كان ما مضى من الحديث بياناً لما دعا إليه علماء التربية وأن للإسلام قصب السبق فيه والآن نسوق ما انفرد به الإسلام دون غيره من وسائل تربوية.
التربية بالحد(1) والتعزير(2).
إن وضع العقوبات على المخالفات أمر اتفقت عليه الشرائع السماوية والقوانين الوضعية. بل إن الأعراف والعادات ضمنت أيضاً شيئاً من العقوبات على المخالفات كذلك. إلا أن الإسلام- دين الله الخاتم- له في هذه الحدود التي سنها ميزات هامة. فإذا كانت هذه العقوبات زواجر تزجر من تسول له نفسه أن يقع في معصية.. فالإسلام إذ يدعو المسلم أن يعتقد في البعث والحساب وعرض الأعمال والوزن، فإن المسلم يعلم أنه إن أفلت من عقوبة الدنيا فلن يفلت من عقوبة الله تعالى في الآخرة. فإذا عوقب على معصيته بالحد الذي شرعه الله رفع ذلك عنه استحقاقه للعقوبة في الآخرة.. لحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كنا عند النبي – صلى الله عليه وسلم – في مجلس فقال بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا وقرأ هذه الآية كلها فمن وفى منكم فأجره على الله . ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارة له وطهور. ومن أصاب من ذلك شيئاً فستر الله عليه إن شاء غفر له وإن شاء عذبه (رواه البخاري).
ومن أقيم عليه الحد في عقوبة لا يجوز أن يعير (بالبناء للمجهول) بها بعد ذلك بل نحسن معاملته وندعو له بالمغفرة وحسن السيرة.
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – كان اسمه عبد الله وكان يلقب حماراً وكان يضحك رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – قد جلده في الشراب فأتي به يوماً فأمر به فجلد فقال رجل من القوم اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به. فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – لا تلعنوه والله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله(3) (رواه البخاري).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – بسكران فأمر بضربه فمنا من يضرب بيده ومنا من يضربه بنعله ومنا من يضرب بثوبه فلما انصرف قال رجل ماله أخزاه الله، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم (رواه البخاري) وفي رواية لأبي داود (ولكن قولوا اللهم اغفر له اللهم ارحمه).
فالحدود الشرعية تطهير من الذنوب وإصلاح للمجتمع وحماية للفضيلة وقضاء على الرذيلة. عن بريدة رضي الله عنه يروي خبر ماعز بن مالك لما جاء النبي – صلى الله عليه وسلم – معترفاً بالزنى قال: فأمر به فرجم فكان الناس فيه فرقتين: قائل يقول لقد هلك. لقد أحاطت به خطيئته. وقائل يقول ما توبة أفضل من توبة ماعز إنه جاء إلى النبي – صلى الله عليه وسلم- فوضع يده في يده ثم قال اقتلني بالحجارة، قال: فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثة ثم جاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهم جلوس فسلم ثم جلس فقال استغفروا لماعز بن مالك قال: فقالوا غفر الله لماعز بن مالك. قال فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم…
وساق أيضاً خبر الغامدية التي جاءت تعترف بالزنى حتى قال: وأمر الناس فرجموها فيقبل خالد بن الوليد بحجر فيرمي رأسها فتنضح الجم على وجه خالد فسبها فسمع نبي الله – صلى الله عليه وسلم – سبه إياها فقال:مهلاً يا خالد فو الذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس(4) لغفر له (رواه مسلم)(5).
