأخرجن من النار من قال : لا إله إلا اللَّه )) . فهؤلاء هم الذين معهم مجرد الإيمان ، وهم الذين لم يؤذن في الشفاعة فيهم لأحد من الخلق ، وإنما دلت الآثار أنه أذن لمن عنده شيء زائد من العمل على مجرد الإيمان ، وجعل للشافعين من الملائكة والنبيين دليلاً عليه ليعرفوه به ، وتفرد اللَّه جل جلاله بعلم ما تكنه القلوب والرحمة لمن ليس عنده سوى الإيمان ومجرد شهادة أن لا إله إلا اللَّه ، وضرب بمثقال الذرة وأدناها المثل لأقل الخير والشر ، إذ تلك أقل المقادير .

وقوله : (( من كان في قلبه كذا وكذا )) دليل على أنه لا ينفع من العمل إلا ما حضر له القلب وصحبته النية ، وفيه دليل على القول بزيادة الإيمان ونقصانه ، وهو مذهب أهل السنة . (انتهى بتصرف يسير ) .

وكلام القاضي عياض هام في بيان أن الإيمان المجرد هو يقين القلب بقول : لا إله إلا اللَّه ، لا مجرد نطق اللسان ، وأن ذلك وحده لا يكفي لدخول صاحبه في الشفاعة التي يأذن اللَّه فيها للخلق ، حتى يكون معها من العمل شيء ، وأن اللَّه يعرف الأنبياء والملائكة والشافعين ذلك العمل بأدلة يتعرفون عليهم بها ، ويبقى صاحب : لا إله إلا اللَّه ، الذي قالها خالصة من قلبه لا يخرجه من النار إلا اللَّه سبحانه .

قال تعالى : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا } [ الأنبياء : 47 ] ، وقال سبحانه : { فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [ الأنبياء : 47 ] .

وقال جل ذكره : { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [ الكهف : 49 ] ، وقال سبحانه : { إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } [ النساء : 40 ] ، وقال سبحانه على لسان لقمان الحكيم : { يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } [ لقمان : 16 ] .

هذه الآيات الكريمة الدالة على أن اللَّه سبحانه وتعالى يحاسب العبد على الذرة ولا يظلمه من الخير مثقال ذرة ، لا يتيسر فهمها إلا بإثبات نصوص الشفاعة السابقة ، حيث إنه سبحانه يقتص منهم في النار بعدله ، ثم يخرجهم فضلاً منه بشفاعة الشافعين فيدخلهم الجنة ، فالعدل من اللَّه سبحانه ، والفضل منه .

مصائب الدنيا كفارات :

أخرج أحمد برقم (26933) والترمذي وسند أحمد صحيح : أن رجلاً من أصحاب رسول اللَّه  – صلي الله عليه وسلم – جلس بين يديه فقال : يا رسول اللَّه ، إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصوني وأضربهم وأسبهم ، فكيف أنا منهم ؟ فقال له رسول اللَّه  – صلي الله عليه وسلم – : (( يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم فإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلاً لك عليهم ، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقُتص لهم منك الفضل الذي بقي قبلك )) . فجعل الرجل يبكي بين يدي رسول اللَّه  – صلي الله عليه وسلم – ويهتف، فقال رسول اللَّه  – صلي الله عليه وسلم – : (( ما له ! ما يقرأ كتاب اللَّه : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } )) . فقال الرجل: يا رسول اللَّه، ما أجد شيئـًا خير من فراق هؤلاء – يعني عبيده – إني أشهدك أنهم أحرار كلهم.

فينبغي للعاقل أن يتدبر في ذلك اليوم : { يَوْمَ الدِّينِ } ، واللَّه هو الملك فيه ، لا يملك معه أحدٌ شيئـًا ، إنما الملك كله للَّه سبحانه ، وهو لا يظلم شيئـًا ، ولو كان مثقال ذرة .

وهذا يجعلنا نفهم أن اللَّه يطهر المؤمنين قبل دخول الجنة ، وأن التطهير يقع للمؤمن منذ كان في الدنيا بما يصيبه من مصائب وآلام تحط ذنوبه ، ثم من بقي عليه من الذنوب طهره في قبره بعذاب القبر وفتنته ، ثم لمن بقي عليه من الذنوب بأهوال يوم القيامة ، ثم بالقصاص بين العباد ، فمن بقي عليه من الذنب ولم ينله من العفو دخل النار يتطهر فيها ، ثم يأذن اللَّه سبحانه له فيدخله في شفاعة من يشاء من الشافعين ، ولا يحبس في النار إلا الكافر الذي لم يشهد لربه بالوحدانية ، وذلك لأن اللَّه يجعل نعمه على عبده المؤمن صدقة منه عليه ، أما الكافر فإن اللَّه سبحانه لا يجعل نعمه عليه صدقة ، بل يؤاخذه بها ، فتكون أعماله التي هي من جنس الخيرات سراب لا ينفع ، ورماد اشتد به الريح في يوم عاصف ، فيجعلها اللَّه هباءً منثورًا ، لا يقدر منها على شيء ، وذلك لأن أصغر النعم لو وزنت أمام عمل العبد لرجحت النعمة ، وخفت أعمال العبد ، ولِمَ لا ؟ والعبد لا يبيع أي نعمة من : سمع ، أو بصر ، أو غيره بكنوز الأرض !!

