سليمان رشاد محمد
الخطبة الأولى:
الحمد للَّه الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنزل على عبده آيات بينات ليخرج بها الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد. وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، فجزاه الله خير ما يجزي نبيًّا عن أمته.
أما بعد: أيها المسلمون، إن الله سبحانه وتعالى أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم ليطاع وليتبع، وليتأسى به ويقتدى به، فقال عز من قائل: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون}، وقال جل جلاله: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}. وقال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}، وقال سبحانه: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله}، وقال: {من يطع الرسول فقد أطاع الله}، وغير ذلك كثير في القرآن يوجب على المسلم أن يطيع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلمفيما نهى. ذلك لأن الله أنزل عليه الكتاب وأمره أن يبينه ويوضحه ويشرحه للناس قولاً وعملاً، فقال سبحانه: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون}، فهو عليه الصلاة والسلام ترجمان الوحي والمبلغ عن رب العالمين، فلا سبيل إلى فهم كتاب الله إلا عن طريقه فهو جبت طاعته واتباع كل ما ثبت عنه على كل من ادعى الإيمان ودخل في حظيرة الإسلام. إن الله سبحانه وتعالى أمر في كتابه بالتطهر وأمر بالصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها من الفرائض والعبادات والأحكام، فكيف السبيل إلى معرفة كيفيات كل ذلك إلا بالرجوع إلى حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وبيانه لما أجمل القرآن.
فإذا أخذنا الصلاة على سبيل المثال فإنا نجد الرسول بين ما أجمل القرآن في قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة}، فبين كيفية التطهر لها، والأذان والإقامة، وعدد ركعات كل صلاة، وما يجهر فيها وما يسر، وما يقرأ فيها الفاتحة فقط وما يقرأ مع الفاتحة ما تيسر من القرآن وكيفية الركوع والسجود وعدد كل منهما، ويدعى ويسبح بها في كل حركة، وكيف يجبر النسيان بسجود السهو، وبين أيضًا أن الصلاة عماد الدين وأن من تركها لا حظ له في الإسلام، وأنه يخلد في النار مع فرعون وهامان وفارون وأبي بن خلف، وبين أن مثل الصلاة في تظهير القلوب وتزكية النفوس والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي كمثل نهر جارٍ أمام البيت يغتسل فيه صاحب البيت في اليوم والليلة خمس مرات، فهل يبقى على بدنه شيء من القذر؟ وفي الزكاة يقول ربنا: {وآتوا الزكاة}، ففصل رسولنا صلى الله عليه وسلم مقادير الزكاة في الذهب والفضة، ويكون في الأنعام والثمار والزروع وما يكون في التجارة، وما يخرج منها عندما يحصل وما يخرج منها بعد أن يحول الحول، ومقادير النصاب من كل نوع. وقل مثل ذلك في سائر الأحكام والعبادات، وليس بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا من عند نفسه؛ لأنه لا ينطق عن الهوى ولكنه وحي من الله سبحانه وتعالى. وقد قال رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه أوتي القرآن ومثله معه، وهو هذا البيان الذي فصل به مجمل القرآن وقيد مطلقه وخصص عامه.
أيها المسلمون: إن قومًا عجزوا عن تتبع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعمل بهديه وسنته، فقالوا: لا نأخذ ديننا إلا من القرآن ولا حاجة بنا إلى شيء من الحديث، لمثل هؤلاء يقول رسولنا عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام: “ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه، وما وجدنا فيه من حرامًا حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله”. وهكذا يقطع رسول الله السبيل على أعداء الحديث في كل زمان ومكان، ويبين في قوة وضوح أنه لا تعارض بين القرآن والحديث، وكيف يتعارضان والحديث إنما هو بيان وتفصيل لما في القرآن، فالقرآن هو الأصل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو تركة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة، كما قال أبي هريرة رضي اللَّه عنه، فقد روي أنه رضي اللَّه عنه دخل السوق يومًا فقال: “أراكم هاهنا وميراث محمد صلى الله عليه وسلم يقسم في المسجد، فذهبوا ثم عادوا فقالوا: ما رأينا شيئًا يقسم، رأينا قومًا يقرأون القرآن، قال: فذلكم ميراث نبيكم” فالأصل هو القرآن والحديث شرح له، ولا غنى لنا عن الشرح حتى نفهم الأصل، ولذلك كانت طاعة الرسول فريضة لا يمكن الإيمان مسلم أن يتحقق إلا بها، وقد كان أصحاب رسول الله أطوع الناس له، وأكثرهم انقيادًا له، وامتثالاً لأمره، وأشدهم اقتداءً وتأسيًا به، لأنهم هم الذين عرفوا مكانة الرسول وقدروه قدره، واقتدوه بأنفسهم ولم ينحرفوا عن سنته قيد شعرة، ولذلك يقول حذيفة رضي اللَّه عنه: كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فلا تعبدوها.
