مسائل في الأذان

عن أبي جحيفة – رضي الله عنه – قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بالأبطح في قبة حمراء من أدم وكان بالهاجرة ، ورأيت بلالاً خرج فنادى بالصلاة ، فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا بالأذان ، ثم دخل فأخرج فضل وضوء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، ورأيت الناس يبتدرون ذاك الوضوء ، فمن أصاب منه شيئًا تمسح به ، ومن لم يصب منه شيئًا أخذ من بلل يد صاحبه ، ثم رأيت بلالاً دخل فأخذ عَنَزَةً فركزها بين يدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، وأقام الصلاة ، وخرج النبي – صلى الله عليه وسلم – في حلة حمراء مشمرًا كأني أنظر إلى وبيص ساقيه ، فركز العنزة ، ثم صلى إلى العنزة بالناس الظهر ركعتين والعصر ركعتين ، ورأيت الناس والدواب ( وفي رواية : الحمار والمرأة ) يمرون بين يدي العنزة ( وقام الناس فجعلوا يأخذون يديه فيمسحون بها وجوههم ) . قال : فأخذت بيده فوضعتها على وجهي ، فإذا هي أبرد من الثلج ، وأطيب من رائحة المسك .

قوله : ( ورأيت بلالاً خرج فنادى بالصلاة فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا بالأذان ) يدل على مسائل منها :

الأذان قائمًا قال في ( عقد الجواهر ) : ( أنكر مالك أذان القاعد إلا من عذر ، يؤذن بنفسه إن كان مريضًا ) . وقال في ( المغني ) : وينبغي أن يؤذن قائمًا . قال ابن المنذر : أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن السنة أن يؤذن قائمًا ، وقال في ( بداية المجتهد ) : قال أبو عمر بن عبد البر : قد روينا عن أبي وائل بن حجر . قال : حق وسنة مسنونة ألا يؤذن إلا وهو قائم ، ولا يؤذن إلا على طهر ، قال : وأبو وائل هو من الصحابة ، وقوله : ( سنة ) يدخل في المسند وهو أولى من القياس .

وقال النووي في ( المجموع ) السنة أن يؤذن قائمًا مستقبل القبلة ، فلو أذن قاعدًا أو مضطجعًا أو إلى غير القبلة كره وصح أذانه ؛ لأنه المقصود ( الإعلام وقد حصل ) .

وقال السرخسي في ( المبسوط ) : ( ويكره الأذان قاعدًا ) لأنه في حديث الرؤيا قال : فقام الملك على خدم حائط . ولأن المقصود الإعلام ، وتمامه في حالة القيام ، ولكنه يجزئه لأن أصل المقصود حاصل .

والأحاديث كثيرة منها : حديث أبي داود عن عروة عن امرأة من بني النجار ، قالت : ( كان بيتي من أطول بيت حول المسجد ، وكان بلال يؤذن عليه الفجر ، فيأتي بسحر فيجلس على البيت ينظر إلى الفجر فإذا رآه تمطى …) ففيه دليل على قيامه بعد الجلوس .

وحديث ابن عمر عند البخاري : فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ( يا بلال قم فناد بالصلاة ) .

قال ابن حجر : قال عياض وغيره : فيه حجة لشرع الآذان قائمًا .

قلت : وكذا احتج ابن خزيمة وابن المنذر وتعقبه النووي بأن المراد بقوله : ( قم ) أي : اذهب إلى موضع بارز فناد فيه بالصلاة ليسمعك الناس . وقال : ليس فيه تعرض للقيام في حال الأذان ( انتهى ) .

وما نفاه ليس ببعيد من ظاهر اللفظ ، فإن الصيغة محتملة للأمرين . وإن كان ما قاله أرجح ، ونقل عياض أن مذهب العلماء كافة أن الأذان قاعدًا لا يجوز ، إلا أبا ثور ، ووافقه أبو الفرج المالكي ، وتعقب بأن الخلاف معروف عند الشافعية ، وبأن المشهور عند الحنفية كلهم أن القيام سنة . وأنه لو أذن قاعدًا صح .

والصواب ما قاله ابن المنذر أنهم اتفقوا على أن القيام سنة . ( انتهى من ( الفتح ) ) .

هل الأذان للصلاة أم للوقت ؟

فالأذان إعلام بدخول وقت الصلاة ، والإقامة إعلام بحضور فعل الصلاة .

قال في ( المغني ) : ويستحب أن يؤذن في أول الوقت ليعلم الناس فيأخذوا أهبتهم للصلاة .

وروى جابر بن سمرة قال : كان بلال لا يؤخر الأذان عن الوقت وربما أخر الإقامة شيئًا . انتهى .

معلوم من حديث عبد الله بن زيد أن الصحابة كانوا يتحينون الصلاة ، أي : يترقبون دخول وقتها ، فشرع الله الأذان تخفيفًا عليهم بإعلامهم وقتها ، وشرعت الإقامة للصلاة ، حيث يؤذن ثم ينتظر بقدر اجتماع الناس من غير مشقة عليهم ثم يقام للصلاة .