والحدود الشرعية من عند الله فيتساوى فيها الشريف والوضيع. فلقد سرقت امرأة من بني مخزوم. فذهب رجال من قريش يشفعون لها فقال لهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تتطهر خير لها. وكان هيناً في رده عليهم ليناً في قوله إليهم حتى ظنوا أن لو كان الشافع غيرهم ممن يحبهم النبي – صلى الله عليه وسلم – لقبل منه. فتروي عائشة رضي الله عنها أن قريشاً أهمهم شأن المرأة التي سرقت في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – في غزوة الفتح فقالوا من يكلم فيها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ؟ فقالوا ومن يجتري عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأتى بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فكلمه فيها أسامة بن زيد فتلون وجه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال أتشفع في حد من حدود الله ؟ فقال أسامة استغفر لي يا رسول الله. فلما كان العشى قام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. وإني والذي نفسي بيده لوأن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها. ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها. قالت عائشة: فحسنت توبتها بعد وتزوجت وكانت تأتيني بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (رواه البخاري ومسلم واللفظ له). وجاء أنها كانت تقول ليدها تباً لك كنت ستأخذينني إلى النار.
هذا والحدود الشرعية حماية لأعراض الشرفاء من أهل العبث. فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما جاءه أربعة شهداء على المغيرة بن شعبة يرمونه بالزنى بامرأة،فلما اختلفت شهادتهم جلد عمر ثلاثة منهم كل واحد منهم ثمانين جلدة وترك الرابع لأنه لم يشاركهم في الشهادة .
ولقد روى أن رجلين استبا في زمن عمر فقال أحدهما للآخر (ما أنا بزان ولا أمي بزانية) فاستشار عمر الصحابة في قضيتهما فقال بعضهم مدح أباه وأمه. وقال الآخرون أما كان لأبيه وأمه مدح غير هذا؟ فجلده عمر ثمانين جلدة(6).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ولا يجوز أن يؤخذ من الزاني أو السارق أو الشارب أو قاطع الطريق ونحوهم مال تعطل به الحدود لا لبيت المال ولا لغيره، وهذا المال المأخوذ لتعطيل الحد سحت خبيث، وإذا فعل ولي الأمر ذلك فقد جمع فسادين عظيمين: أحدهما ، تعطيل الحد، والثاني أكل السحت، فترك الواجب وفعل المحرم.
قال تعالى: ( لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُون ) المائدة- 63 وقال تعالى عن اليهود ( سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) المائدة- 42 لأنهم كانوا يأكلون السحت من الرشوة التي تسمى البرطيل(7)وتسمى أحياناً الهدية وغيرها. ومتى أكل السحت ولي الأمر احتاج أن يسمع الكذب في شهادة الزور وغيرها وقد لعن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الراشي والمرتشي والرائش- الواسطة – الذي بينهما (رواه أصحاب السنن).
وفي الصحيحين (أن رجلين اختصما إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال أحدهما: يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله. فقال صاحبه- وكان أفقه منه-: نعم يا رسول الله! اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي فقال: قل. فقال: إن ابني كان عسيفاً في أهل هذا – يعني أجيراً – فزنى بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة وخادم وإني سألت رجالاً من أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم.فقال: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله: المائة والخادم رد عليك. وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام. واغد يا أنيس على امرأة هذا فاسألها فإن اعترفت فارجمها. فسألها فاعترفت فرجمها).
ففي هذا الحديث أنه لما بذل المال لدفع الحد عنه أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بدفع المال إلى صاحبه وأمر بإقامة الحد. ولم يأخذ المال للمسلمين. وقد أجمع المسلمون على أن تعطيل الحد بمال يؤخذ أو غيره لا يجوز. وأجمعوا على أن المال المأخوذ من الزاني والسارق والشارب والمحارب وقاطع الطريق ونحو ذلك لتعطيل الحد مال سحت خبيث. وكثير مما يوجد من فساد أمور الناس إنما هو لتعطيل الحد بمال أو جاه (انتهى كلام ابن تيمية من السياسة الشرعية).