فكانوا هم النجوم من اقتدى بهم اهتدى، وكانوا هم الذين حملوا الرسالة إلى مشارق الأرض ومغاربها، رضي اللَّه عنهم وأرضاهم، وعن أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قوله: ” من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ” – أي مردود على صاحبه لا يقبله اللَّه – وقوله: ” لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به “. وقوله عليه الصلاة والسلام: ” من أحيي سنة من سنتي فقد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل أجر من عمل بها لا ينقص من أجورهم شيئًا، ومن ابتدع بدعة لا يرضى الله ورسوله فإن عليه إثم من عمل بها لا ينقص من آثامنهم شيئًا “، فكانوا رضوان الله عليهم أشداء على حرب البدعة شدتهم على إقامة السنة وكانوا سراعًا إلى الطاعة والاتباع لرسول الله، مقدرين شرف اصطفائهم لصحبته ونعمة توفيقهم للإسلام.
اللهم وفقنا لطاعتك وطاعة رسولك، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله أجمعين.
الخطبة الثانية:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، نحمده سبحانه وتعالى على سوابغ نعمه ومتتالى آلائه، لا نحصي ثناءً عليه ربنا هو كما أثنى على نفسه ونشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، ولا ند له، ولا كفؤ له، لا نعبد إلا إياه، ولا ندعو غيره ولا نسأل سواه، ونشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله الصادق الأمين القائل: الجنة لمن أطاعني ولو كان عبدًا حبشيًا، والنار لمن عصاني ولو كان حرًا قرشيًا صلى الله عليه وسلم وعلى آله أجمعين.
أيها المسلمون: إن الله سبحانه وتعالى، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، منح رسوله صلى الله عليه وسلم من صفوف التكريم وأنواع التشريف، ما تقصر الألسنة، وتكل الأفواه، وتعجز الأقلام عن وصفه وبيانه، ذلك أنه سبحانه وتعالى تولاه من يوم ولادته – بل من قبل ولادته – إلى يوم أن رفعه إلى الرفيق الأعلى، تولاه برعايته، وكلأه بحفظه وعنايته، وذلك مذكور في كتاب الله لمن تأمله وتلاه حق التلاوة، فقد أدبه الله فأحسن تأديبه، كما قال هو عليه الصلاة والسلام، ومدحه وقال: {وإنك لعلى خلق عظيم}، وشرح له صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، وشرفه فقربه ليلة المعراج حتى آراه آياته الكبرى، وأعطاه الكوثر، وسد جميع الطرق إلى الجنة إلا طريقه، وأنزل عليه كتابًا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يظل نوره يهدي إلى الصراط المستقيم حتى تقوم الساعة، وكلما ذكر اسمه الشريف في القرآن قرنه بالرسالة، ولم يذكره مجردًا من هذه الصفة الكريمة كما ذكر غيره من الرسل.
فقد ذكر اسمه الشريف خمس مرات في القرآن الكريم، مره باسم أحمد، وأربع مرات باسم محمد، فقال على لسان عيسى ابن مريم عليه السلام: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}، ويقول: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم}، {ما كان محمدًا أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله}، ويقول: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل}، كل ذلك تصريحًا، ويقول تلميحًا: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وعلى الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم}، ولا ينزل إلا على رسول، ثم ذكر في المواضع الأخرى من القرآن بصفة الرسالة والنبوة وذلك تشريفًا له وتكريمًا، ومن ذلك أنه سبحانه ما أقسم في كتابه إلا باسم إنسان واحد هو واحد الإنسانية عليه الصلاة والسلام، وفي هذا شرف عظيم ومقام رفيع جاه عريض، قال عبد الله بن عباس رضي اللَّه عنهما: “ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسًا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره”. وقد أقسم الله بكثير من خلقه كالشمس والقمر والنجوم والليل والنهار وغيرها لفتًا للأنظار لما أودع الله فيها من المنافع، وكذلك كان قسمه برسوله صلى الله عليه وسلم لفتًا من خلقه؛ ولكنا نهينا أن نحلف بغير الله؛ فالحلف بغيره بالنسبة إلينا شرك، كما قال رسولنا عليه الصلاة والسلام.
أيها المسلمون: إنما يريد الله بنا الخير فبين لنا مكانة رسوله عنده ليقودنا بذلك إلى طاعته وامتثال أمره واتباع ما جاء به، وشرح لنا رسولنا ذلك في كثير من أحاديثه الشريفة كقوله: “كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن أبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني دخل النار “. وقد بذل صلوات الله عليه وسلم من الجهود لإنقاذ الأمة من مزالق الشرك والكفر والضلال ما استحق به من الأمة أن تصلي وتسلم عليه اعترافًا لما ساق الله على يديه من الخير، يقول الله سبحانه وتعالى تنويهًا بفضله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}. تنزيهًا له عن النقص وإثباتًا لعصمته، ويقول عليه الصلاة والسلام: “إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حوله، جعل الفراش وهذه الدواب تقع فيها فجعل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها ” صلى الله عليك يا رسول الله المحبة والرحمة والعطف والحنان. اللهم وفقنا لطاعتك وطاعة رسولك حتى نرد عليه الحوض فنشرب شربة لا نظمأ بعدها أبدًا، ولا نطرد عنه مع الذين خالفوا وغيروا وبدلوا، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وأخذ الكفار والكافرين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.