لذا أجمع العلماء على أن الأذان لا يكون إلا بدخول وقتها إلا الصبح الذي يجوز أن يؤذن قبل وقته ، والأحاديث دالة على أن الأذان للصبح في الوقت أيضًا إلا أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان في سفره يؤذن للصلاة وإن تأخر عن أول الوقت ، فإذا نزل منزلاً فجمع الصلاتين أذن أذانًا واحدًا .

وأقام لكل صلاة إقامة ، كما حدث في عرفة بين الظهر والعصر ، وفي مزدلفة بين المغرب والعشاء .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ( مجموع الفتاوى ) : لما ذهبت على البريد كنا نجمع بين الصلاتين ، فكنت أولاً أؤذن عند الغروب وأنا راكب ، ثم تأملت فوجدت النبي – صلى الله عليه وسلم – لما جَمعَ ليلة جَمْعٍ لم يؤذنوا للمغرب في طريقهم ، بل أخر التأذين حين نزل ؛ فصرت أفعل ذلك ؛ لأن في الجمع صار وقت الثانية وقتًا لهما ، والأذان إعلام بوقت الصلاة، ولهذا قلنا : يؤذن للفائتة ، كما أذن بلال لما ناموا عن صلاة الفجر لأنه وقتها ، والأذان للوقت الذي تفعل فيه لا الوقت الذي تجب فيه ( انتهى ) .

وفي ( صحيح مسلم ) عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال : كان بلال يؤذن إذا دحضت ، فلا يقيم حتى يخرج النبي – صلى الله عليه وسلم – ، فإذا خرج أقام الصلاة حين يراه . [ وقوله : دحضت أي زالت عن وسط السماء إلى جهة الغروب وهو أول وقت الظهر ] .

والحديث عند أبي داود وابن ماجه والبيهقي بلفظ : ( كان بلال لا يؤخر الأذان عن الوقت ، وربما أخر الإقامة شيئًا ) . وذلك يدل على أن الأذان في الحضر لا يؤخر اختيارًا عن أول الوقت ، وإنما ينتظر بالإقامة أن يجتمع الناس ، أو يفرغ الإمام إن كان في حاجة . خاصة أن الأذان يتعلق به أمور هامة منها : ( الإمساك عن الإغارة في الحرب على قوم إذا سمع الأذان عندهم . فكيف يؤخر الأذان في الحضر عن وقته والحال هكذا ؟ ) .

وإنما أخر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأذان في السفر لأن الأذان لتنبيه الناس للصلاة ، كما في حديث أبي جحيفة هذا حيث رمى الجمار عند الزوال ، ثم تأخر بالصلاة . والأذان حتى نزل الأبطح ، وكذلك ليلة النحر بمزدلفة ، وكذلك لما قام بلال حتى طعلت الشمس ، أما الإقامة فإنها تؤخر لاجتماع الناس .

قال ابن حجر : تنبيه : أخرج البيهقي عن سالم أبي النضر أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يخرج بعد النداء إلى المسجد ، فإذا رأى أهل المسجد قليلاً جلس حتى يجتمعون ثم يصلي.

وقال الشوكاني في ( الدرر البهية ) : يشرع لأهل كل بلد أن يتخذوا مؤذنًا أو أكثر ينادى بألفاظ الأذان المشروعة عند دخول وقت الصلاة .

وللحديث فوائد منها :

الأذان للصلاة في السفر ، وذلك ثابت بأحاديث كثيرة :

1- ما أخرجه البخاري ومسلم عن مالك بن الحويرث قال أتيت النبي – صلى الله عليه وسلم- في نفر من قومي ، فأقمنا عنده عشرين ليلة ، وكان رحيمًا رفيقًا ، فلما رأى شوقنا إلى أهلينا قال : ( ارجعوا فكونوا فيهم وعلموهم وصلوا ، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم ) وفي رواية : ( إذا أنتما خرجتما فأذنا ثم أقيما ثم ليؤمكما أكبركما ) .

2-  أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي ذر : كنا في سفر فأراد المؤذن أن يؤذن . فقال له: ( أبرد ) ، ثم أراد أن يؤذن فقال له : ( أبرد ) ، ثم أراد أن يؤذن فقال له : ( أبرد ) حتى ساوى الظل التلول ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( إن شدة الحر من فيح جنهم ) .

3-  عن عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي صعصعة وكان يتيمًا في حجر أبي سعيد ، وكانت أمه عند أبي سعيد . أن أبا سعيد قال له : إني أراك تحب الغنم والبادية ، فإذا كنت في غنمك وباديتك فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء ، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة . قال أبو سعيد . سمعته من رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.

ولقد ذهب النووي ، والأئمة : أبو حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم إلى مشروعية الأذان لكل أحد ، وحديث أبي سعيد نص في ذلك .

وأحاديث الأذان في السفر تبلغ حد التواتر المعنوي .

قال البغوي : أكثر أهل العلم اختاروا الأذان في السفر .