فهذه حدود الإسلام أقامها الله حماية للوجود الإنساني. فهي تربية وتقويم يخافها من في طبعه ميل يغالبه نحو المعصية وهي كذلك تفتح باب الجنة لمن وقع فيها إن صدقت توبته بعدها. والله سبحانه قد أقامها على حرمات النفس والمجتمع:
فحد الردة حماية لحرمة الدين، وحد القتل، والقصاص حماية لحرمة النفس، وحد الخمر حماية لحرمة العقل. وحد الزنى والقذف حماية لحرمة الأعراض، وحد السرقة حماية لحرمة المال، وحد الحرابة لمن تسول لهم أنفسهم أن يشكلوا العصابات التي تنتهك سائر حرمات المجتمع وهي أشدها وأقساها وهي المذكورة في قوله تعالى ( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَو يُصَلَّبُوا أَو تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَو يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم ) المائدة-33. وللحديث بقية.
(1) الحدود عقوبات جعلت لمن ركب ما نهى الشرع عنه كحد السارق وهو قطع يمينه في ربع دينار فصاعداً.. (لسان العرب ص8..). والحدود زواجر وضعها الله تعالى للردع عن ارتكاب ما حظر وترك ما أمر به لما في الطبع من مغالبة الشهوات الملهية عن وعيد الآخرة بعاجل اللذة فجعل الله تعالى من زواجر الحدود ما يردع به ذا الجهالة حذراً من ألم العقوبة وخيفة من نكال الفضيحة ليكون ما حظر من محارمه ممنوعاً وما أمر به من فروضه متبوعاً فتكون المصلحة أعم والتكليف أتم (الأحكام السلطانية للماوردي). (2) التعزير ضرب دون الحد لمنع الجاني من المعاودة وردعه عن المعصية (لسان العرب ص2924) .
والتعزير تأديب على ذنوب لم تشرع فيها الحدود ويختلف حكمه باختلاف حاله وحال فاعله فيوافق الحدود من وجه وهو أنه تأديب واستصلاح وزجر يختلف بحسب اختلاف الذنب ويخالف الحدود في ثلاثة أوجه أحدها أن تأديب ذي الهيبة من أهل الصيانة أخف من تأديب أهل البذاءة السفاهة لقول النبي – صلى الله عليه وسلم – فيما رواه أبو داود: أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم (الأحكام السلطانية للماوردي) .
(3) في هذا الحديث فوائد تحتاج إلى بيان: منها أن التكنية هنا ذكرت (يلقب حماراً) للتعريف لكثرة من كان يسمى عبد الله. ولعله لقب بذلك في الجاهلية قبل الإسلام ثم سمي بعد الإسلام عبد الله كما غير النبي – صلى الله عليه وسلم – غيره من الأسماء ومنها (كان يضحك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ) حيث كان يهدي النبي – صلى الله عليه وسلم – السمن والعسل فإذا جاء صاحبها يطلب ثمنها ذهب به إلى رسول الله فقال له أعط هذا ثمن متاعه. فما يزيد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على أن يتبسم ويعطيه الثمن. وفيه عدم جواز تعيين المطلق في الوعيد من اللعن والتكفير وغيره. فمع أن حديث أنس عند الترمذي قال لعن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الخمر عشرة (عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشتراة له) إلا أن النبي – صلى الله عليه وسلم – نهى عن لعن هذا الرجل)يراجع في ذلك مقال تكفير المعين عدد شوال سنة 1403 لابن تيمية).
(4) صاحب مكس (بفتح الميم وسكون الكاف) هو من يأخذ الأموال بغير حقها ويصرفها في غير وجهها وهذا من أقبح المعاصي وذلك لكثرة مطالبات الناس له وظلاماتهم عنده وتكرر ذلك منه وفيه حديث أبي داود (لا يدخل الجنة صاحب مكس) (5) حديثا بريدة عند مسلم طويلان قد اقتطفت ذلك منهما فليراجعا.
(6) القصتان من تفسير المودودي لسورة النور نسبهما للجصاص في أحكام القرآن (7) البرطيل هو الحجر المستطيل سميت به الرشوة لأنها تلقم المرتشي فيسكت عن التكلم بالحق كما يلقمه الحجر الطويل.