أخرج أحمد في (( مسنده )) عن أبي عثمان قال : كنت مع سلمان الفارسي تحت شجرة ، وأخذ منها غصنـًا يابسـًا ، فهزه حتى تحات ورقه ، ثم قال : يا أبا عثمان ، ألا تسألني لِمَ أفعل هذا ؟ قلت : ولِمَ تفعله ؟ فقال : هكذا فعل رسول اللَّه  – صلي الله عليه وسلم – ، وأنا معه تحت شجرة ، فأخذ منها غصنـًا يابسـًا ، فهزه حتى تحات ورقه ، فقال : (( يا سلمان، ألا تسألني لِمَ أفعل هذا ؟ )) فقلت : ولِمَ تفعله ؟ قال : (( إن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم صلى الصلوات الخمس تحاتت خطاياه كما يتحات هذا الورق )) . وقال : { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَالسَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ }(4) .

وعن أنس ، رضي اللَّه عنه ، أن رسول اللَّه  – صلي الله عليه وسلم – أخذ غصنـًا فنفضه، فلم ينتفض ، ثم نفضه ، فلم ينتفض ، ثم نفضه ، فانتفض ، فقال رسول اللَّه  – صلي الله عليه وسلم – : (( إن سبحان اللَّه ، والحمد للَّه ، ولا إله إلا اللَّه ، واللَّه أكبر تنفض الخطايا كما تنفض الشجرة ورقها ))(5).

وفي البخاري ومسلم عن ابن مسعود، رضي اللَّه عنه ، قال : أتيت النبي  – صلي الله عليه وسلم – في مرضه وهو يوعك وعكـًا شديدًا ، وقلت : إنك لتوعك وعكـًا شديدًا ، قلت : إن ذاك بأن لك أجرين ؟ قال : (( أجل ، ‏ما من مسلم يصيبه أذى إلا حاتَّ الله عنه خطاياه، كما تتحات رق الشجر‏ ))(6).وأخرجا عن أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي  – صلي الله عليه وسلم – قال : (( ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر اللَّه بها خطاياه ))(7).

وأخرج مسلم في (( صحيحه )) عن أنس ، رضي اللَّه عنه ، قال : قال رسول اللَّه  – صلي الله عليه وسلم – : (( إن اللَّه لا يظلم مؤمن حسنة ؛ يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة ، وأما الكافر فيطعم بحسناته ما عمل بها للَّه في الدنيا ، حتى إذا قضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها )) .

رحمة اللَّه خير للعبد من عمله :

قال ابن القيم في (( مفتاح دار السعادة )) :

فما أصاب العبد مصيبة قط دقيقة ولا جليلة إلا بما كسبت يداه ، وما يعفو اللَّه عنه أكثر ، وما نزل بلاء قط إلا بذنب ، ولا رُفع بلاء إلا بتوبة ، ولهذا وضع اللَّه المصائب والبلايا والمحن رحمة بين عباده يكفر بها من خطاياهم ، فهي من أعظم نعمه عليهم وإن كرهتها أنفسهم ، ولا يدري العبد أي النعمتين عليه أعظم ؛ نعمته عليه فيما يكره ، أو نعمته عليه فيما يحب ، وما يصيب المؤمن من هم ولا وصب ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر اللَّه بها من خطاياه ، وإن كان للذنوب عقوبات ولا بد ، فكلما عوقب العبد من ذلك قبل الموت خير له مما بعده وأيسر وأسهل بكثير .

عن أبي هريرة ، رضي اللَّه عنه ، أن رسول اللَّه  – صلي الله عليه وسلم – قال : (( لن يُدخل أحدًا عمله الجنة )) . قالوا : ولا أنت يا رسول اللَّه ؟ قال : (( ولا أنا ، إلا أن يتغمدني اللَّه بفضل منه ورحمة ، فسددوا ، وقاربوا ، ولا يتمن أحدكم الموت ، إما محسنـًا فلعله أن يزداد خيرًا ، وإما مسيئـًا فلعله أن يستعتب ))(8).

وقال ابن القيم : إنه لولا رحمة اللَّه لعبده لما أدخله الجنة ؛ لأن العمل بمجرده ولو تناهى لا يوجب دخول الجنة ، ولا أن يكون عوضـًا لها ؛ لأنه لو وقع على الوجه الذي يحبه اللَّه لا يقاوم نعمة اللَّه ، بل جميع العمل لا يوازي نعمة واحدة ، فتبقى سائر نعمه مقتضية لشكرها ، وهو لم يوفها حق شكرها ، فلو عذبه في هذه الحالة فهو غير ظالم ، وإذا رحمه في هذه الحالة كانت رحمته خيرًا من عمله . اهـ .