قال الشافعي : وترك الأذان في السفر أخف منه في الحضر ، وإنما قال ذلك لأن السفر يؤثر في تخفيف العبادات ، كما أثر في إباحة الفطر والقصر والجمع .

وقال أصحاب الرأي : تركه في الحضر أخف منه في السفر ، وذهب بعضهم إلى أنه يقيم في السفر ؛ لأن الأذان لجمع الناس وهم في السفر يكونون مجتمعين .

ومنها : دلالة على الاستدارة في الأذان عند الحيعلتين ، حيث أبو جحيفة – رضي الله عنه -: فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا بالأذان ، وإنما قلنا في الحيعلتين ، ففي رواية مسلم : ( فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا ، يقول يمينًا وشمالاً يقول : حي على الصلاة حي على الفلاح ) .

والاستدارة ثابتة بالرأس لا بكل البدن .

نكتة : قال في ( زاد المحتاج ) : الحاء والعين لا يجتمعان في كلمة أصلية لقرب مخرجهما ، إلا أن تؤلف كلمة من كلمتين ، كقولهم : ( حيعل )  فإنها مركبة من كلمتين : من حي على الصلاة ومن حي على الفلاح ، ومن المركب من كلمتين قولهم : حوقل : إذا قال : لا حول ولا قوة إلا بالله ، هكذا قال الجوهري وقال الأزهري وغيره : حولق بتقديم اللام على القاف فهي مركبة من حاء حول وقاف قوة ، وكقول : بسمله : ( إذا قال : بسم الله ) , وحمدله : ( إذا قال : الحمد لله ) .

والهيللة : ( إذا قال : لا إله إلا الله ) .

والجعفلة : ( إذا قال : جعلت فداك ) .

والطلبقة : ( إذا قال : أطال الله بقاءك ) .

الدمعزة : ( إذا قال : أدام الله عزك ) . ( انتهى ) .

ومنها : ينبغي المبادرة إلى المساجد عند سماع الأذان ، لا ينتظر إلا لحاجة .

قال ابن حجر: ( بين كل أذانين صلاة ) فيه حث على المبادرة إلى المسجد عند سماع الأذان لانتظار الإقامة؛ لأن منتظر الإقامة في صلاة، وفي الحديث أن الأذان لا يمنع الصلاة غير التي أذن لها، فيجوز التطوع بين الأذان والإقامة. أما الإقامة فهي تمنع كل صلاة غير المكتوبة.

ومن السنة أن يجعل المؤذن أصبعيه في أذنيه ، ففي رواية لحديث أبي جحيفة رضي الله عنه قال : ( وأصبعاه في أذنيه ) ، والرواية في غير ( الصحيحين ) ، وإنما ذكرها البخاري تعليقًا، ( ويذكر عن بلال أنه جعل أصبيعه في أذنيه ) .

قال ابن حجر : قال العلماء : في ذلك فائدتان : إحداهما : أنه قد يكون أرفع لصوته ، وفيه حديث ضعيف أخرجه أب+و الشيخ من طريق سعد القرظ عن بلال ، ثانيهما : أنه علامة للمؤذن ليعرف من رآه على بعد أو كان به صمم أنه يؤذن ، ومن ثم قال بعضهم : يجعل يده فوق أذنه حسب .

قال الترمذي : استحب أهل العلم أن يدخل المؤذن أصبعيه في أذنيه في الأذان . قال : واستحبه الأوزاعي في الإقامة .

تنبيه ) : لم يرد تعيين الأصبع التي يستحب وضعها ، وجزم النووي أنه المسبحة ، وإطلاق الأصبع مجاز عن الأنملة ( انتهى من ( الفتح ) ) .

خاتمة يتبين لنا مما سبق أن الأذان شعار أهل الإسلام ؛ لأنه الإعلام بمواقيت الصلاة ، وأنه شرع في السنة الأولى من الهجرة بألفاظ مخصوصة . وأن الصحابة كانوا حريصين على الخير لما قاله أبو جُحيْفة : ( رأيت بالاً يؤذن وأتتبع فاه ) أي أنظر إلى فيه متتبعًا ( هاهنا ) أي : يمنة ( وهاهنا ) أي : يسره ( وأصبعاه ) أي : إبهامهما . وقال النووي : هي المسبحات ( في أذنيه ) .

وقد دل الحديث على آداب المؤذن وهي : الالتفات إلى جهة اليمين ، وإلى جهة الشمال عند الحيعلتين ، وفائدة الالتفات أنه أرفع لصوت الؤذن ، ثم إنه علامة للمؤذن ليعرف من يراه على بعد ، أو من كان به صمم أنه يؤذن ، وأنه يُستحب أن يكون صوت المؤذن حسنًا . وأنه لا يُشرع لصلاة العيدين أذان ولا إقامة حيث إنه لم يؤثر عن المعصوم – صلى الله عليه وسلم- ، ولا عن خلفائه الراشدين ، وقد سبق في شرح حديث ( أبي محذورة ) حين أُعجُب النبي – صلى الله عليه وسلم – بصوته ، وعلمه الأذان ، وتوضيح مسائل الأذان الأخرى .

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .