التربية بين الأصالة والتجديد‏ (8) – من مواقف المعالجة والقضاء على الفتن

لقد كان للحديث عن أسباب الفتنة والتفرق في كلام النبي – صلى الله عليه وسلم – تنبيه خاص كحديث أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه قال: قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر (ثلاثاً)؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين. وجلس وكان متكئاً فقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت، رواه البخاري

قال الحافظ في الفتح( وأما قول الزور فالحوامل عليه كثيرة كالعداوة والحسد وغيرهما فاحتيج إلى الاهتمام بتعظيمه وليس ذلك لعظمه بالنسبة إلى ما ذكر معه من الاشتراك قطعاً بل لكون مفسدة الزور متعدية إلى غير الشاهد بخلاف الإشراك فإن مفسدته قاصرة غالباً.

ولقد كان أسلوب النبي – صلى الله عليه وسلم – يتناسب مع المواقف الخاصة حتى يصبح علاجاً وتقويما وسداً لباب الفتنة أو تثبيتاً للمسلمين الذين حسن إسلامهم، فكان يعامل خاصته من أولي العزائم القوية بما لا يعامل به غيرهم ومن أمثلة ذلك:

بعد عودة النبي – صلى الله عليه وسلم – من غزوة تبوك وقدومه المسجد دخل المنافقون الذين تخلفوا عن الغزوة- وكانوا بضعة وثمانين رجلاً- وأخذوا يعتذرون ويحلفون والنبي – صلى الله عليه وسلم – يقبل منهم علانيتهم ويستغفر الله لهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى . أما كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية وكانوا ممن حسن إسلامهم فلهم موقف آخر:

يقول كعب بن مالك (فجئت أمشي حتى جلست بين يدي النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك(1) ؟ قلت بلى إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر. ولقد أعطيت جدلاً ولكن والله قد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضي به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عفو الله. لا والله ما كان لي من عذر. والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت. فقال رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك). وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله بما اعتذر به المخلفون. قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله لك. فو الله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي ثم قلت لهم: هل لقى هذا معي أحد؟ قالوا: نعم رجلان قالوا مثل  ما قلت وقيل لهما مثل ما قيل لك. فقلت من هما قالوا مرارة بن الربيع العامري. وهلال بن أمية الواقفي. فذكروا لي رجلين صالحين شهدا بدرا فيهما أسوة.

ونهى رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – المسلمين عن كلامنا نحن الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم. وكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف الأسواق فلا يكلمني أحد. وآتي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلى، فسلمت عليه فو الله ما رد علي السلام، فقلت يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت فعدت له فنشدته فسكت فعدت له فنشدته فقال: الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار قال فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له حتى إذا جاءني دفع إلى كتاباً من ملك غسان فإذا فيه (أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك) فقلت لما قرأتها: وهذا أيضاً من البلاء قد بلغ بي ما وقعت فيه أن طمع في (بتشديد الياء) رجل من أهل الشرك، فتيممت بها التنور فسجرته بها(2). حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول لرسول الله  – صلى الله عليه وسلم – فقال: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال لا بل اعتزلها ولا تقربنها وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك، فقلت لامرأتي ألحقي بأهلك فتكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر. فلبث بعد ذلك عشر ليال حتى كملت خمسين ليلة من حين نهى رسول الله عن كلامنا فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله قد ضاقت على الأرض بما رحبت إذ سمعت صوت صارخ على جبل سلع بأعلى صوته يا كعب بن مالك أبشر فخررت ساجداً وعرفت أن جاء الفرج(3)

* ومن هذه المواقف ما كان في غزوة بني المصطلق عندما تزاحم الناس على الماء فاقتتل جهجاه (وكان أجيراً لعمر بن الخطاب) مع سنان بن يزيد فقال سنان يا معشر الأنصار وقال الجهجاه يا معشر المهاجرين،وزيد بن أرقم ونفر من الأنصار  عند عبد الله بن أبي (4) فلما سمعها قال: قد ثاورونا في بلادنا والله ما مثلنا وجلابيب قريش  هذه إلا كما قال القائل سمن كلبك يأكلك. والله لئن رجعنا إلى المدينة  ليخرجن الأعز منها الأذل. ثم أقبل على من عنده من قومه وقال: هذا ما صنعتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم. أما والله لو كففتم عنهم لتحولوا عنكم من بلادكم إلى غيرها.

