الحمد لله رب العالمين ، قلوب العباد بين أصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء ، فهو سبحانه يهدي من يشاء ويضل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير ؛ لذا فلا يأس من قلب خمد وجمد وقسا وتبلد ، فإنه يمكن أن تدب فيه الحياة وأن يشرق فيه النور بعد ظلمة وأن يخشع لذكر الله بعد غفلة ، فالله الذي يحيي الأرض بعد موتها فتعود تنبض بالحياة وتزخر بالنبات والأزهار والثمار ، فكذلك هو سبحانه يحيي القلوب ؛ لذا قال الله سبحانه في سورة الحديد : ( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ(16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(17) )[الحديد :16 ، 17] .
أورد الذهبي في ميزان الاعتدال : قال : كان الفضيل بن عياض شاطرًا (1) يقطع الطريق بين أبيورد(2) وسرخس (3) ؛ وكان سبب توبته أنه عاشق جارية ، فبينا هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع تاليًا يتلو ( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ …) ، فلما سمعها قال : بلى يا رب قد آن ، فرجع فآواه الليل إلى خربة فإذا فيها سابلة (4) ، فقال بعضهم : حتى نصبح فإن فضيلاً على الطريق يقطع علينا .
قال : ففكرت وقلت : أنا أسعى بالليل في المعاصي وقوم من المسلمين هاهنا يخافونني ، وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع .
اللهم إني قد تبت إليك وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام فأصبح الفضيل بعد ذلك من أهل العلم والعبادة والورع .
وكذلك ما جاء في شأن الصحابي الجليل عكرمة بن أبي جهل : لما كان يوم الفتح – فتح مكة – ركب عكرمة بن أبي جهل هاربًا فهاج بهم البحر فجعل الناس يضجون بالدعاء ، يدعون الله ويوحدونه .
فقال عكرمة : ما هذا ؟ قالوا : هذا مكان لا ينفع فيه إلا الله .
قال : هذا إله محمد الذي يدعوننا إليه فارجعوا بنا فرجع فأسلم .
وكذلك ما كان من شأن أبي محذورة ، قال : خرجت في نفر فكنا ببعض طريق حنين فقفل رسول الله صلي الله عليه وسلم من حنين فلقينا رسول الله صلي الله عليه وسلم في بعض الطريق فأذن مؤذن رسول الله صلي الله عليه وسلم للصلاة فسمعنا صوت المؤذن ونحن متنكبون فصرخنا نحكيه ونستهزئ به فسمع النبي صلي الله عليه وسلم فأرسل إلينا إلى أن وقفنا بين يديه ، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع ) فأشار القوم كلهم إليَّ وصدقوا فأرسل كلهم وحبسني ، فقال : (قم فأذن بالصلاة) ، فقمت ولا شيء أكره إلى من النبي صلي الله عليه وسلم – ثم ذكر الأذان ثم قال – ثم دعاني حين قضيت التأذين فوضع يده على ناصيتي ونزل بها على وجهي ثم على صدري حتى بلغ بها سرتي فما رفعها حتى ذهب كل شيء كان لرسول الله صلي الله عليه وسلم من كراهية ، وعاد ذلك كله محبة للنبي صلي الله عليه وسلم .
وهذا عمير بن وهب تعاهد مع صفوان بن أمية – وكان كافرين – عند الكعبة على أن يقتل عُمَيْرٌ رسول الله صلي الله عليه وسلم ، ويكفل صفوان بنات عمير ويسد دينه فلما خرج بسيفه وقد أعده بالسم لقتل النبي صلي الله عليه وسلم ، فلما لقيه في المدينة ودعاه وكشف له أمره وعرفه أن الله أطلعه على ما يضمره ، أسلم وتعلق بالنبي صلي الله عليه وسلم حبًّا ، فأخذه الصحابة يعلمونه القرآن ، ثم عاد إلى مكة يدعو إلى الإسلام بعد أن كان قد جاء المدينة ليقتل الرسول عليه الصلاة والسلام .
وفي حديث الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار في قصة الرجل الذي عشق ابنة عمه وجلس منها مجلس الرجل من زوجته ، ثم قالت له : اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه ، قال : يا رب تركتها وتركت المال معها ، ثم قال : يا رب إن كنت فعلتُ ذلك ابتغاء مرضاتك فأزح عنا الصخرة .
هذه القصص وأضعافها والآلاف من أمثالها قد ضمنتها كتب السنة تدل على أن الله يهدي من عباده أقوامًا بعد معصية شديدة وبغض لدين الله ، وكفر وعصيان ، وفسق وإجرام ، واستحلال للأموال ، وغرق في الشهوات ؛ لأن قلوب العباد بين أصبعين من أصابعه ، فعلى العبد المسلم ألا ييأس من أحد في دعوته إلى الله وأن يحسن في دعوته ، لعل الله أن يلين قلبه للحق ويشرح صدره للإسلام فيدخله ويحسن إسلامه بعد كفر وفسوق .
فلا يترك من باب إلا دعا لله سبحانه .
أيها الأخ المسلم : فالواجب على كل المسلمين فتح باب الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة للناس جميعًا مهما كان بعدهم عن الدين ، أو انغماسهم في الشهوات ، أو صدهم عن الهدى ، أو تزعمهم لفرق الضلال ؛ لأن مفاتيح القلوب عند الله سبحانه ، ولكن علينا أن نؤدي الواجب علينا ، بالدعوة والدعاء فندْعو بالحكمة والموعظة الحسنة ، وندعو الله للعصاة بالتوبة وللكفار بالإسلام ، وللضالين بالهداية .
والله سبحانه إذا أراد بعبد خيرًا استجاب الدعاء وهداه وأرشده ، والله سبحانه يمتدح الواعظين المرشدين للعصاة والمذنبين في قوله تعالى : ( وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُون)[الأعراف :164 – 165] .
اللهم ردنا إلى الحق ردًّا جميلاً .
اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه .
آمين والله من وراء القصد
————————
(1) شاطر : لص يقطع الطريق .
(2) أبيورد : مدينة من مدن خراسان ولد فيها الفضيل بن عياض ومنها أبو مظفر الأبيوردي عالم اللغة والنسبه وصاحب التصانيف.
(3) سرخس : مدينة بين نيسابور ومومر على بعد ستة مراحل من نيسابور .
(4) سابلة : سافرون .