ولا تعارض بين حديث : (( لن يدخل أحدًا عمله الجنة )) ، وبين قوله تعالى : { ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ النحل : 32 ] ، وقد فصل ذلك ابن القيم في (( مفتاح دار السعادة )) ، كما بينها ابن حجر في (( الفتح )) عند الحديث رقم (6463) ، ذكر من ذلك أوجه ؛ منها :

أولاً : أن التوفيق للعمل من رحمة اللَّه ، ولولا رحمة اللَّه السابقة ما حصل الإيمان ولا الطاعة التي يحصل بها النجاة .

ثانيـًا : أن العبد مكلف بطاعة سيده ؛ لأنه صاحب نعمة الإيجاد من عدم وسائر النعم عليه ، فما خلقه إلا لعبادته ، فمن سكن دارًا يملكها لم يطالب بأجر يدفعه ، فكذلك الخالق خلق الإنسان ليعبده ، فعليه أن يعبده ، ولا يستحق الأجر ، فإذا أعطاه الأجر فذلك محض فضل منه سبحانه .

ثالثـًا : أن دخول الجنة إنما يكون برحمته ، أما اقتسام الدرجات فيكون بالعمل ، فيكون الحديث عن الدخول ، والآية الكريمة عن المنازل في الجنة ، فلا تعارض .

رابعـًا : أن زمن الطاعة هو الحياة الدنيا القصيرة ، وزمن الإنعام لا ينتهي ، والنعيم لا ينفد، فالإنعام الذي لا ينفد فضل من اللَّه لا بمقابلة الأعمال .

خامسـًا : أن العمل بمجرده لا يكفي للثواب ، إلا أن يكون مقبولاً ، والقبول من اللَّه سبحانه ، فهو فضل من اللَّه سبحانه أن قبل من العبد من غير حاجة منه سبحانه ؛ لأنه غني عن طاعة الطائعين ، وعمل الخلق أجمعين .

هذا ، ولكن رحمة اللَّه يطلبها العبد بأسباب وأبواب ، فمن تتبع تلك الأسباب ودخل من تلك الأبواب نال من رحمة اللَّه سبحانه ومن تلك الأبواب الشفاعات ، ومن أسباب سعادة العبد بالشفاعة الإخلاص لحديث أبي هريرة السابق : (( أسعد الناس بشفاعتي من قال : لا إله إلا اللَّه خالصة من قلبه )) .

هذا ، وأحاديث الشفاعة كثيرة بلغت حد التواتر ، ونأمل أن نكون بكلماتنا هذه قد ميزنا الشفاعة الحقة التي هي للَّه كلها ، عن الشفاعة الباطلة التي ينسبها المشركون وأتباعهم من الجهلاء لمن يشركونهم مع اللَّه من البشر وغيرهم ، ونكون أيضـًا قد رددنا شبه من ينكرون الشفاعة الحقة ويتبعون سبل أهل الضلال في ذلك .

واللَّه من وراء القصد ، والحمد للَّه رب العالمين .

———————-

(1) نظرًا لأهمية أمر الشفاعة ، وكثرة كلام المضللين كتبنا هذه الإيضاحات لأمر الشفاعة ، حيث وافق صدور أعداد المجلة في الكلام عن الشفاعة  صدور بعض الصحف السيارة التي ذكرت ضلالات وخزعبلات حول الشفاعة ، وغرروا على بعض الجهلاء في ذلك .

(2) اعلم أن إثبات الشفاعة هو الذي عليه الإجماع ، وأن الإجماع لا يكون إلا بنص من قرآن أو سنة ، فيكون النص قطعي الثبوت ؛ لوروده بالقرآن الكريم ، وتواتر أحاديثه في السنة ، كما ذكر النووي ، رحمه اللَّه ، ويكون قطعي الدلالة ؛ لأن الإجماع يعني إثبات معنى قطعي لا يجوز القول بخلافه في إثبات الشفاعة ، وتنبه إلى أن الخوارج والمعتزلة من فرق الضلال، وأن مخالفة فرق الضلال لا تنقض الإجماع ، بل إذا علم المسلم مخالفة فرق الضلال تيقن أن قولهم باطل بلا شك ؛ لأن معنى مخالفة فرق الضلال أن أهل السنة عندهم الأدلة المستفيضة التي تقوم بها الحجة وتزول بها الشبهة ، وأنهم ردوا أقوال أهل الضلال في قرون العلم والخير، القرون الفاضلة الثلاثة الأولى ، فلا عبرة بأقوال فرق الضلال، ولا تنقض الإجماع.

(3 ) أخرجه البخاري (3334) ، ومسلم (2805) .

(4 ) أخرجه أحمد (24108، 24117) ، قال الزين : إسناده حسن من أجل علي بن زيد .

(5 ) (12562) ، قال الألباني في (( الصحيحة )) (3168) : حسن .

(6 ) أخرجه البخاري (5647) ، ومسلم (2571) .

(7 ) أخرجه البخاري (5641) ، ومسلم (2573) .

(8 ) أخرجه البخاري (5673) ، ومسلم (2816) .