للأستاذ الدكتور / أمين رضا
أستاذ جراحة العظام بكلية طب إسكندرية
يعيش المسلمون اليوم في خضم من التيارات المتضارة. وبعضهم – قليلو العلم وقليلو الإسلام – تائهون زائغو الفكر بين إسلامهم القديم وحضاراتهم الجديدة فهم ينظرون إلى ناحية فيرون الصواريخ التي تجوب الفضاء. وإخوانهم من بني الإنسان يسيرون على سطح القمر، وعلماء يقيسون حجم الذرة، ويصلون إلى أدق تركيباتها، ويفتتونها. وآخرون منهم ينقلون الصوت والصورة بل ودقات القلب وشهيق التنفس وزفيره عبر القارات، بل وعبر الفضاء وبين النجوم الأفلاك.
ثم ينظرون إلى جهة أخرى فيرون كتابًا قديمًا يقرأ عمره أربعة عشرة قرنًا طويلة قيل لهم إنه من عند الله، ولكنهم لم يحاولوا أن يتحققوا من ذلك، وقيل لهم أن لهم رسولاً اسمه محمد، ولكنهم لم يفكروا في أن يتعرفوا عليه. وكل ما يلمون به عن دينهم هو أنهم يلقبون أنفسهم مسلمين وأن في الإسلام أناسًا معممين، يفتون في بعض المسائل أحيانًا، ويقرأون على موتاهم أحيانًا أخرى وقد تكون لهم وظائف أخرى لا يعرفونها على وجه التحديد.
إن مثل هؤلاء الناس يحتاجون إلى ما يوضح الرؤية أمام أبصارهم، ويعيد صحوة بصائرهم حتى تخف الدهشة التي تستولى عليهم من الإنجازات العلمية، ويزيل الغشاوة التي تعميهم عن دينهم المنقذ لهم في الدنيا والآخرة.
إن جهلهم بجميع التيارات المتضاربة التي تحيط بهم يجعلهم غير قادرين على التمييز بين الطيب والخبيث، ولا بين الخير والشر. فهم لذلك – تساهلاً منهم – يعتنقون الجديد لا لشيء سوى أنه جديد، ويطرحون القديم لأنه قديم.
فلينظروا نظرة فاحصة للعلم الحديث الذي يبهرهم وللدين القديم الذي يطرحونه ظهريًا.
هذه الإنجازات العلمية التي يستحدثها الإنسان ما هي؟ ليست معجزات، فالمعجزة يعجز عنها الإنسان. وهذه الاختراعات العلمية التي قام بها الإنسان أنها نتيجة كشف البشر لقوانين الكون، ونتيجة استعمال السنن الطبيعية أحسن استعمال، وما فضل الإنسان في هذه الاكتشافات والاختراعات؟ أن الذي سن هذه القوانين الطبيعية هو الله الخالق المبدع المدبر للكون أحسن تدبير. وهو الله كذلك الذي علم الإنسان هذه القوانين وأمره أن يستعملها ويحمده عليها. هو الله الذي خلق الإنسان في حسن تقويم وخلق عقله الذي استعمله في الاكتشاف والاختراع. كما خلق في الإنسان صفة الفضول التي تجعله ميالاً للنظر في كل شيء، وصفة المثابرة التي تجعله يستمر في محاولاته حتى يصل إلى أهدافه. إذًا فإن الله هو الذي خلق العالم وسننه، وخلق كذلك العالم وعقله ونفسه. أي أن الله سبحانه وتعالى خلق العلم وجعله سرًا يكتشف وخلق العلماء وجعلهم الآلات التي تكشف هذا السر.
أما هذا الدين القديم الذي لا يريدون أن يتبعوا أحكامه لا لشيء سوى أنه قديم ما هو؟ ائن كانوا علماء حقًّا ألا يدرسون هذا الدين قبل أن يحكموا عليه بعدم صلاحيته لا لشيء إلا أنه قديم؟ كل مسلم يعرف بالدليل القاطع أن كتابه هو أثبت كتاب على الإطلاق. ثابت أنه من عند الله وثابت عدم تحريفه أو تغييره ولا قيد أنملة في جميع مراحل نقله بين الملك الذي حمل نصوصه لرسول الله وبين الرسول الكريم الذي تلاه على ملأ من صحابته الأفاضل، وبين هؤلاء الصحابة وأجيال المسلمين الذي تداولوا قراءة القرآن وحفظه وكتابته من لحظة نزوله حتى يومنا هذا. وتناولت هذه المداولة جميع طرق النقل الثابت في الصلاة، وفي الدراسة، وفي الكتابة، وفي التطبيق على أحوال المسلمين. مما يجعل ثابته وانتشاره وتداوله وتواتره شيئًا يستولى على العقول استيلاء ولا يحتاج إلى برهان أو تشكيك أو أي كلام يسمه أي مساس من قريب أو بعيد.
وقد كان نزول الإسلام في عصر كانت البشرية فيه تمر في فترة يسميها مؤخر الغرب – لا مؤرخو الشرق – عصور الظلام. فكانت جميع بلاد العلام لا يحكمها إلا الجهل والفوضى والتنازع والقوانين التي نسميها الآن قاون الغاب، وحكم القوي على الضعيف، أما جميع العلوم التي توصلت إليها البشرية من يوم أن بدأت تتعلم، وجميع الدراسات التي أنجزتها الأجيال تلو الأجيال، أصبحت كل هذه نسيًا منسيًا، كما أصبحت جميع الأديان السماوية التي سبقت الإسلام مبادئ يهزأ منها الناس، وأصبحت الوثنية والشرك والإلحاد وعبادة الشمس والقمر والنار والحجارة والأشخاص والحيوان هي الأديان المنتشرة انتشارًا يفوق انتشار الأديان السماوية المحرفة المموهة التي كان يتجنبها الناس.
نزل الإسلام في مثل هذا العالم الظالم الجاهل المظلم الملحد الكافر الصابئ، وكان لنزوله وقعًا شديدًا لا في مكان نزوله فقط، بل في جميع أنحاء العالم. ولا في النواحي الدينية والاجتماعية فقط، بل في جميع نواحي الحياة الثقافية والعلمية، ويعترف مؤرخو الغرب – لا مؤرخو الإسلام – أن الإسلام بعث العلوم من جديد، وهز الناس هزًا عنيفًا، فصحوا من نومهم الطويل، وأيقظ العقول من غفلتها فسارعت إلى العلوم الدنيوية مسارعتها للعلوم الدينية. وكان المسلمون يعتبرون العلوم الطبيعية جزءًا متممًا لدينهم.
لأن الإسلام كان يحثهم على العلم والتعلم. وكان للمسلمين – باعتراف مؤرخي الغرب – لا مؤرخي الإسلام – الفضل الكبير في المحافظة على تراث الإنسانية من العلوم السابقة لعصرهم. فدرسوها واستوعبوها وترجموها ونقلوها وسجلوها. كما كان لهم الفضل الكبير في تأسيس علوم حديثة كثيرة. ولا زلنا إلى الآن نرى تأثير المسلمين على هذه العلوم من نظريات توصلوا إليها وفي ألفاظ علمية عربية انتشرت في جميع لغات العالم لا في لغة المسلمين فقط.
لن ينقذ المسلمين من حيرتهم بين القديم والجديد إلا بعث مثل البعث الذي أنقذ البشرية في العصور المظلمة من أربعة عشر قرنًا. لن ينقذهم إلا رجوعهم عن موقفهم الحالي في نبذ القديم – والدين منه – واعتناق الجديد بدون تمييز ولا دراسة.
ادرسوا – إن كنتم علماء حقًا – كل قديم وكل جديد. واتبعوا الحق منهما. والإسلام كله حق. والعلم الحديث الثابت فيه حق كثير. وبذلك تتحقق لكم سعادة الدارين، طمأنينة في الدنيا، والسعادة الأبدية في الآخرة.