فسمعها زيد بن أرقم  رضي الله عنه فذهب بها إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وعنده عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأخبره الخبر. فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله: مر عباد بن بشر فليضرب عنقه. فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فكيف إذا تحدث الناس يا عمر أن محمداً يقتل أصحابه؟ لا ولكن ناد يا عمر الرحيل، فلما بلغ عبد الله ابن أبي أن ذلك قد بلغ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أتاه فاعتذر إليه وحلف بالله ما قال ما قال عليه زيد بن أرقم، وكان عند قومه بمكان. فقالوا يا رسول الله عسى أن يكون هذا الغلام أوهم ولم يثبت ما قال الرجل . وراح رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مهجراً في ساعة كان لا يروح فيها، فلقيه أسيد بن الحضير رضي الله عنه فسلم عليه بتحية النبوة ثم قال: والله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها. فقال رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – أما بلغك ما قال صاحبك ابن أبي؟ زعم أنه إذا قدم المدينة سيخرج الأعز منها الأذل! قال: فأنت يا رسول الله العزيز وهو الذليل. ثم قال: أرفق به يا رسول الله فو الله لقد جاء الله بك وإنا لننظم له الخرز لنتوجه فإنه ليرى أن قد سلبته ملكاً. فسار رسول الله  – صلى الله عليه وسلم- بالناس حتى أمسوا وليلته حتى أصبحوا وصدر يومه حتى اشتد الضحى ثم نزل بالناس ليشغلهم عما كان من الحديث فلم يأمن الناس أن وجدوا مس الأرض فناموا ونزلت سورة المنافقون .

موقف عبد الله (5) من أبيه

أتى عبد الله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه فإن كنت لا بد فاعلاً فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه فو الله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار.

فقال رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – بل نترفق به ونحسن صحبته ما دام معنا. وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه. فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأنهم ترى يا عمر أما والله لو قتلته يوم قلت اقتله لأرعدت له آنف (6) لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته. قال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أعظم بركة من أمري .

* وفي قصة المرأة المخزومية(7) التي سرقت جاء رجال من قريش حديثو عهد بإسلام يشفعون لها عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فتلطف بهم وقال تتطهر خير لها فظنوا من تلطفه أن لو كانت الشفاعة من أحد المقربين له لقبل منهم. فطلبوا من أسامة بن زيد أن يشفع . فلما حدث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في شأنها غضب عليه وعنفه بقوله أتشفع يا أسامة في حد من حدود الله. ولامه حتى قال أسامة استغفر لي يا رسول الله.

هذا ومن قصص التربية في المواقف الخاصة ما كان من اعتزال النبي – صلى الله عليه وسلم- لنسائه شهراً لا يدخل عليهن بعد ما اجتمعن حوله يطالبنه بالتوسعة في النفقة ثم نزل قول الله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ). الأحزاب27- 28

تدبر جيداً في هذه المواقف وأثرها التربوي فإنه لا يتسع المقام لها شرحاً. ولكن انظر كيف قبل من المنافقين علانيتهم بينما هجر كعب بن مالك وصاحبيه خمسين يوماً وأمر بهجرهم تربية لهم وحملاً لأمثالهم على الثبات.

وانظر كيف عالج فتنة العصبية التي بدأها الجهجاه وسنان وأشعلها رأس المنافقين عبد الله بن أبي (وكان وجيهاً في قومه) فشغل الناس بالرحيل يوماً متصلاً حتى أجهدهم ليكفوا عن حديث الفتنة، ثم يحسن صحبة عبد الله بن أبي حتى يموت بل يعطي ثوبه ليكفن فيه بعد موته، وكذلك تلطفه مع حديثي العهد بالإسلام من قريش وشدة لومه لأسامة.

فما أروع هذه الدروس التربوية. كيف لا وهي النبوة أي اختيار الله ومؤازرته بالوحي. وللحديث بقية.

——–

(1) اشتريت الدابة التي ستركبها في سفرك.

(2) (ألقيتها في النار)

(3) اقتطفت هذه الفقرات من الحديث الطويل في الصحيحين والسير (فليراجع) .

(4) عبد الله بن أبي بضم الهمزة وتشديد الياء هو رأس المنافقين في المدينة.

(5) هو ابن عبد الله بن أبي المنافق وكان الإبن هذا صالحا حسن الإسلام فتأمل حسن معاملة النبي لهذا المنافق وأثر ذلك على ولده وعلى الناس الذين حوله.

(6) بمد الهمزة وضم النون جمع أنف والمقصود بها لغضب له ناس.

(7) ستأتي القصة إن شاء الله في فصل التربية بالحدود.