الاقتصاد الإسلامي مدخل ومنهاج (5)

بقلم الأستاذ الدكتور عيسى عبده

ولهذا المؤلف قيمته من غير شك .. وإن كان محاولة لوصف الدخل والإيراد القومي وما كان من الميسور في زمن آدم سميث أن يتعرض كاتب أو عالم أو باحث لثروة الأمم بمفهومها المعاصر .. على أن “آدم سميث” أضاف شيئًا إلى جملة المسلمات في هذه الدراسة. ومن ذلك أنه اتخذ منهجًا علميًا للبحث في القيمة وصلتها بالحوافز الإنسانية في موازنات لا ينقصها منطق ولا وضوح .. فهو يزن الحافز إلى اقتناء الشيء في مقابل التضحيات التي لا بد منها لإنتاج هذا الشيء (أما يعرف بتكلفة الإنتاج) ويصف الدور الذي تؤديه بالتكلفة في تحويل هذا بالحوافز واتخاذ الفرد سلوكًا ظاهريًا يدخل في مجال هذه الدراسة .. كان يقبل المستهلك على الشراء وكان يقبل المنتج على الإنتاج.

وقد يقال بحق إن هذا الذي ينسب إلى آدم سميث قد سبقه إليه غيره. ومنهم الطبيعيون وهاريس وكانتيون ولوك .. هذا صحيح .. ولكن الوضوح الذي عرضه به آدم سميث ما وصل إليه من نتائج .. جعل هذه الجزئية الهامة في دراسة القيمة من مآثره على الاقتصاد.

وفي واحد آخر من الميادين التي ارتادها الطبيعيون .. جاء آدم سميث ليزيد الأمر وضوحًا وهو ميدان تكرر البحث فيه وتفاقم الخلاف .. وهو ميدان البحث في جدوى تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي.

بدأ الطبيعيون بالتحامل على وفرة القيود التي ورثها المجتمع عن التجاريين وبهذا مهدوا لحرية النشاط الاقتصادي وحذروا من تدخل الحكومة إلا بمقدار وجاء آدم سميث ليقرر بأن الحكومة تسيء إلى المجتمع بالتدخل في التجارة ويلاحظ أنه إلى هذا الوقت الذي عاش فيه آدم سميث (أواخر القرن الثامن عشر) كانت التجارة هي الرمز الذي لا يخطئ للنشاط الاقتصادي الكبير (مع التحفظ بشأن الزراعة في نظر الطبيعيين). إذن حين يقول آدم سميث بأن الحكومة تضر بالاقتصاد بالتدخل في التجارة فقد تابع الطبيعيين فيما أثاروه من نزعة إلى حرية النشاط بفروعه وزاد آدم سميث هذا الأمر تفصيلاً حين قال بأن الفرد قد يطمع وقد يظلم المجتمع بما يذهب إليه من المبالغة في تحقيق المصلحة الخاصة ولكن الحكمة (في تقدير آدم سميث)، وإن اجتمعت لها أسباب الإخلاص وحسن الطوية لا تستطيع أن تخدم المجتمع بتدخلها في النشاط الاقتصادي إلا عند مستويات أدنى من نظارها في ظل حرية الفرد مهما تدلى هذا الفرد في المادية .. عرف هذا القول عن آدم سميث وعنيت به المدرسة الألمانية فيما بعد إلى حد أن هذه الموازنة بالذات قد أصبحت عند الإمام ملمحًا خاصًا بميز آدم سميث عن غيره من مؤسسي الاقتصاد الحديث.

ومرة أخرى نقول بأن مان ادى به آدم سميث وزاد قضية التدخل في النشاط الاقتصادي عمقًا وتعقيدًا مرة أخرى نقول بأن الأمر عندنا مستقر وغير قابل للجدل عنه قوم يوقنون ففي تراثنا نصوص، وفي المتون والشروح كنوز، ومن ذلك ما كتبه (ابن خلدون) قبل آدم سميث بأربعمائة عام، وفي المقدمة حين قال: “فصل في أن تدخل السلطان في التجارة مفسدة للأرزاق مضرة بالجباية”، والفرق بين ما سبق إليه العالم المسلم وبين أقوال غيره من كتاب الاقتصاد الوضعي هو أن ابن خلدون يستقي من مصادر لا تتحول (هي الكتاب والسنة)، وكذلك كانت الحال مع فقهاء المسلمين الذين سبقوا ابن خلدون ومحل النظر هنا أن الاستقرار عامل جوهري في تحقيق العدالة والأمن ولكنه لا يزال بعيد المنال في كل مجتمع يفصل بين الدين والنشاط والاقتصادي.

وبجهود آدم سميث اتسعت آفام الدراسات الاقتصادية وتشعبت بحيث أنه من العسير أن يتقصور الباحث قدرة فرد واحد على أن يحيط بكل ما أراد أن يحيط به فكان يلمح الأمر ثم يهمله أو ينساه .. في تقدير المؤرخين من بعد أنه أثار أمورًا ربما لم يكن في وسعه أن يقدر مداها وربما كانت لعهده سابقة لأوانها كدور النقود في جملة الدراسات الاقتصادية.

ولئن كان بعض الذي قال به آدم سميث لا يعتبر اختراعًا من عنده ولا كشفًا بل يعتبر مما يدركه المواطن العادي بالفطرة السليمة إلا أنه مع ذلك وضع الأسس القادرة على أن ترفع من بعده صروحًا ضخمة توالت وهي المدارس الأقرب إلى مفهوم العلم وضوابطه.